للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

[الغزو الثاني للعراق.. قتال في الفلوجة]

حسن الرشيدي

«إن انتقامنا سيكون منهجياً وسيكون دقيقاً وسيكون ساحقاً» هذا قول العميد

«مارك كيميت» المتحدث الرسمي للجيش الأمريكي في العراق في مؤتمر صحفي

له بعد الحادثة التي وقعت في «الفلوجة» التي قامت فيها المقاومة العراقية بتدمير

سيارة كانت تقل أربعة من الأمريكيين، وبعدها قام عدد من أهالي الفلوجة بجر هذه

الجثث بعد تفحمها، وكتبت صحيفة «واشنطن بوست» أمس أن الأمريكيين

الأربعة الذين مُثِّل بجثثهم كانوا من صفوة عناصر «كوماندوس» يعملون في

العراق لحماية موظفي شركات أمريكية، واستأجرتهم الحكومة الأمريكية لحماية

بيروقراطيين وجنود وضباط استخبارات.

ونقلت الصحيفة عن مسؤولين أمريكيين أنهم يعتقدون أن الأربعة الذين كانوا

يعملون لشركة «بلاكووتر سيكيوريتي كونسلتينغ» لم يكونوا ضحايا مكمن

عشوائي، بل استُدرجوا. واعتبر مسؤول في شؤون الدفاع أن ذلك يلمح إلى

«درجة عالية من التنظيم والتعقيد» , بينما ذكر ناطق باسم «بلاكووتر»

أن الأربعة كانوا يتولون حماية قافلة في طريقها لنقل أغذية لقوات أمريكية،

وكشف التقرير هوية ثلاثة من القتلى , استناداً إلى أقوال لعائلاتهم أو ناطقين

باسمها , وأحدهم كان ينتمي سابقاً إلى وحدة «سيل» التابعة للبحرية الأمريكية ,

وهي قوة خاصة لمكافحة الإرهاب.

وتتولى الشركة أيضاً حماية مسؤولي سلطة «التحالف» ومن ضمنهم بول

بريمر الحاكم الأمريكي في العراق.

وتوالت تصريحات المسؤولين الأمريكيين متوعدة بالانتقام من الفلوجة

وأهلها، وقال (بول وولفويتز) نائب وزير الدفاع الأمريكي: نحن مصممون على

دخول الفلوجة بالقوة. وقال العضو الجمهوري في مجلس الشيوخ (تشوك

هاجيل) في نهاية الأسبوع الماضي: إن الولايات المتّحدة تقترب «بشكل خطير»

من الخسارة الاستراتيجية في العراق.

لقد مثلت الفلوجة النموذج السني المقاوم في العراق، والذي يأبى على

الانكسار لدرجة أن أحد كبار خبراء ما يعرف بالإرهاب الفرنسيين قد ذكر في حديثه

إلى إحدى محطات التلفزة الفرنسية عن الفلوجة في يونيو من العام الماضي: أن من

أكبر المناطق الإرهابية الكبرى في العالم منطقة في العراق تسمى «الفلوجة»

فتلقين الفلوجة درساً هو في الواقع كسر لإرادة المقاومة عند الجانب السني في

الشعب العراقي.

وبدأت قوات المارينز الأمريكية بقوة تبلغ في بعض التقديرات عشرين ألف

جندي في مهاجمة المدينة الصامدة، وحتى كتابة هذه السطور لم تفلح هذه القوات

في اقتحام المدينة، وسقط ما يقرب من ٤٥٠ شهيداً من النساء والأطفال والشيوخ.

ويبقى السؤال الأهم: لماذا نحت الأوضاع خاصة في الفلوجة ذلك المنحى؟

خاصة أننا لا نستطيع تفسير ما جرى بفصله عن سياق الأحداث التي سبقته وعن

الاستراتيجية الأمريكية في العراق ومدى نجاحها وإخفاقها، ولذلك كان التفسير

الصحيح يتطلب دراسة المحددات التي تتحكم في مستقبل الاحتلال الأمريكي في

العراق، وأثر أحداث الفلوجة على وجود هذا الاحتلال.

ولا شك أن السياسة الأمريكية يحكمها هدف استراتيجي عام، وهو الخيار

الذي ظل مدار بحث داخل دوائر صنع القرار الأمريكي في مرحلة ما بعد الحرب

الباردة؛ حيث كانت هناك تيارات فكرية تتنازع في محيط صناعة القرار السياسي

الأمريكي:

التيار الأول: تيار انعزالي: وهو يدعو إلى التخلي عن السيطرة والتفوق،

واختيار الانطواء على الذات، وهذا التيار كان هو المسيطر على الفكر السياسي

الأمريكي طيلة القرن التاسع عشر حتى بدايات القرن العشرين؛ وهذه الانعزالية

- وفي نظر هذا التيار - تسهم في تخفيض الإنفاق الدفاعي في مواجهة عجز

الميزانية؛ مما يحسِّن القدرة التنافسية الاقتصادية للولايات المتحدة، وكذلك

يقلل من احتمالات مقتل عدد متزايد من الجنود الأمريكيين؛ غير أن هذا التوجه

الانعزالي في نظر مركز أبحاث راند الأمريكي «يضاعف على المدى الطويل

من خطر نشوب الصراعات الكبرى؛ مما يتطلب قيام الولايات المتحدة بمجهود

دفاعي أكبر، كما أنه في النهاية يقوّض الازدهار الأمريكي بتقليص الفرص التجارية

الناتجة عن الهيمنة» .

أما التيار الثاني: السائد في الفكر السياسي الأمريكي هو الزعامة العالمية أو

الهيمنة الشاملة: وهي تقتضي منع ظهور منافس عالمي آخر يكون معادياً لها،

وقد كانت كل الظروف مهيأة مع سقوط الاتحاد السوفييتي أن يكون هذا الخيار هو

المطمح الأمريكي الأساسي.

ولكن في سبيل تحقيق هذا الهدف الاستراتيجي يوجد اتجاهان داخل

المدارس السياسية الأمريكية:

المدرسة الأولى: مدرسة الديموقراطيين، وهي تقوم على تعدد القطبية

تحت زعامة أمريكا للحيلولة دون ظهور قوة مهيمنة جديدة، والقوى المحتملة في

المنظور الأمريكي هي الصين واليابان وأوروبا وروسيا، وقد تتغير هذه القوى

في المستقبل. وقد ذهب صمويل هنتنجتون نفسه إلى وصف النظام العالمي الراهن

بنظام الواحد والمتعدد الأقطاب، أي النظام الذي يقوم على وجود قوة عظمى متفردة

في عالم متعدد الأقطاب. فالنظام متعدد الأقطاب يعني التساوي النسبي في قوى

الدول الكبيرة في العالم , وهو أمر لم يتوافر بعدُ إذا قيست هذه القوى بالقوة

الأمريكية.

كما أنه من الصعب وصف النظام العالمي بالنظام أحادي القطبية بشكل كامل؛

لأن هذا الأخير يعني وجود قوة عظمى وحيدة في العالم، وبجانبها قوى أخرى

صغيرة متعددة، وينفي في المقابل وجود قوى كبيرة يكون لها وزن تحسب له القوى

العظمى حساباً في القضايا الدولية والإقليمية المختلفة.

المدرسة الثانية: مدرسة المحافظين الجدد، وهي تنطلق من النظرة

الاستعلائية المبنية على الإحساس بالتفوق الأمريكي ومقدار ما وصلت إليه هذه

الهيمنة، وهذه المدرسة تريد استغلال التفوق الأمريكي في جميع المجالات

الاقتصادية والسياسية والعسكرية والتكنولوجية وغيرها من المجالات في أعلى مدى

هذا التفوق؛ مما أدى بهذه المدرسة إلى اختراع استراتيجية الضربات الوقائية وهي

تمثل النزعة التي ازدادت ضراوة مع وصول بوش الابن للإدارة، ولكنها بدأت

تتبلور مع نهاية الحرب الباردة عندما راحت تتفشى طروحات الهيمنة المكشوفة،

والاعتماد على القوة المتفوقة كواحدة من أهم أدوات السياسة الخارجية الأمريكية،

ولم يُخْفِ الرئيس بوش وطاقمه في الإدارة منذ البداية نزوعه إلى احتضان هذا

التوجه، بل انتماءه لهذا الخندق حين سارع لرفع لواء التفرد والتفوق باعتبارهما

حقاً وامتيازاً خاصين بالولايات المتحدة؛ لكونها القوة العظمى الوحيدة على الساحة

الدولية، وتجلى ذلك في رفض واشنطن الانضمام لعديد من الاتفاقيات الدولية أو

الانسحاب من عدد منها.

وجاء غزو العراق ليعطي لهذا الفريق فرصة لتطبيق سياساته وأهدافه التي

ترمي في النهاية لتعزيز الهيمنة الأمريكية على العالم عبر عدة أهداف منها:

السيطرة على النفط، ومحاربة الإرهاب، وتعزيز أمن إسرائيل، وإعادة ترتيب

الأوضاع ورسم الخريطة السياسية للمنطقة. ولكن: ما هي الاستراتيجية الأمريكية

لتحقيق تلك الأهداف منذ أن احتلت بغداد في التاسع من أبريل عام ٢٠٠٣م؟

توزعت الاستراتيجية الأمريكية في العراق في المجالات الآتية:

في المجال السياسي: محاولة إيجاد نظام حكم وبيئة سياسية في العراق تكون

نموذجاً للشرق الأوسط الكبير، وهو المشروع الذي تريد الولايات المتحدة تعميمه

على المنطقة.

ولا نتفق مع آراء كثيرة تقول إن أمريكا لم يكن لديها مشروع سياسي في

العراق، بل على العكس؛ فإن أمريكا منذ أحداث ١١ سبتمبر قد غيرت القاعدة

التي تقوم عليها استراتيجيتها ذات الرؤوس الثلاثة في المنطقة: (الإرهاب،

وإسرائيل، والنفط) . فقبل هذه الأحداث قامت استراتيجيتها على حفظ الاستقرار في

المنطقة، ونقصد بالاستقرار بقاء الأنظمة الحاكمة في هذه المنطقة، ولكن بعد

الأحداث أصبح الاستقرار لا يرتبط بوجود هذه الأنظمة بل العمل على إيجاد أنظمة

تستطيع استيعاب التطرف بداخلها وهذا ما قال به «جراهام فوللر» نائب رئيس

الاستخبارات الأمريكية السابق، وقد دلت أحداث ١١ سبتمبر على أن أمريكا بحاجة

إلى وجود دولة إسلامية علمانية تكون نموذجاً لكل الدول العربية والإسلامية

الأخرى. وهذه برأيها هي الطريقة الأسلم لإبعاد المنطقة العربية عن أجواء أسامة

بن لادن.

فما تسميه أمريكا الديموقراطية الإسلامية، وملخصها في تركيا حزب العدالة،

هو النموذج الذي ينبغي أن يحتذى، وفي هذا الإطار أعلن باول من أنقرة في ٢/٤/

٢٠٠٣م، أنه سيكون لتركيا «دور مهم تلعبه في جهود إعادة بناء المؤسسات في

العراق في فترة ما بعد الحرب؛ ليس في إعادة الإعمار فحسب بل أيضاً في إقامة

نموذج لديمقراطية إسلامية تعيش في سلام مع دول الجوار معرباً عن أمله في أن

يكون النظام التركي نموذجاً لكافة الدول في منطقة الشرق الأوسط، ونلاحظ في

الفترة الأخيرة السعار الأمريكي لإنضاج هذا النموذج، مثل مؤتمر مركز كارينيجي

للسلام الأمريكي والذي عقد في الكويت مؤخراً، ويبدو أن هذا المركز منوط به دور

خطير في ذلك الاتجاه؛ فقد قام ذلك المركز باستقدام أحد المتخصصين في العلوم

السياسية في مصر؛ وهو الدكتور مصطفى كامل السيد وأقام الباحث ما يقرب من

شهرين في الولايات المتحدة، وهما شهر يوليو وأغسطس ٢٠٠٢م، ليخرج بدراسة

معمقة لصالح المركز تسمى: (الوجه الآخر للحركة الإسلامية) .

ولكن قبل فرض هذه الديموقراطية لا بد من إيجاد البيئة المناسبة التي تنتعش

فيها هذه الديموقراطية الموعودة؛ لأن الديموقراطية في حقيقتها هي حكم فئة معينة

مرتبطة بأصحاب المصالح. وينقل» ناعوم تشومسكي «عن» والتر ليبمان «

عميد الصحفيين الأمريكيين قوله: هناك وظيفتان في النظم الديموقراطية: الوظيفة

الأولى منوطة بالطبقة المتخصصة؛ وهؤلاء الرجال المسؤولون يقومون بالتفكير

وفهم التخطيط للمصالح العامة، ثم هناك أيضاً القطيع الضال؛ وهذا القطيع أيضاً

يتمتع بوظيفةٍ ما في النظام الديموقراطي، تلك الوظيفة حسب تصور ليبمان تتمثل

في كونهم مشاهدين، وليسوا مشاركين بالفعل، وهناك وظيفة أخرى بالإضافة لتلك

المشاهدة من قِبَل القطيع؛ فمن وقت لآخر يُسمح لهذا القطيع بتأييد أحد أفراد الطبقة

المتخصصة؛ وبمعنى آخر: يسمح لهم بالقول: نحن نريدك قائداً لنا؛ وذلك لأنها

ديموقراطية وليست نظاماً شمولياً» .

ويكشف «هيس» مدير التخطيط السياسي بوزارة الخارجية وهو يهودي ذو

ميول صهيونية في محاضرة له عن أحد أسباب سعي أمريكا إلى نشر الديمقراطية،

وهو كما قال: سوف نزدهر أكثر كشعب وكدولة في عالم من الديمقراطيات بدلاً من

عالم من الأنظمة الاستبدادية والفوضوية. ويشرح «هيس» أسباب هذه الخطوة

فيقول: العالم الديمقراطي هو عالم مسالم بشكل كبير؛ فنمط الديمقراطيات المتأصلة

التي لا تحارب مع بعضها مع بعض هو أحد أهم النتائج التي أمكن إثباتها في

دراسات العلاقات الدولية. فتربية هذه الطبقة وإيجادها تحتاج لسنوات؛ ولذلك

تجيء تصريحات المسؤولين الأمريكيين المختلفة التي تتحدث عن وجود عسكري

أمريكي ممتد لسنوات حتى يمكن إنضاج هذه الطبقة قبل إجراء انتخابات في

العراق.

ولكن حتى تنضج هذه الطبقة، ويتكون القطيع تكون هناك فترة زمنية تطلق

عليه الإدارة الأمريكية اسم: (الفترة المؤقتة) وتسعى الإدارة الأمريكية في هذه

المرحلة نحو إيجاد شكلٍ ما يظهرها بمظهر من يسلِّم الحكم للشعب العراقي ويبعد

عنها تهمة الاحتلال والغطرسة التي وصم بها العالم تلك الإمبراطورية؛ وهنا بدأ

التخبط الأمريكي؛ فمن مجلس للحكم، إلى هيئة تمثيلية؛ إلى غيرها من الصيغ

السياسية التي سوف تمارس على الشعب العراقي حتى تستوي أدوات التغيير من

مناهج تربوية، وتغيير الخطاب الديني، وتنضج البيئة العراقية في المفهوم

الأمريكي. والذي نراه أن هذا التخبط مهما بلغ مداه فإنه سيظل في التكيتيكات

الأمريكية ولا يتعلق بالاستراتيجيات.

في المجال العسكري: إيجاد سلسلة من القواعد العسكرية الدائمة في العراق

تكون ركيزة رئيسة للوجود العسكري الأمريكي في المنطقة؛ والعمل على القضاء

على المقاومة المسلحة في العراق قضاء تاماً، أو تقزيمها لأقل ما يمكن، ومحاصرة

نطاقها. وفي المجال الأول أفادت أنباء صحفية أن الولايات المتحدة قد أقامت حتى

الآن خمسة قواعد عسكرية أحدها في منطقة لورانس الشعلان على الحدود الأردنية،

وهي المنطقة التي أطلقت منها صواريخ صدام على إسرائيل عام ١٩٩١م،

وهناك باشور في الشمال مع التداخل الحدودي مع إيران وتركيا، ثم الناصرية في

الجنوب، وسعد الغربي بالقرب من إيران، وأخيراً قاعدة مطار بغداد.

بالنسبة للمواجهة الأمريكية للمقاومة العراقية، وبالرغم من أن هذه المقاومة

استطاعت أن تلحق بالقوات الأمريكية خسائر فادحة في الأفراد والمعدات على أمل

أن يتكرر المشهد الفييتنامي أو اللبناني أو الصومالي، ولكن الإدارة الأمريكية

واجهت ذلك الموقف بعدة مسارات منها:

* التأكيد على أن هذه الإدارة غير الإدارات السابقة، ويؤكد هذا المعنى

«رامسفيلد» في مقال نشرته واشنطن بوست تحدث فيه عن الدروس التي

استخلصها من تفجير مقر المارينز في بيروت قبل عشرين عاماً؛ حيث ذكر أن

الولايات المتحدة وضعت نفسها في موقع دفاعي، فتكيَّف الإرهابيون مع ذلك،

وضربوا؛ فأمام كل عمل دفاعي كان الإرهابيون يتحركون صوب طريقة أخرى

للهجوم. ويلاحظ أن الإرهابيين يملكون قدرة الضرب في كل مكان؛ ولذلك ليس من

الممكن الدفاع عن كل هدف وفي كل زمان ومكان. وبناء عليه فإن الطريقة الوحيدة

لهزيمة الإرهابيين هي أخذ الحرب إليهم عن طريق ملاحقتهم أينما يعيشون أو

أينما يخططون للاختباء. ويضيف رامسفيلد: إن هذا ما يفعله جورج بوش، ولا

مأخذ عليه سوى ضرورة رفع وتيرته، وقد توجت تلك السياسة بأخذ موقف حاسم

من الصدر وميليشياته التي تعرف بـ (جيش المهدي) ثم كسر إرادة المقاومة

في الفلوجة.

* استلهام النموذج الإسرائيلي في البطش والضرب؛ فالشعبان الإسرائيلي

والأمريكي متشابهان في ظروف نشأتهما وصراعهما لإيجاد دولتهما وتثبيت حكمهما،

وهما يعيان ذلك التشابه؛ فالتجارب التي مر بها المهاجرون البروتستانت من

أوروبا إلى أمريكا حينما قارنوا بينها وبين التجارب التي مر بها اليهود القدماء

عندما فروا من ظلم فرعون إلى أرض فلسطين يقوي أواصر التحالف بينهما،

ويصبغه بالصبغة الدينية. لقد كان هؤلاء المستوطنون بحاجة إلى شيء يسوّغ

أفعالهم هذه، ويضفي عليها نوعاً من الشرعية والأخلاقية، فلم يجدوا هذا التسويغ

إلا في العهد القديم. بل إنهم ادعوا أن الله اختار العنصر الأنجلو سكسوني

البروتستانتي الأبيض لقيادة العالم كما جعل الله اليهود شعبه المختار. بل وصل

تطرفهم إلى زعم أحد الكتاب، ويدعى (ريتشارد بروتزر) في كتابه: (المعرفة

المنزلية للنبوءات والأزمنة) أن الإنجليز من أصل يهودي؛ على أساس أنهم

ينحدرون من سلالات الأسباط التي ادّعى اليهود أن أفرادها فُقدوا بعد اجتياح

الآشوريين لمملكة إسرائيل عام ٧٢١ قبل الميلاد.

* تدريب الجيش والشرطة العراقية، وإعادة تشكيل جهاز المخابرات، وجعل

أفرادهما في الواجهة لتلقِّي جزء من الضربات التي تكال إلى قوات الاحتلال.

في المجال الاقتصادي: وضع اليد على نفط العراق وثروات العراق،

والتمكين للنفوذ اليهودي؛ ففي أول سبتمبر الماضي نشرت صحيفة الحياة تقريراً

يفيد بأن هناك عشر شركات إسرائيلية بصدد التوقيع مع القوات الأميركية في

العراق على عقود للإعمار، وفي أكتوبر الماضي احتجت تركيا على قيام إسرائيل

بالعمل في شمال الموصل وشراء قطع أراض غنية بالنفط، وأعلن بول بريمر

الحاكم المدني للعراق أن إسرائيل لها الحق مثل غيرها في شراء عقارات وشركات

في العراق، ويستند في ذلك إلى قانون الاستثمار الجديد الذي يعطي المستثمرين

الحق في شراء ١٠٠% من أصول الشركات العراقية، وأنشأت الإدارة المدنية

لبريمر دائرة اسمها (دائرة الاستثمار الأجنبي) يرأس هذه الدائرة شخص اسمه

«توم فولي» الذي عقد مؤتمراً صحفياً قال فيه: للإسرائيليين الحق في

الاستثمار داخل العراق كأي طرف آخر من الراغبين في الاستثمار في العراق.

وتحدثت أنباء صحفية على أن الموساد والمستثمرين الإسرائيليين استأجروا فندقاً

في بغداد بالكامل اسمه فندق (إيكال) ويقال إن أربعة فنادق أخرى في بغداد قد

اشتراها الإسرائيليون؛ حتى إن أفراد الحراسة عليها هم من اليهود المسلحين

برشاشات عوزي الإسرائيلية.

وزاد من الشكوك بالدور (الإسرائيلي) في العراق تصاعد عمليات اغتيال

شخصيات علمية عراقية لا علاقة لها بالسياسة أو الأحزاب أو النظام السابق، مما

دفع بالمحللين إلى الترجيح بأن تلك العمليات تستهدف إفراغ المجتمع العراقي من

طاقاته الكبيرة من العلماء والاختصاصيين المرموقين.

ويبدو أن نشاط الموساد في العراق لا حدود له، وغير معروف أو معلن،

بسبب الحماية التي يلقاها من الجانب الأمريكي، وهو آخذ بالتصاعد أيضاً من

خلال الأعمال التجارية والشركات.

وتؤكد مصادر اقتصادية عراقية أن نشاط الشركات (الإسرائيلية) قد زاد في

العراق، ضمن عقود شركة (بكتل) التي تتولى إعادة إعمار العراق الذي خربته

قوات الاحتلال، في وقت تسربت إلى العراق بضائع (إسرائيلية) تقدر قيمتها

بأكثر من ٧٠ مليون دولار، منذ سقوط بغداد تحت الاحتلال وحتى الآن، بينما

تشارك عشر شركات (إسرائيلية) في حملة إعمار العراق وفقاً لتقارير اقتصادية

تحدثت عنها الصحف (الإسرائيلية) نفسها.

إن كسر المشروع الأمريكي في العراق، ومن ثم في المنطقة يجب أن يعتمد

على تبصُّر أبعاده كلها، والإحاطة بمراميه وأهدافه ومدى نجاحه وإخفاقه في هذه

الأهداف بنظرة واقعية متجردة.