للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[فهم الإسلام عبر الاصطلاحات الغربية]

د. أحمد إبراهيم خضر

يشدد علماء الإسلام على أن كل مسلم مؤمن مطلوب منه أن يؤدي شهادة لهذا الدين، شهادة تؤيد حق هذا الدين في البقاء، وتؤيد القيم التي يحملها هذا الدين للناس، شهادة تشهد لهذا الدين بالخيرية والأفضلية على سائر ما في الأرض من مفاهيم ومصطلحات وأنظمة وأوضاع وتشكيلات؛ ولهذا كل من يدعي لنفسه الإسلام ثم يسير في غير مسيرة الإسلام فإنه لم يؤد هذه الشهادة، ويكون قد آثر حياته ومصلحته على حياة ومصلحة الدين، وفوق ذلك كله يكون قد قصَّر في أداء هذه الشهادة أو أدى شهادة ضد هذا الدين.

ولا يمكن لهذه الشهادة أن تؤدى إلا إذا أدرك صاحبها أن التوحيد الخالص هو مفرق الطريق بين عقيدة المسلم وسائر العقائد الأخرى، وأن يعرف كذلك أنه متى انحرف عن التوحيد المطلق قيد شعرة فإنه سينساق في هذا الانحراف ثم تتسع الهوة بينه وبين نقطة الانحراف التي بدأت صغيرة ولا تكاد تلحظ.

إن الاختصاص والتميز ضروريان للمسلم سواء أكان ذلك في التصور والاعتقاد وأداء الفرائض، وبالسمت والمظهر واللباس والحركة والسلوك. وقد نهى الإسلام عن التشبه بما هو دون المسلمين في خصائصهم التي هي تعبير ظاهر عن أمور باطنة. وليس هذا ـ كما يقول العلماء ـ تعصباً ولا تمسكاً بشكليات، ولكن القضية هي ما وراء هذه الشكليات من بواعث كامنة هي التي تفرق قوماً عن قوم، وعقلية عن عقلية، وخُلُقاً عن خُلُق، واتجاهاً في الحياة عن اتجاه، ومنهجاً في الحياة عن منهج.

ومن أبرز معالم الانحراف عن هذا التوحيد وتشويش الاختصاص والتميز للإسلام ما لوحظ في العقود الثلاثة الأخيرة وسيطر على بعض جوانب الحياة الأكاديمية من الانطلاق من المفاهيم والمصطلحات الغربية في دراسة وفهم الإسلام بدعوى نصرة الإسلام وتصديق رسوله -صلى الله عليه وسلم-، هذا الأمر الذي حسمه العلماء منذ ما يقارب من ثمانمائة سنة تقريباً، ورأوا فيه نوعاً من الابتداع الذي يوقع في الخطأ والضلال؛ لأن استخدام هذه المصطلحات له لوازم يجب اتباعها، وهذه اللوازم تناقض كثيراً مما جاء به الإسلام؛ فكل ما هو مخالف لدين الإسلام لا بد أن يناقضه حق معلوم من دين الإسلام، وقد يدخل ذلك على المؤمن بنوع من الظن واتباع الهوى. ويفسر العلماء ذلك بأن هذه المفاهيم والمصطلحات الغريبة عن الإسلام ليست حقاً محضاً لا باطل فيه، وليست باطلاً محضاً لا حق فيه، ولكنها تشتمل على حق وباطل، فيكون من استخدمها قد لبس الحق بالباطل؛ إما عن خطأ وجهل غير متعمد، وإما لنفاق فيه وإلحاد. وقد أكد الباحثون المحدَثون بجلاء أن اللغة نفسها ـ وليس المصطلحات فقط ـ تعكس في كثير من الأحيان مواقف قيمية وتفضيلات؛ وخاصة أنها لا تتمتع دائماً بدرجة الحياد التي تُزعَم لها.

وتتسع المسافة بين التوحيد الخالص ونقطة الانحراف الأولى بمحاولة تجذير هذه المفاهيم والمصطلحات في التربية الإسلامية والبحث عن أصول لها في الإسلام، وهذا ما عبر عنه علماء السلف «بأخذ العبارات القرآنية والسنية ووضع عبارات ومعان لها لتوافق المصطلحات غير الإسلامية، ثم يخاطَب بها الناس على أنها مراد الله ورسوله، فيحدث بسبب ذلك الكثير من التلبيس على المسلمين، في حين أنه في الأصل تحريف للكلم عن مواضعه» . إن مثل هذه المحاولات من الاستدلال بظواهر من الكتاب والسنة لتأييد ما ليس من الإسلام أصلاً لم يكن يجري ولا وقع ببال أحد من السلف الأولين. وقد حلل العلماء ذلك بقولهم إن المدعين لذلك: «إما أن يكونوا قد أدركوا من فهم الدين ما لم يفهمه الأولون، أو حادوا عن فهم الدين. والأخير هو الصواب؛ فالسلف الصالح كانوا على الصراط المستقيم ولم يفهموا إلا ما كانوا عليه، وهذه المحدَثات لم تكن فيهم ولا عملوا بها.

ولهذا وضع هؤلاء العلماء عدة قواعد في هذا الأمر يمكن الإشارة إلى بعضها على النحو التالي:

١ ـ أن على كل ناظر في الدين مراعاة ما فهم منه الأولون، وما كانوا عليه من العمل؛ فهو أحرى بالصواب وأقوم في العلم والعمل، وأن من يعتقد أنه أفضل من السلف في استخراج معاني النصوص وصرفها عن حقائقها بغرائب اللغة ومستكره التأويل قد ينبذ الكتاب والسنة ويجمع بين الجهل بطريقة السلف والكذب عليهم وبين الجهل والضلال بتصويب طريقة الخلف. وإن نتيجة ذلك (استجهال) السابقين الذين هم أعلم الأمة بالله ودينه ورسوله، والاعتقاد بأنهم بمثابة الصالحين (البلهاء) الذين لم يتبحروا في حقائق العلم بالله ودينه ورسوله، وأن الخَلَف هم العلماء الذين أحرزوا قصبات السبق بما فات السابقين الأولين.

٢ ـ أن الشريعة عربية لا مدخل فيها للألسن الأعجمية، والقرآن عربي نزل بلسان عربي مبين، ولا سبيل إلى فهمه من غير هذه الجهة، ولا يستقيم للمتكلم في كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- أن يتكلم فيهما فوق ما يسعه لسان العرب؛ وذلك لأن لسان بعض الأعاجم لا يمكن فهمه من جهة لسان العرب لاختلاف الأوضاع والأساليب، والذي نبه إلى هذا هو الإمام الشافعي في كتابه القيم (الرسالة) وهو في فن أصول الفقه.

٣ ـ ليس بجائز أن يضاف إلى القرآن ما لا يقتضيه؛ كما أنه لا يصلح أن ينكر منه ما يقتضيه، ويجب الاقتصار في الاستعانة على فهمه على كل ما يضاف علمه إلى العرب؛ ومن طلبه بغير ما هو أداة له ضل عن فهمه، وتقوَّل على الله ورسوله فيه؛ فالشريعة جارية وفق أسس معلومة وبلغة فصيحة.

٤ ـ لا بد عند التعامل مع القرآن والسنة من معرفة ما يدل على مراد الله ورسوله من الألفاظ، ولا يجوز فهم الألفاظ في كلام الله ورسوله على اصطلاح عادات الناس وألفاظهم أو تفسير القرآن بالرأي والعقل. إن عامة من ضل كان بهذا السبب؛ لأنهم حملوا كلام الله ورسوله على ما يدَّعون أنه دال عليه، ولا يكون الأمر كذلك؛ ولهذا نجدهم لا يُعوِّلون كثيراً على القرآن وكتب الحديث والآثار، وينطلقون من فرضية خاطئة مؤداها أنه ليس في القرآن والسنه علم، وأنها لا تخرج عن حدود الوعظ والإرشاد ولا تفيد اليقين. إن من آتاه الله علماً علم أنه لا يكون عند المتأخرين من التحقيق إلا ما هو دون تحقيق السلف لا في العلم ولا في العمل، ومن كانت له خبرة بالنظريات والعقليات والعمليات علم أن مذهب الصحابة دائماً هو أرجح من قول مَنْ بعدهم، وأنه لا يبتدع أحد قولاً في الإسلام إلا كان خطأ، وكان الصواب قد سُبِقَ إليه قبله.

إن طلب الهدى عند أهل الضلال من أعظم الجهل، ولا يُخدَم هذا الدين بنقض أي قاعدة من قواعده الاعتقادية، كما لا يُخدم بترك تقريراته إلى تقريرات علماء يعملون بفعل عوامل تاريخية ونفسية وسياسية معينة وفق منهج موجه لتدمير القاعدة الأساسية للدين: وهي أنه وحي من الله وليس من وحي الفكر البشري. وينطلق العلماء الغربيون من أصل كبير يستخرجون منه مفاهيمهم ومصطلحاتهم. والأصل إذا اختل اختل الفرع من باب أوْلى؛ لأن الفرع مبني على أصله يصح بصحته، ويفسد بفساده، ويتضح باتضاحه، ويخفى بخفائه. والأصول منوط بعضها ببعض في التفريع عليها، وكل وصف في الأصل مثبت في الفرع، ولو وقع في بعض الأصول خلل لزم سريانه في جميعها، هكذا قال العلماء. والأصل الذي انطلقت منه هذه المصطلحات والمفاهيم الغربية هو أن الإنسان هو محور الكون، وأن حل مشكلات الإنسان تكمن في داخله وفي فهمه لنفسه قبل أن تكمن في خارجها، وأن المطلق لا وجود له في العالم، وأنه ليس إلا فكرة زائفة، والمطلق الوحيد عندهم هو أن كل شيء نسبي.

والدين في الفكر الغربي عامة يقوم على افتراضات إلحادية وأنه اختراع إنساني أو تجربة إنسانية أو إسقاط نفسي اجتماعي، أو أنه خداع عظيم او رواية خيالية او فن ... إلخ. وهذا يعني أنه حتى لو كان هناك حق فيما يقولون فإن الباطل أشد وأعم. أضف إلى ذلك أن الفكر الغربي كله لا ينظر إلا إلى الدنيا وحدها، والتفكر في الدنيا وحدها لا يعطي للعقل البشري ولا القلب الإنساني صورة كاملة عن الوجود الإنساني وحقيقة الحياة كلها وتكاليفها وارتباطاتها، ولا ينشئ تصوراً صحيحاً عن الأوضاع والقيم والموازين؛ فالدنيا هي شطر الحياة الأدنى والأقصر، وبناء النفس والسلوك على حساب الشطر الأقصر لا ينتهي أبداً إلى أي تصور صحيح أو سلوك صحيح؛ فهم لا يعلمون إلا ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون.

بقي أن نفند الادعاء بجواز الاستعانة بالمصطلحات الغربية في فهم الإسلام على أساس قوله -صلى الله عليه وسلم- بأن «الحكمة ضالة المؤمن؛ فحيث وجدها فهو أحق بها» . هذا الادعاء مردود عليه بأمرين:

أولهما: ما قاله أبو عيسى: «هذا حديث لا نعرفه إلا من هذا الوجه، وإبراهيم بن الفضل المخزومي يضعف في الحديث من حيث حفظه» . هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نجد الحكمة في كتاب الله نوعين: مفردة، ومقترنة بالكتاب. أما المفردة فقد فسرت بالنبوة وبالقرآن والعلم والفقه، وفي تفسير آخر أنها: الإصابة في القول والفعل، وأنها معاني الأشياء وفهمها. وقيل إنها الورع في دين الله. أما الحكمة المقترنة بالكتاب فهي السنة، وقال الإمام الشافعي وغيره هي القضاء بالوحي، وأوَّلَها مجاهد بأنها: معرفة الحق والعمل به، والإصابة في القول والعمل، وهذا لا يكون إلا بفهم القرآن والفقه في شرائع الإسلام وحقائق الإيمان. والحكمة أيضاً حكمتان: علمية وعملية؛ فالعلمية هي الاطلاع على بواطن الأمور ومعرفة ارتباط الأسباب بمسبباتها، خَلْقاً وأمراً وقَدَراً وشرعاً. أما العملية فهي وضع الشيء في موضعه؛ وذلك بأن تعطي كل شيء حقه، ولا تتعدى حده، ولا تعجله عن وقته ولا تؤخره عنه؛ فالحكمة إذن: «فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي» .

والثاني: أن العلماء الغربيين أنفسهم يعترفون بأن ما لديهم ليس من الحكمة، وأن علومهم ـ المتعلقة بالإنسان والمجتمع ـ تحتوي على ترسانة ضخمة من المصطلحات الغامضة، وأن مقولاتهم مقولات من الدرجة الثانية، وأن ما لديهم هو ما يعرفه رجل الشارع، والفارق هنا هو أنهم «يعيدون صياغة ما يقوله كل أحد بطريقة لا يفهمها أي أحد» واعترفوا كذلك بأن علومهم ليست عالمية ولا تستند إلى قاعدة كافية عن سائر المجتمعات البشرية، وأن نظرياتهم ليست مختلفة فقط، ولكنها متضاربة ومتصارعة وذات قضايا مكررة وسطحية وغير متجانسة وليس هناك اتفاق عليها، وأنها ليست سوى رطانات لا تدعمها الحقائق، القليل منها هو الذي يعطي تفسيراً منطقياً جاداً للقضية التي يتناولها، كما أنه ليس لنظرياتهم قوة توجيهية وأنها غير قادرة على فهم المشكلات الواقعية، ولا تستطيع تحديد مشكلة بطريقة منظمة، ولا توجه جهداً لحل مشكلة.

وإذا كان هذا هو اعتراف علماء الغرب بأقلامهم، فأين الحكمة التي يمكن أن تؤخذ منهم فضلاً عن أن نستعين بما لديهم في فهم إسلامنا؟ بل نسعى إلى تجذير في تربتنا الإسلامية.