[القرابين البشرية]
د. يوسف بن صالح الصغير (*)
عندما نبحث عن شيء يجتمع فيه الذكاء والغباء مع طهارة الشعار الممزوج بعهر الاختيار فإن أول ما يتبادر إلى الذهن ويخطر على البال شعارُ الحرب على الإرهاب، الذي تجاوز شعارات نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان في الطرح السياسي الأمريكي، إنه شعار برّاق فيه جاذبية، وسيلته الحرب التي توحي بالقوة، وهدفه تخليص العالم من الشرِّ المتمثِّل برموز الإرهاب وأدواته.
وحيث إن الإرهاب لم يتم تعريفه فإنه يمكن تصوّر المقصود باستقراء الأحداث والمواقف الجارية التي تؤدي إلى أن الإرهاب المقصود هو كل فكر أو سياسة أو ممارسة تؤدي ـ أو يمكن أن تؤدي ـ إلى التأثير السلبي على الهيمنة الأمريكية، ولذا نجد أن الأهداف المختارة في هذه الحرب تشمل المصحف الشريف بتدنيسه، والمسلم العفيف بإذلاله جنسياً في (أبو غريب وغوانتنامو وباجرام) ، وتشمل ـ أيضاً ـ تتبّع المناهج التعليمية وتعديلها، وتحجيم المدارس والجامعات الإسلامية بل وتدميرها.
لقد وضعت السياسة الأمريكية دول العالم الإسلامي أمام خيارات تنحصر في أن يتمَّ إرجاعها إلى العصر الحجري على يد سيدة العالم، أو الدخول في عملية تدمير ذاتية بجرِّ الحكومات إلى صراعات داخلية لا نهاية لها. إنها سياسة أذكى ما فيها هو السلاح.
إذا كان السودان قد حسم أمره بعدم الخضوع والسماح للقوات الدولية باحتلال السودان فإن اليمن قد بدأ يعي مخاطر الدخول في صراع داخلي بتوجيهات أمريكية، ولذا سارع بتبرئة من اعتُقلوا بتُهم التخطيط لمهاجمة أهداف أمريكية في اليمن، فقد تمَّ اعتقالهم ضمن سياسة تقديم القرابين البشرية التي تستمتع بها الإدارة الحالية في البيت الأبيض.
أما باكستان فإنها تقدِّم مثالاً حيّاً للطغيان الأمريكي والخضوع الإسلامي وآثاره الكارثية على الجانبين؛ فمع التهديد الصريح لباكستان، ومسايرة الحكومة الباكستانية لهذا الهوس الأمريكي بالقرابين البشرية، وقيامها ببيع أمريكا مئات المعتقلين عشوائياً حتى امتلأت بهم معتقلات (غوانتنامو وباجرام) والسجون السرية حول العالم؛ فقد وقعت أمريكا في مشكلة أن آلاف المعتقلين دون أدلة أو تُهم قد أصبحوا حقاً ـ بعد سنوات من الاعتقال ظلماً ـ أعداءً حقيقيين لأمريكا، وأصبح إطلاق سراحهم يمثل خطراً على الأمن القومي، أما إبقاؤهم دون محاكمة فإنه يعري العدالة الأمريكية المزعومة.
لقد مثلت هذه المسايرة الباكستانية بداية لابتزاز أمريكي متواصل تجاوز إلى محاولة جرِّ الحكومة إلى صراع داخلي؛ من استهداف للمدارس الإسلامية، إلى سحب للجيش الباكستاني من الحدود الهندية إلى مناطق القبائل ودخوله في صراع دموي ستكون نتيجته سقوط الحكومة أو تفكّك باكستان. ولذا نجد أن قادة الحكومة يصرّحون أن تصرّفاتهم محكومة بدرجة التهديد الأمريكي، وأنّ كل ما قاموا به وما سيقومون به هو مجرد تنفيذ لرغبات أمريكية، فقد نقلت صحيفة (دون) الباكستانية عن وزير الخارجية (خورشيد محمود قصوري) قوله: «تأييدنا للولايات المتحدة أمر إلزامي لم يكن اختيارياً، ولو كانت باكستان أبدت موقفاً غير متعاون مع الولايات المتحدة في الحرب على الإرهاب كان يمكن أن تتحول البلاد إلى حالة مشابهة لما يحدث في العراق» .
لقد تجاوز الأمر القيام بأعمال لا تخدم مصلحة باكستان إلى اقتراف جرائم بشعة وتبنِّيها وتبرئة أمريكا من أيِّ دور مباشر فيها، فقد تواردت الأنباء بقيام الجيش الباكستاني بعملية برّية وجوّية استهدفت مركز تدريب للمتطرفين ـ كما زعموا ـ ومقتل عشرات المسلّحين ثم تبين أن العملية قامت بها طائرة من طراز (أباتشي) عن طريق صواريخ موجهة (ذكية) .
ومع اتهام المعارضة لأمريكا بتنفيذ العملية سارع الناطق باسم الجيش الباكستاني بنفي اشتراك قوات أمريكية في الهجوم، ثم اعترف ناطق عسكري باكستاني أن الجيش استعمل معلومات استخباراتية أمدّته بها قوات الاحتلال التي تعمل تحت قيادة الولايات المتحدة الأمريكية في أفغانستان.
وما لم يجب عنه الناطق هو: منذ متى تملك باكستان طائرات (الأباتشي) ؟ وهل تمَّ التأكد من صدقيّة المعلومات الأمريكية؟ وإذا كانت الجثث لمسلّحين فلماذا لم يتم التحفّظ عليها وعرضها مع متعلّقاتها من السلاح إعلامياً؟ ولماذا تُرك أمر التكفين والدفن لأهالي المنطقة مع غياب تامٍّ للقوات التي قامت بالهجوم البرّي المزعوم.
إن ما شاهدناه هو مصاحف ممزّقة وجثث بعضها لأحداثٍٍ صغار السِّنّ.
إن قيام الحكومة بالسماح لأمريكا بضرب مدرسة وقتل ما يقارب المئة من طلبة العلم الشرعي أمرٌ شنيع، وقيام الحكومة الباكستانية بتبنِّي هذه الجريمة أو القيام بها نيابة عن الأمريكان أمرٌ أكثر شناعة. وما أنا متأكد منه أن مبدأ طلب رضا أمريكا سيجرّ إلى مزيد من التجاوزات والجرائم، فأمريكا لم تعد ترضيها القرابين الحيّة، بل تجاوزتها إلى القرابين الميتة؛ تطبيقاً للحكمة الغربية أن المسلم الطيب هو الميت.
ونذكّر كل صاحب سلطة تجاوز الحدود بالظلم وسفك الدماء المسلمة البريئة التي عصمها الله بقوله # في الحديث القدسي: «من عادى لي وليّاً فقد آذنته بالحرب» ، فلهم أن يختاروا بين حرب البشر وحرب الله.
(*) أستاذ مساعد في كلية الهندسة، جامعة الملك سعود، الرياض.