للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

المعادلة الدولية في البوسنة

وسياسة الترويض على الذل..!

بقلم: عبد العزيز كامل

جسد وزير الإعلام الصربي حقيقة الصراع في البوسنة عندما قال: (إن

الصرب في معاركهم في البوسنة، إنما يمثلون طليعة الحرب الصليبية الأخيرة

لاستئصال شأفة الإسلام) !

فهل حقّاً بدأت الحرب الصليبية (الأخيرة) ؟ !

إن هذا ما تنطوي عليه دعوات عديدة تنطلق من أبواق الدعاية الإنجيلية

المتنامية النفوذ في الآلة الإعلامية الغربية، هي بدأت أو على وشك البدء ليس في

البوسنة فقط، بل في أماكن متفرقة من العالم.

الساسة يصادقون على حتمية بدء هذا الصراع، فقد سبق للرئيس الأمريكي

الأسبق (ريتشارد نيكسون) ، ورئيسة الوزراء البريطانية السابقة (مارجريت تاتشر) ، و (هارفارد صمويل هانتجتون) أن دعوا إلى مواجهة خطر الإسلام تحت مسمى

(الأصولية) .

والعسكريون يضربون على الوتر نفسه، ويحذرون من الخطر ذاته.. حتى

إن أكبر مؤسسة عسكرية للغرب تتحدث عن ذلك بلسان فصيح؛ يعبر عنه المستر

(ويلي كلايس) الأمين العام لحلف شمال الأطلسي (الناتو) عندما قال: (إن حركات

الإسلام السياسي، باتت تشكل خطراً على الأمن الأوروبي بعد انتهاء الاتحاد

السوفيتي، لأنها تتخذ من أوروبا والحضارة الغربية العدو رقم واحد، كما أنها

تعتمد العنف والتطرف منهاجاً مفضلاً في تعاملها مع الآخرين!) وأضاف: (إنه

لابد من مواجهة هذا الخطر القادم بما يناسبه من الاستعداد) ، ثم اقترح خطة من

شقين لمواجهة خطر الجماعات الإسلامية:

أولهما: أن يقدم الحلف للحكومات التي تعاني من هذا الخطر فوق أراضيها

كل المساعدات العسكرية اللازمة لتمكينها مباشرة وبشكل فاعل من التعامل معه

والقضاء عليه.

والثاني: يتمثل في تشكيل حلف دفاعي (أوروبي أمريكي) بالاشتراك مع

الدول المعرّضة للخطر الأصولي، بحيث يكون الحلف مستعدّاً للتدخل العسكري

المباشر في أي بلد قد تنجح حركات الإسلام السياسي في الاستيلاء على الحكم فيه) ، وهذه التصريحات مشهورة، وقد نشرت في الجرائد في حينها في ١٨/٤/١٩٩٥.

إن مثل هذه التصريحات سواء على لسان الإعلاميين، أو السياسيين، أو

العسكريين الغربيين، لترُدّ في مفهومها ومنطوقها على تهمتي (التهييج السياسي)

و (التسطيح الإعلامي) التي طالما يُعمَز بهما المحذّرون من الأخطار المحدقة بالأمة.

وكما أن للقوى النصرانية المهيمنة على الغرب هذا الموقف المبدئي والثابت

من الإسلام، الذي أطلقوا عليه اسم (الأصولية!) ، فإن لبقايا القوى الشيوعية

موقفاً مشابهاً من الإسلام، الذي كانوا يطلقون عليه وصف (الرجعية!) .

ونعود للبوسنة..

الحكومة البوسنية حكومة أصولية في نظر الغرب والشرق، وإن قالت إنها

(ديمقراطية) ، ورئيسها (علي عزت بيجوفيتش) أصولي مهما تحدث عن انتمائه

الأوروبي وإيمانه بالتعددية، ولو تحدث عن غير ذلك حاكموه إلى كتابه (البيان

الإسلامي) الذي أُدخل من أجله السجن سنين طويلة.

والأوروبيون لا يحبون كما قال (ميتران) الرئيس السابق لفرنسا أن يروا دولة

إسلامية في قلب أوروبا، فما الحال إذا كانت تنتظرهم (دولة أصولية!) ؟ كأنهم لا

يريدون تعكير (الصفاء الروحي) و (الانسجام التاريخي) بين الطوائف المسيحية

الثلاث (الكاثوليكية، الأرثوذكسية، والبروتستانتية) التي لم يكن الإسلام سبباً في

نشوب المعارك الطاحنة التي دارت بينها عبر التاريخ، أما زرع دويلة يهودية أو

نصرانية صغيرة وسط طوفان من الشعوب الإسلامية الكبيرة لتكون بؤرة توتر

وعامل صراع ونزاع، فإن هذا لا يقلق الضمير المسيحي الحي!

الدعاية الصربية تركز على هذه الخلفية للصراع، وتسعى لتثبيت قناعة

الغرب، بأنها تقاتل نيابة عنهم لمنع قيام قوة أصولية في أوروبا، وأمريكا لا تريد

أيضاً أن تكون مثل هذه الدولة في جوار حلفها الاستراتيجي.

والغربيون كما علمتنا الأحداث يتعاملون دائماً مع الخطر المتوقع قبل أن

يتحول إلى خطر واقع، وهذه الخلفية الدينية للصراع تتداخل معها خلفيات تاريخية

لها علاقة بمطامع ومطامح معاصرة للدول المعنية بذلك الصراع في البلقان؛

فالموقف الغربي الذي تمثله الآن إنجلترا وفرنسا وأمريكا وألمانيا يرتكز على

المعطيات التالية:

١- الغرب ساعد في سقوط وتفكيك الاتحاد اليوغسلافي السابق، الذي كان

رأس حربه يستعملها الشيوعيون في أوروبا الشرقية ضد بقية الغرب؛ فسقوط هذا

الاتحاد مصلحة للغرب.

٢- سيكون من مصلحة الغرب بصفة أشمل، لو قام على أنقاض الكيان

الشيوعي السابق كيان ليبرالي ديمقراطي، تحت مسمى آخر، وليكن الاتحاد

الصربي، أو صربيا الكبرى، وهذه هي الصورة التي تطرحها الحكومة الصربية

نفسها فعلاً، ولا بأس بأن يقوم بجوارها (الاتحاد الكرواتي) أو (كرواتيا الكبرى) ،

الليبرالية الديمقراطية.

٣- إن قيام دولة إسلامية في هذا الموقع من أوروبا يمكن أن يهدد هذا الهدف

في المستقبل.

هذا ما يجمع بين مواقف الدول الغربية بصفة عامة، أما بخصوص فرنسا

وإنجلترا: فيضاف إلى ذلك أنه من الناحية التاريخية كان الصرب دائماً الحلفاء

التقليديين لكل منهما أيام ماضيهما الاستعماري القديم، وقد آن الأوان لكي يفوا

بالجميل، ويقفوا مع الصرب في حاضرهم الاستعماري الحديث، والصرب أيضاً

كانوا حلفاء لهما في الحرب العالمية الثانية، أما ألمانيا: فقد عانت من موقف

الصرب المعادي لها أثناء تلك الحرب، ولهذا اختارت الوقوف بشكل جوهري مع

الكروات، وبشكل مظهري مع المسلمين.

أما الروس: فإن موقفهم يرتكز أيضاً على معطيات، من أهمها:

١- سقوط يوغسلافيا السابقة كان نذير شؤم لهم وللقوى الشيوعية كلها؛ لأنها

كانت تمثل رديفهم العسكري وسوقهم الاقتصادي في أوروبا.

٢- إذا كانت الرابطة الشيوعية قد انحلت بسقوط الاتحادين السوفيتي

واليوغسلافي، فلا بأس بالرابطة الأرثوذكسية بين الاتحاد الروسي والاتحاد

الصربي، وأن تستخدم المطرقة والمنجل الشيوعيان في الطرق على الناقوس

النصراني في كل من (موسكو) و (بلجراد) .

٣- وعليه: فإن قيام كيان قوي جديد على أنقاض يوغسلافيا السابقة، له

علاقات متينة مع الروس، سيكون تعويضاً لهم عما افتقدوه بسقوط الكيان السابق.

وتأتي مواقف الأمم المتحدة لتتفرع عن هذه المرتكزات الغربية والروسية في

سياساتها تجاه البوسنة، خاصة وأن (الأمين جدّاً) فيها: أرثوذكسي.

وعلى هذا: فإن كلاً من الأطراف المعنية بالصراع، تريد أن يظل الكيان

النصراني القوي رابضاً بجوار العدوة القديمة المشتركة: الأمة التركية المسلمة

المنوّمة، ليحول دون يقظتها، التي قد تستيقظ بها الأمجاد الإسلامية، لا في أوروبا

وحدها، بل في العالم أجمع.

لعل هذه أصول القضية وخلفياتها الأساسية، وبعد معرفتها.. فإن الباقي كله

تفاصيل.. تفاصيل مرحلية للوصول إلى الأهداف النهائية؛ فما نشاهده، وما

نسمعه، وما نلمسه حولنا.. كله من التفاصيل.

وحتى لا نغيّب في التفاصيل كما هو حالنا في الغالب ينبغي أن نضعها في

سياقها، ولا ننسى الأصول أو الخطوط العريضة المتفق عليها، وهذا لا يمنع

بطبيعة الحال من وجود الاختلافات والنزاعات بين الأطراف المتواطئة.

ولا بأس أن نذكر بأبرز التفاصيل التي تبدو الآن في سياقها، من كل أطراف

(اللعبة) الدولية:

* تبدأ صربيا الحرب في كل يوغسلافيا بهدف إعلان جمهورية (صربيا

الكبرى) ، وتدعم العرقيات الصربية، وتساعدها على الانفصال عن بقية

الجمهوريات، ويحتل صرب البوسنة (٧٠%) من أراضي البوسنة، ويحتل صرب

كرواتيا (٣٠%) من أراضي (كرواتيا) المعارضة لقيام صربيا الكبرى.

* الأمم المتحدة تُصْدر ما يزيد عن ٦٠ قراراً، يدوس الصرب عليها كلها،

وتقرر الأمم المتحدة حظر تصدير السلاح إلى الأطراف المتحاربة، ثم لا يطبق ذلك

الحظر إلا على البوسنة، بحجة أن رفع الحظر عنها سيطيل من الحرب. وتعلن

لكل الأمم حمايتها لست مناطق في البوسنة وتعتبرها (ملاذات آمنة) وهي

(سربرينيتسا، وجوراجدي، وبيهاتش، وتوزلا، وسراييفو) ثم تنزع سلاحها، مع

بقاء خمسة منها تحت حصار شامل من الصرب، ثم تحاول إقناع العالم بأن حماية

تلك المناطق عسكريّاً من الصرب سيحتاج إلى ربع مليون جندي.

* وتدور الكثير من أحداث مأساة البوسنة في الصراع مع الحصار الجائر من

الصرب، والحظر الظالم من (الأسرة الدولية) ، ويستمر الحصار أكثر من ثلاث

سنوات نتج عنها نزوح مليونين وثلاثمئة ألف بوسني أي نصف السكان

وتشريد ٨٠٠ ألف بوسني، وتوزيعهم على أكثر من ٣٠ دولة، واغتصاب ما يقدّر بعشرين ألف امرأة بوسنية معظمهن من القصر، وفقْد ١٢ ألف رجل مسلم معظمهم دون الشباب، مع الاعتقاد بأن أكثرهم قتل في عمليات إعدام جماعية. وعبر عمليات (التطهير العرقي) يطول البلاء الصربي ٤٠٠ قرية، و٢٢ مدينة، تمت تسويتها بالأرض بواسطة الجرارات بعد عمليات النزوح.

* وتتدفق المعلومات والحقائق والبيانات عن المأساة بين يدي دعاة حقوق

الإنسان، بل إن لدى مراقب حقوق الإنسان ومبعوث الأمم المتحدة في يوغسلافيا

السابقة ما يزيد على مليون وثيقة رسمية تشمل آلاف الشكاوى الشخصية من

الضحايا البوسنية، ومع هذا لا تتحرك إرادة (الأسرة) الدولية لتمكين المعتدى عليه

من الدفاع عن نفسه، فضلاً عن أن يدافعوا عنه.

* ينسق حلف الأطلسي مع الأمم المتحدة مسرحية الضربات الجوية ضد

القوات الصربية إذا هُددت الملاذات الآمنة، ويقوم فعلاً ببعض الغارات (السينمائية)

بعد أن تعطي الأمم المتحدة الصرب المعلومات المسبقة عن زمان ومكان القصف

لتخلي الأرض من تحته؛ فلا تحدث خسائر في الأرواح الصربية الغالية! ، ولا

العتاد الصربي النفيس! ، ومع ذلك تنفذ تمثيلية (الرهائن) لتجسد هيبة الصرب

وخيبة الأمم المتحدة، وبقاء سلطان روسيا التي أطلقت الرهائن من جنود الأمم

المتحدة.

* يحاول البوسنيون تشكيل قوة عسكرية بجهودهم الذاتية رغم الحصار

والحظر لفك قبضة الصرب من حول عنق (سراييفو) ولكن مبعوث الأمم المتحدة

(يوسي أكاشي) يحذر، و (بطرس) يحذر ... كل هذا من التفاصيل.

* ومن التفاصيل أيضاً: مواقف الدول العربية والإسلامية وقراراتها وإداناتها

وشجبها ومشاعرها الرقيقة..! ثم تقع كارثة سقوط (سربرينيتسا) في يد الصرب،

ثم تتلاحق وقائع سقوط (كرايينا) في يد الكروات، فهل تختلف الواقعتان رغم

كونهما من التفاصيل عن السياق الأصلي لمجمل الحدث البوسني؟ أبداً..!

أولاً: سقوط (سربرينيتسا) وما يعنيه بالنسبة للملاذات الآمنة الأخرى: عندما

هاجم الصرب مدينة (سربرينيتسا) أول مرة عام ١٩٩٣م، وطلبت الأمم المتحدة

وقف القتال، اشترط الصرب نزع سلاح البوسنيين هناك، ووافقت الأمم المتحدة،

وأعلنتها منطقة آمنة تحت حمايتها في أواخر شهر إبريل ١٩٩٣م، مما دفع الآلاف

من سكان المناطق المجاورة (غير الآمنة) إلى أن تلوذ بها، فزاد عدد سكانها من

(٣٧٠. ٢١١) نسمة إلى حوالي خمسين ألف نسمة، وبعد أن جُردت المدينة من

السلاح، واستلمته قوات الأمم المتحدة، ورحلت المدافعين عنها، انسحبت تلك

القوات تاركة قوة هولندية للدفاع عنها، حتى إذا جاء يوم الهجوم الصربي على

الملاذ (الآمن) ، هربت القوة الهولندية لتتركها فريسة سهلة لجيش همجي مدجج

بالسلاح، معبأ بالحقد والشر، وسقطت (سربرينيتسا) في ١١/٧/١٩٩٥م، أو

بالأحرى: سلمتها الأمم المتحدة للصرب الذين قاموا بعد اجتياحها الأهوج بتصفية

المسلمين الذكور الذين تجاوزوا الحادية عشرة، واغتصاب الفتيات، وتشريد

الأمهات بطردهن خارج المدينة المنكوبة.

وأُتبعت هذه المأساة البوسنية، بملهاة دولية، وبدأ المجتمع الدولي في تبادر

الأدوار (الهزلية) على خشبة المسرح العالمي:

فقد قال (جاك شيراك) بعد سقوط (سربرينيتسا) : (على الحلفاء أن يعملوا

لاستعادة (سربرينيتسا) من أيدي الصرب) ثم عاد فقال: (على الأمم المتحدة [بعد

ضياع المدينة] أن تركز على حماية المناطق الآمنة الخمس الباقية) . يعني: دعونا

مما مضى..!

أما بريطانيا: فإنها قد أعلنت مع بدء الهجوم الصربي أنها لن تسمح بسقوط

المدينة، وبعد أن سقطت دعت إلى (الواقعية) في التعامل مع الأمر، وعابت على

فرنسا دعوتها الأولى للتحرك العسكري لإعادة المدينة، وقال وزير خارجيتها

(مالكولم ريفكند) (اليهودي) : (إذا كان الفرنسيون يريدون عملاً عسكريّاً، فليتفضلوا

بجنودهم، أما نحن فندخر جنودنا لما هو أكثر أهمية) ! ! ثم دعت بريطانيا بعد ذلك

إلى الاهتمام بحماية الملاذات الأربعة (وليس الخمسة) من المناطق الآمنة

الباقية..! ! أي: إنها صدّقت مقدماً على ابتلاع الصرب للمنطقة المرشحة بعد (سربرينيتسا) .

والرئيس الأمريكي دعا أيضاً إلى استعادة (سربرينيتسا) بعد أن سقطت،

ولكن أحد مستشاريه صرح بعد ذلك بأن الرئيس ربما أخطأ في التعبير بسبب

الارتباك! ، والولايات المتحدة لا يمكن أن تدعو إلى شيء لا تستطيع المشاركة فيه

عمليّاً.! ثم يصدر مجلس الشيوخ الأمريكي قراراً برفع الحظر عن السلاح

للبوسنة ... ولكن الرئيس الأمريكي بعد أيام يقول: (إنه سيعارض القرار) .

وفي نهاية المطاف: ينعقد (مؤتمر لندن) بدعوة من بريطانيا، لتجتمع فيه

الأطراف وتستمع بإيضاح إلى (أندريه كوزيريف) وهو يبرر ويعلل وجهة النظر

(البريئة) للصرب في اقتحامهم ل (سربرينيتسا) ، وتهديدهم لكل من (جيبا)

و (جوراجدي) بعدها.

ويبدو أن المؤتمرين صادقوا ببراءة أيضاً على هذا التبرير، فانفض المؤتمر

بعد إسدال الستار دون إصدار أي قرار.

ومع كل هذا تسأل عن رد فعل على مستوى الأمة قوي عملي واحد، فلا

تسمع، ولا تحسب، ولا تدري، فهل أثمرت سياسة الترويض؟ !

ثانياً: سقوط (كرايينا) في أيدي الكروات: في الوقت الذي ظهر فيه أثر

حظر السلاح على البوسنيين المسلمين بسقوط (سربرينيتسا) ، ظهرت أيضاً آثار

السماح للكروات الكاثوليكيين باستيراد وشراء السلاح، فالعملية التي قامت بها

حكومة زغرب لاسترداد أراضيها التي كانت قد استولى عليها الصرب، لابد وأنها

كانت تحتاج إلى فترة كافية من البناء العسكري القوي، والذي دلت عليه بوضوح

قدرات الكروات العسكرية الفائقة التي استطاعوا بها أن يحققوا انتصارات سريعة

أدهشت العالم، ليس لأن الكروات شجعان والمسلمون جبناء، ولكن لأن الكروات

سُلّحوا والمسلمين جُرّدوا، على الرغم من أن كلاً منهما يُطبق عليه (دوليّاً) الحظر

الدولي لاستيراد السلاح، فمن أين إذن سلحت كرواتيا نفسها..؟

حتى عام ١٩٩١م لم يكن لدى كرواتيا جيش نظامي، ولم تكن لدى الميلشيا

المقاتلة في ظل الحظر إلا بعض الأسلحة الخفيفة، وقد ظهر ضعف قواتها في

المواجهات السابقة.

ومنذ ذلك الحين، بدأت كرواتيا الاستعداد لمعركة تحرر فيها (٣٠%) من

أراضيها التي احتلها الانفصاليون الصرب.

وبعد ثلاث سنوات نسمع عن أن كرواتيا أعدت جيشاً من مئة ألف مقاتل

مسلحين بمختلف الأسلحة الخفيفة والثقيلة لاقتحام (كرايينا) ، بما في ذلك الدبابات

والمدافع الثقيلة والطائرات، وظهر أن كرواتيا حصلت خلال العامين الماضيين

على الألغام الأرضية والدبابات والطائرات من دول مختلفة من بينها فرنسا، وأقيم

عرض عسكري في زغرب قبل المعارك الأخيرة لإظهار متانة بناء الجيش

الكرواتي، ويكشف رئيس الوزراء الكرواتي السر، فيصف شراء السلاح من

الدول الغربية بأنه كان من (سوق مفتوح) !

ولهذا استطاع الكروات السيطرة على مدينة (كنين) بعد ٣٠ ساعة من بدء

الهجوم على كرايينا، وفر الصرب الكروات من الأرض التي كانوا يعدونها رمز

الكبرياء الصربي عبر التاريخ، ويتحقق أول انتصار على الصرب الذين أهانوا

المسلمين، ولكن بغير أيدي المسلمين حتى لا يعيد فيهم الروح، وحتى لا يملكوا

توظيفه فيما بعد.

ويبقى الزمام على كل حال بيد الغرب الذين يبدو أنهم أعطوا الضوء الأخضر

للكروات لكي يسووا مشكلتهم.

وتبقى (سراييفو) وأخواتها وحدهم خاضعين للحظر الدولي الصارم على شراء

السلاح، محرومين من الانتصار لكرامتهم أو الدفاع عن مجرد بقائهم.

وبما أن أبعاد اللعبة وتفاصيلها باتت ظاهرة بوضوح مفضوح، فعلينا أن

نتذكر أن في الجريمة التي لم تتم فصولاً لم تبدأ، في كل من (ألبانيا) و (كوسوفو)

و (الجبل الأسود) و (مقدونيا) ، وربما تنشأ مؤامرات مشابهة في أماكن مختلفة من

العالم ضد المسلمين، قد يحتاج الأعداء فيها إلى ترويض أمتنا على الذل وتدريبها

على الخنوع وتعويدها على اليأس، لتظل ساكنة أثناء التفرد بالضحية تلو الضحية.

إن المشوار طويل أمام من يريدون الحيلولة بين الأمة وبين استمرار هذا

الترويض، ومع طول الطريق، فهناك من يُلقون الأحجار على جادته، وعلى

هؤلاء نخشى أن يكونوا أطرافاً في (اللعبة) الدولية، لا ضد الدولة البوسنية فحسب، بل ضد الأمة الإسلامية.

والانتصار على الصرب، بل على الغرب، ليس مستحيلاً مع أمة تلتجئ إلى

الله (تعالى) وحده، وتسعى بجد في موالاة المؤمنين ومعاداة الكافرين، أمة يخاطبها

ربها من فوق سبع سماوات بقوله: [وَمَن يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإنَّ

حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الغَالِبُونَ (٥٦) يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً

وَلَعِباً مِّنَ الَذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ]

[المائدة: ٥٦، ٥٧] .