للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أدب وتاريخ (قصة قصيرة)

[مقام الشيخ بركات]

علي محمد

كان الأستاذ عادل يتبادل الحديث مع الأستاذ سعيد وهما في طريقهما إلى

المدرسة في الكَفْرْ، عندما صعد الحافلة متسول نصف معتوه، كبير في السن يهتز

ويتأرجح، ويمسح لعابه بكمه المتهدل المتسخ، يستجدي الركاب ويتهدد ويتوعد،

يهددهم بأنه سيدعو عليهم بأن تنقلب الحافلة بهم في عرض الطريق.

ويبدو أن الأستاذ سعيد من منبت متأثر كثيراً بالكرامات والأولياء، والأبدال

والأوتاد! حيث إنه طلب من الأستاذ عادل أن يبادر إلى إعطائه بعض الدراهم

خشية أن تنقلب الحافلة فعلاً. لأن المتسول المذكور (عبد الكريم أبو شطة) من

المباركين المستجابي الدعوة.

أجابه الأستاذ عادل: هل تتكلم من كل عقلك يا أستاذ؟

- طبعا ولم لا؟ فإن الأحاديث عن الخوارق التي جرت على يديه يتناقلها

الصغير والكبير، وسترى بعد قليل أنه سينزل ونمضي نحن في الحافلة، ويسبقنا

إلى القرية التالية ماشياً، حيث سينتظرنا هناك.

- لا حول ولا قوة إلا بالله!

- ماذا يا أستاذ عادل؛ أو تنكر الكرامات؟

- وهل قلت لك أني أنكر الكرامات؟

- لا لم تقل ولكن لسان حالك يقول هذا.

- أنا لا أنكر الكرامات بشكل مطلق يا أستاذ سعيد. فالله قادر أن يكرم من

شاء من عباده، لكن أن تصبح الكرامات طعامنا وشرابنا وتدخلنا في باب إشراك

هؤلاء العبيد والأموات مع الله سبحانه وتعالى في الخلق والأمر فلا.

- يعني أنت لا تصدق أن الشيخ أحمد أبو سرود قد جاء من عرفات إلى

استانبول وأكل الكبة المشوية عند أهله وعاد ليلاً إلى عرفات؟

- يا أستاذ سعيد، بارك الله في عقلك أهذا الذي تعلمته في الجامعة؟

- بدأنا بأسلوب السخرية!

- لا يا أستاذ سعيد أنا لا أسخر منك، ولكن أن يكون كلام العوام وخرافاتهم

كلاماً منزلاً محكماً لا يقبل النقد، وتناقشني شهراً كاملاً حول حجية حديث الآحاد،

وأنه لا يجوز أن نأخذ به في العقيدة لأنه ظني فهذا غير معقول.

- ولكن هذه الكرامات لا ينقلها العوام فقط، بل إن ساداتنا المشايخ ينقلون

كثيراً منها عن أصحاب المقامات والأضرحة.

طيب يا أستاذ سعيد ما رأيك لو برهنت لك برهاناً عملياً أن كل هذه المقامات

والأضرحة خلط بخلط؟

أعوذ بالله! أعوذ بالله!

(وكانت الحافلة قد وصلت بهم إلى الدوار الموصل إلى الكَفْرْ)

هل هنا على هذا الدوار مقام أو ضريح يا أستاذ سعيد؟

-لا.

إذاً ما رأيك لو أشعنا في الكفر أن على هذا الدوار قبراً قديماً لأحد الصالحين

قد اندرس وضاعت معالمه؟

لماذا؟

- لأريك بأم عينك أن الناس ستحمل هذه الإشاعة محمل الجد، وربما يقيمون

في العام القادم مقاماً كبيراً للشيخ المزعوم!

دعك من هذا يا رجل، وهل تظن الناس مجاذيب إلى هذا الحد؟

طيب، أنت ماذا تخسر إذا تعاونت معي؟ أم أنت خائف من النتيجة.

- لا لست خائفاً، ولكن!

وبما أنك نصف موافق فما رأيك أن نطلق على الشيخ المزعوم اسم: الشيخ

بركات؟

- طيب، كما تشاء.

واتفقا على إشاعة الأمر بأسلوب هادئ في المدرسة وعند الحلاقين باعتبار أن

دكان الحلاق من أهم وسائل الإعلان.

أجاب الحلاق (سليم أبو لسان) موافقاً على كلام الأستاذ عادل: طبعاً لابد أن

يكون الأمر صحيحاً. وهل من المعقول أن الجديدة وأم الكوسا عندهم عشرات

الصالحين، ونحن لا يوجد عندنا ولا مقام واحد؟

- الشيخ بركات يا حاج سليم كان من كبار الصالحين وكانت له مكانته عند

الباب العالي.

إذاً أنت تعرف كل هذه المعلومات عن الشيخ بركات قدس الله سره وتسكت.

لا والله أنا لست ساكتاً ولكن المسألة غابت عن ذهني في زحمة المشاكل.

(وانتشر الخبر في الكفر انتشار النار في الهشيم. ورآه عدد من الناس في المنام،

وتحدثوا عن طوله الفارع، وعمامته الضخمة وكراماته التي

لا تحصى، وكيف أن المئذنة كانت تنزل إليه عندما كان يريد أن يؤذن.. و..

و..) .

(وبدأ الحديث في المدرسة بين أخذ ورد بين الأساتذة جميعاً) .

- دعوكم من هذه الخرافات يا ناس.

يعنى تريد أن تقول أن الشيخ بركات غير موجود؟

- طبعاً غير موجود.

- ما الذي تقوله يا رجل؟ ولماذا تريد مسخ الصورة الجميلة للشيخ بركات

رحمه الله، وكيف تجرؤ أن تقول هذا؟ وهل تستطيع أن تثبت ذلك؟

- قبل أن تؤكد أن الشيخ بركات لم يوجد، وأنه لم يكن قط. عليك أن تعتبر

ظروف الوجود، وأنواع الوجود. وأنا متأكد من أن الشيخ بركات كان موجوداً لكنه

وجود من نوع شاعري خاص غريب.

- ولكن يا إخوة كيف انفجر الينبوع الغربي في الكفر على يديه إذا لم يكن

موجوداً؟ !

-لا، لا، هو موجود، لقد وجد على وجه ما.

أجاب المدير باستخفاف. تعني أنه وجود ذهني في الخيال؟

- أو ليس الوجود الخيالي وجوداً أو ليس الأشخاص الأسطوريون موجودين؟ ...

صحيح إنه ربما يكون وجود الشيخ بركات خيالياً، لكن افتراض وجوده،

وتأكيد هذا الوجود، هو تأكيد على وجود الأشخاص الذين يمثلون الخير والصلاح

في هذا المجتمع.

- لقد كان الشيخ بركات موجوداً. إنني أصر على ذلك، تفكروا أيها الأخوة

قليلاً تصلوا إلى نتيجة تقول بأن شرط الوجود لا يشمل المادة فقط، إنه يعني فقط

العلاقة بين الصفة والموضوع، إنه يعبر عن علاقة فقط، حتى الصفات يمكن أن

تأتي بعد ذلك. والمهم هو الجوهر وبعض الصفات الذاتية كالوجود. وقضية

الوجود مفروغ منها بالأدلة المنطقية.

وكيف ذلك يا أستاذ؟

- القضية بسيطة: - كل ما يقول عنه العلماء والمشايخ موجود فهو موجود.

- قال العلماء إن الشيخ بركات موجود.

- إذاً فالشيخ بركات موجود.

- المصيبة أن الشيعة الإمامية الذين قالوا بعصمة الأئمة أدى بهم هذا إلى

التطرف فكيف بمن يقول بعصمة كل من وضع على رأسه خرقة ملفوفة؟ !

- أتكفرني يا أستاذ السند والدليل؟ !

- هو لا يكفرك يا أستاذ! طول بالك!

- ولكن لابد من الإقرار بأن الوجود من دون صفة هو - عملياً - عدم وجود

شيء.

- ولكن صفات الشيخ موجودة وأكيدة ألم تقرأ ما كتبت عنه الجريدة البارحة؟ وماذا كتبت؟

- تحت عنوان «اكتشاف مقام الشيخ بركات» كتبت تقول:

ولد الشيخ بركات قدس الله سره في قرية الكفر عام ١١٠٠هـ وهو من سلالة

سيدنا خالد بن الوليد، وقد درس على عدد كبير من العلماء منهم فلان وفلان، ولقد

اشترك مع الجيش التركي في إحدى معاركه مع الصليبيين. وما إن استبد به

الحماس حتى نفخ عليهم، فآثار زوبعة ضخمة، رفعت الجيش المعادي مسافة مائة

متر في الهواء، وسقطوا جميعاً مضرجين بدمائهم ...

ومن أين جاء الصحفي بهذه المعلومات؟

- وهل جاء بها من بيت أبيه؛ هذا تاريخ. ووالله أنت لا تصدق ولو رأيت

الشيخ بركات بأم عينيك. وهل عدم معرفتك لدليل على صحة المعلومات يعني أن

المعلومات غير صحيحة؟

- ولكن هذه دعوى وتحتاج إلى دليل، فالبينة على من ادعى، وعلي وعليك

التثبت من صحة أي دعوى، وإلا ادعى كل واحد منا ما يحلو له.

- هذه ليست دعوى، إنها حقيقة، وأنت الذي تدعي عدم صحة الخبر،

وعليك البينة.

- يا رجل لا تحمل الأمر أكثر مما يحمل، وتستخدم كل وسائل الجدل في

إثبات قضية اخترعها خيال الأستاذ عادل، ليثبت بها غوغائية الجمهور، والسير

بلا تثبت وراء كل ناعق.

- الأستاذ عادل اخترعها! ؟ - أولاً: الأستاذ عادل يحب الجدل مثلك، وكل

قضية يطلب عليها دليل، ودعواه عندنا غير مقبولة. فإنه من حقده على الأولياء

والصالحين يدعي أنه هو الذي اخترع وجود الشيخ بركات، والشيخ بركات قدس

الله سره موجود من زمن أجداده، ولن تنفعه دعواه شيئاً. وثانياً: فإن هذا الادعاء

يزرع الشك في كل الأولياء والصالحين ومقاماتهم وكأن الدنيا خلت تماماً من

الصلاح والصالحين. أعوذ بالله! !

وقرع الجرس وانصرف الأساتذة إلى الدروس، وسار الأستاذ سعيد مذهولاً

مما رأى يحدث نفسه: معقول؟ غير معقول! . أيمكن أن تكون كل هذه الناس

مجاذيب؟ والجريدة؟ أيمكن أن تردد ما يقوله الناس بدون تمحيص؟ غريب! ! !

إن في الأمر لغزاً ما، كيف اجتمع المشايخ بالأمس في الدوار وأقاموا

الحضرة (احتفال) للشيخ بركات؟ والشيخ بركات اخترعه الأستاذ عادل! ! أيمكن

أن يكون الخرف أصابهم جميعاً؟ غير ممكن! ! غير ممكن! !

وبدأت تتسرب إلى ذهنه فكرة جديدة تحل له اللغز. وهي أن الشيخ بركات

موجود فعلاً، وأن الأستاذ عادل يعلم ذلك مسبقاً وقد خدعه وأوهمه أنه هو الذي

اخترع وجود الشيخ بركات.

وحاول الأستاذ عادل أن يزيل هذه الفكرة من رأسه لكنه لم يفلح.

واستمر النقاش في المدرسة على هذا المنوال عدة أيام، وكان العام الدراسي

في أواخره، وقد انتهت المناقشات بذهاب كل أستاذ إلى بلده عندما حانت العطلة

الصيفية.

* * *

وفي العام التالي ركب الأستاذ عادل والأستاذ سعيد الحافلة ذاهبين إلى المدرسة

في الكفر، وكان الأستاذ عادل قد نسي الموضوع لكنه انتبه إلى الأستاذ سعيد وهو

يتمتم في سره ببعض العبارات عندما أصبحوا على مقربة من الدوار. وكم كانت

دهشتهم كبيرة عندما وجدوا بناءاً جميلاً لمقام الشيخ بركات ينتصب شامخاً على

الدوار وبجانبه مسجد كبير فخم على الطراز المعماري التركي.

ابتسم الأستاذ عادل ونظر إلى الأستاذ سعيد.

لكن الأستاذ سعيد لم يعره كبير انتباه، بل طلب من السائق أن يتوقف قليلاً،

ورفع يديه وقرأ الفاتحة على روح الشيخ بركات.