سياسة شرعية
نحو بناء لمصطلح النخبة من منظور إسلامي
بقلم: كمال حبيب
يشير مصطلح النخبة في العلوم الاجتماعية إلى الصفوة المتميزة التي تمتلك
من القدرات التنظيمية والخصائص النفسية ما يؤهلها لأن تكون فاعلة ومؤثرة في
الجماعات التي تنتمي إليها، ولأن كل مجتمع يتكون من جماعات متعددة فإننا
سنكون بإزاء صفوة في كل جماعة، وهو ما جعل بعض المهتمين يتحدث عن نُخَبٍ
(بالجمع) وليست نخبة واحدة.
وقد ركّز المنظور النخبوي في صيغته التقليدية على النخبة السياسية أيْ
الأقلية المتميزة التي تنخرط في الصراع السياسي والاجتماعي للحصول على القوة
التي تُساعدها في التأثير على توجيه القرارات السيادية التي تخصِّص القيم للقوى
السياسية المختلفة في المجتمع لصالحها أيْ أن النُخَب الوسيطة في الوظائف والمهن
والنقابات قد وصفها منظِّرو النخبة التقليديون بأنها نخب غير سياسية فهي وفقاً لهذا
المنظور تحتل مكاناً مرموقاً بَيْن جماعاتها لكنها لا تمارسُ عملاً سياسياً. ويبدو أن
منظِّري النخبة المعاصرين قد شعروا بأن وصف: (النُخب الوسيطة) بأنها غير
سياسية يمثل نقطة ضعف في المنظور التقليدي؛ ولذا طوروا مقولاتهم وتحدثوا عما
أطلقوا عليه: (الطبقة السياسية) وهي أوسع من النخبة السياسية؛ إذ إن مفهوم
الطبقة لا يُطْلَق فقط على الذين يشتركون بشكل مباشر في صناعة القرار السياسي
وإنما يتسع ليشمل قطاعات من النخب الوسيطة التي تنخرط بالضرورة في العملية
السياسية للحصول على جزء من القيم السيادية لصالح جماعاتها.
حقيقة المنظور النخبوى:
يركز المنظور النخبوي على فكرة الصراع السياسي بَيْن الجماعات للحصول
على القوة السياسية التي تُمكِّنها من التحكم والسيطرة، لكنه وخلافاً للمنظور
الماركسي لا يجعل من القوة الاقتصادية العامل الوحيد في حسم الصراعات السياسية؛ وإنما هناك مصادر أخرى للقوة مثل: الخصائص النفسية والسمات الشخصية
للنخبة، وكذلك القدرات التنظيمية، ثم الاقتراب من دوائر صناعة القرار السياسي.
ويرى منظرو النخبة أن الدولة كيان ضروري وهام لا يمكن لمجتمع أن يعيش
بدونها؛ لذا فإنهم يرون أن المجتمع ينقسم أفقياً إلى: أقلية حاكمة النخبة وأغلبية
محكومة، والأقلية النخبة هي التي تسيطر وتوجه وتتحكم، بينما الأغلبية لا يمكنها
إلا الطاعة والخضوع؛ وحتى إذا حاولت الفعل فإنها ستجد نفسها محاطة بقيود
السيطرة التي تفرضها عليها النخبة الحاكمة.
كما يتحدث منظرو النخبة عما يطلقون عليه (دوران النخبة) أي ضرورة
سعيها إلى التكيف مع المتغيِّرات الجديدة بحيث تتقبل الأفكار والدماء الجديدة من
النخب الصاعدة التي تمثل ناتج الصراع السياسي في المجتمع. وكلما كانت النخبة
أكثر قابلية للدوران وأكثر استجابة للتفاعل مع مُسْتَجدات الواقع كلما استطاعت أن
تبقى مسيطرة وحاكمة بينما عجزها عن ذلك يؤدي إلى انهيارها، وبالطبع إحلال
وصعود نخبة جديدة محلها؛ أيْ أن الدولة هي انعكاسٌ للصراع النخبوي تبين القوى
السياسية التي تنخرط في استباقٍ محموم للحصول على أكبر قدر ممكن من النفوذ
والقوة السياسية؛ وهذا يعني أن النخبة هي الفاعل الرئيس في توجيه سير التاريخ
وأحداثه وليس الاقتصاد كما ذهب ماركس.
والمنظور النخبوي قد ظهر في أوروبا في أواخر القرن التاسع عشر كتعبير
عن اجتهاد رأسمالي ليبرالي في مواجهة اكتساح التحليلات الماركسية للقارة. وفي
الواقع فإن الفكر الإسلامي لم يعرف مصطلح (النخبة) وفقاً للتحديد السابق؛ ومن ثم
فإن المصطلح يحتاج إلى إعادة بناءٍ وتحرير من خلال المنظور العربي الإسلامي.
مصطلح النخبة إسلامياً:
يذكر لسان العرب أن نُخْبة القوم هُمْ خيارهم وأنهم الجماعة المختارة من
الرجال وفي حديث علي: وخرجنا في النُخْبة أي المُنْتَخبُون من الناس، المُنْتقون
وفي حديث (سلمة بن الأكوع) : انتُخب من القوم مئةُ رجل أيْ اختارهم، فانتزعهم
من بقية الرجال أيْ أن النُخْبة في اللغة تعني الخلاصة المنتقاة والمنتزعة من الناس
وهُمْ بذلك أقلية متميزة داخل الجماعات التي يمثلونها وهنا يتطابق المعنى اللغوي
لكلمة (النخبة) في اللغة العربية مع أهم ما يشير إليه المصطلح في العلوم الاجتماعية
وهو أن النّخب تمثل صفوات مجتمعاتها.
وفي الإسلام نجد ترتيب أوضاع الناس داخله وفقاً لما نطلق عليه: (التمييز
الوظيفي) أيْ: درجة تمثّل الناس لأوامر وأحكام الإسلام، فالسابق بالخيرات
المُحْسن أرفع درجة من المقتصِد المؤمن وهُو أرفع درجة من المسلم الذي قد يظلم
نفسه باقتراف بعض المعاصي وهنا فإن معيار الانتخاب يكون مبنياً على أسس
وظيفية مرتبطة بالدين الإسلامي وكيفية تحمله وتمثله. وبالطبع فإن قصدنا من
درجة التزام الدين الإسلامي لا يقتصر فقط على العبادات وإنما يتسع ليشمل كل
جوانب الحياة بدءاً بالممارسات الفردية الضيقة، وانتهاءً بالممارسات العليا السياسية
والاجتماعية فالفرز الاجتماعي والسياسي للنخبة من المنظور الإسلامي لا يستند إلى
امتلاك القوة السياسية بمصادرها المختلفة، وإنما يستند بشكل أساس إلى تحقيق
المثالية الإسلامية التي تعني تحويل الدين الإسلامي إلى واقع حَيٍّ متحرك وهنا فإن
النخبة الإسلامية في العهد النبوي والراشدي تمثل (نخبة الخبرات الإسلامية)
باعتبارها الأكثر تعبيراً عن تمثل رُوح الشريعة، كما أن جيل الصحابة الذين
شاركوا في بناء هذه الخبرة يمثلون (النُخْبة المرجعية) لكل الأجيال التالية عليها؛
لأنهم كانوا الجيل الأكثر تمثلاً للإسلام في واقعه وحياته؛ وهُمْ في التحليل النهائي
الصفوة التي وضعت أسس التعامل بين الشريعة والواقع عبر الوسائط المنهاجية
التي كونت فيما بعد المذاهب الفقهية في صياغتها الكاملة.
وكما يستبعد المعيار الوظيفي الإسلامي أن تكون القوة السياسية هي أساس
تصعيد النُخب في البناء السياسي؛ فإنه يستبعد أيْضاً أن يكون التنافس والصراع
على امتلاك القوة السياسية هُو القانون الحاكم لسلوك النخبة؛ إذ إن السلطة السياسية
في المنظور الإسلامي يتم النظر إليها باعتبارها محنة وابتلاء وليست شيئاً مرغوباً
فيها؛ ولذا لما سأل (الصحابي) أبو ذر النبيّ -صلى الله عليه وسلم- أن يعطيه
ولاية أي سلطة قال: (إنك ضعيفٌ، وإنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزيٌ وندامة إلا
من أخذها بحقها وأدى الذي عليه فيها) . كما جاء في الحديث: (ما من راعٍ أيْ
صاحب ولاية يسترعيه الله رعيةً يموت يوم يموت وهو غَاشّ لها إلا حرم الله عليه
رائحة الجنة) ويلاحظ أن المنظور الإسلامي يربط غايات العملية السياسية
والاجتماعية بما وراء الدنيا أي بالآخرة؛ وهو ما يجعل الصراع والتدافع بين
النخب السياسية والاجتماعية محكوماً بضوابط أخلاقية تخفف من نتائج هذا الصراع
وحدّته، وتجعله في المستوى الذي يحافظ على الفعالية السياسية للمجتمع دون
تصعيد مدمر للصراع والتدافع من ناحية، ودون فقدان المجتمع لتوتره الإيجابي
المبدع من ناحية أخرى.
إذا كان المنظور النخبوي في التقاليد الغربية يجعل من الأغلبية مجرد كمٍّ
يستقبل توجيه الأقلية الفاعلة التي تتحكم وتوجه، فإن المنظور الإسلامي يرفض أن
يكون واحد ممن ينتمون إلى الإسلام مجرد قابل سلبي لعمليات قطاع أو قطاعات
فاعلة في المجتمع، فالمسلم له موقف إيجابي من الكون والخلق والخالق وهذا هو
المقصود بالآية الكريمة: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَاًمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ
وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ] [آل عمران: ١١٠] ، وأيضاً: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً
لِّتَكُونُوا شُهَدََاءََ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً] [البقرة: ١٤٣] ، وفي
الحديث: (من رأى منكم مُنْكراً فليُغَيِّرْه بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم
يستطع فبقلبه وذلك أضعفُ الإيمان) أيْ أن النخبة لا تقف في مواجهة الناس أو
العوام أو الجماهير أو الشعب، ولكنها جزءٌ منهم وتعمل لصالحهم بما في ذلك
السماح للنخب الجديدة التي تنبت من قلب الواقع الحي للجماهير بأن تصعد وتبزغ
دون اعتبار لما يسمى في التقاليد الغربية بـ (القانون الحديدي للأوليجاركية) ، بل
إن الشعب أو الأغلبية في حال فساد النخبة يفرز ما يسمى بـ (النخبة المضادة)
وذلك وفقاً لما يمكن أن نطلق عليه: (قانون تداول النخب) ، ففي كل حالة تم فيها
فساد النخبة فإن الآلية الداخلية للإسلام المستندة لمبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر تنتج نخباً جديدة تنازع النخبة الفاسدة شرعيتها، وفي الغالب استطاعت
هزيمتها وتحقيق شرعية جديدة عن طريق نخبة جديدة؛ فالدولة الأموية نازعتها
النخبة العباسية واستطاعت هزيمتها وتأسيس الدولة العباسية، وفي إطار الدولة
العباسية ظهرت دول في مناطق الأطراف مثل السلاجقة، كما ظهر الطولونيون
والإخشيديون ثم الدولة العثمانية، وكل دولة كما هو واضح تسمت باسم مؤسسيها،
وهؤلاء المؤسسون يمثلون النخبة الحاكمة.
مصطلحات إسلامية في الموضوع:
عرف الفقه السياسي الإسلامي مصطلحات قريبة في دلالتها من مصطلح
النخبة مثل مصطلح: (أهل الحل والعقد) و (أهل الشورى) و (أهل الاختيار)
و (أهل الاجتهاد) وقدم (ابن خلدون) مصطلح العصبية. وفي الواقع المعاصر فإن
(النخبة) حين تُطْلق يسبق إلى الذهن مصطلح (المثقفون) وقد حاول بعضهم تقديم
بديل معاصر فاقترح ما أسماه: (السُرَاتيّة) واللفظ مأخوذ من بيت الشعر العربي:
لا يصلحُ الناسُ فوضى لا سُراةَ لهم ... ولا سراة إذا جُهّالهُم سادوا
ونعرض في حدود ما يسمح به المقام لمعاني هذه المصطلحات:
١- أهل الحل والعقد: هُو مصطلح تاريخي عبّر به الفقهاء عن طوائف
متعددة في المجتمع المسلم يشير إجماعها أو اتفاق جمهورها على أن ما ذهبوا إليه
هو محل قبولٍ ورضا لدى الأغلبية المسلمة، كما يشير أيضاً إلى ضرورة الرجوع
إلى من يعبر عنهم هذا المصطلح لإدارة شؤون الجماعة بالإمضاء أو المنع.
وقد عبر مصطلح أهل الحل والعقد في الخبرة الإسلامية عن الذين يمثلون
قطاعات متنوعة من أصحاب السلطة في المجتمع؛ فالولاة وقواد الجيوش يمثلون
السلطة التنفيذية، وقادة القبائل ووجوه الناس يمثلون السلطة المجتمعية، والعلماء
والفقهاء يمثلون السلطة القضائية وسلطة الإفتاء فالمصطلح في الواقع هو تعبير عن
المصطلح القرآني: (أولو الأمر) بالمعنى الواسع.
٢- أهل الاجتهاد: وهُمْ الفقهاء الذين يؤهلهم تخصصهم في الشريعة أن
يكونوا مراجع فقهية لأهل الحكم في التعرف على الأحكام الشرعية الاجتهادية؛ كما
أنهم المراجع الشرعية للجماهير أيضاً، ومنهم يتم اختيار القضاة والمفتين؛ ويدخل
ضمن هؤلاء المؤهلون في التخصصات العلمية الأخرى في كافة مناحي الحياة.
٣- أهل الشورى: وهم قِطاع من أهل الحل والعقد يغلب على عملهم التشاور
مع السلطة التنفيذية قبل اتخاذها القرارات السياسية، ويلاحظ أن الفقهاء استخدموا
المصطلحات السابقة بشكل غير محدد؛ إذ كان يتم استخدام أحدها للتعبير به عن
الآخر؛ وهذا مرده في الواقع لبساطة المؤسسات في بدايتها، وحين بدأ تكاملها
وتعاظم تعقيدها انفصلت كل مؤسسة وتحدد بشكل واضح النخبة التي تمثلها.
٤- العصبية: استخدم ابن خلدون مفهوم العصبية أداةً تحليلية لفهم الاجتماع
العربي الإسلامي؛ إذ إن الانتماء القرابي والعشائري كان سبباً للتعاضد والتلاحم
الذي يؤدي إلى القوة والشوكة ومن ثَمّ التحكم والسيطرة؛ وبهذا المعنى فإن العصبية
عند (ابن خلدون) قريبة من مصطلح النخبة؛ حيث العصبية تشير إلى الأقلية
الحاكمة المستندة إلى قوة النسب، وتشير النخبة إلى الأقلية الحاكمة المستندة إلى
القدرة التنظيمية أو الاقتصادية أو السمات النفسية والشخصية، ولم يكتف (ابن
خلدون) بالإشارة إلى رابطة النسب في تحقيق السلطة السياسية بل تحدث عن الدين
باعتباره مصدراً للقوة يزيد من قوة العصبية وقد يستقل لتأسيس اجتماع بشري كما
حدث في الدولة النبوية الأولى. وتحدث (ابن خلدون) عن عصبية الدولة التي
تستخدم الموالي كقاعدة سياسية لها؛ وقد حدث ذلك في الدولة العباسية حين استقدم
المعتصم العباسي الترك، وجعلهم عصبية الدولة. فالعصبية باعتبارها أساساً
للتماسك السياسي هي وجهٌ هُو أقرب التحليلات للمنظور النخبوي، أو إن شئنا الدقة
فهو المنظور النخبوي في صيغته العربية الإسلامية.
وأخيراً:
حاول بعضهم كما أسلفنا الاجتهاد فقدّم مصطلح (السُرَاتية) وعرفه بأنهم:
(الأفراد الذيتن بيدهم أمر الحل والربط، ويمكن أن نعينهم بذواتهم دون الدخول في
إشكالية الأنظمة) .
ونحن من جانبنا نقبل مصطلح (النخبة) لكنه في بنائه الإسلامي يعني:
الجماعة المختارة والخلاصة المنتقاة من كافة قطاعات المجتمع التي تدير شؤونه
العامة استناداً إلى المرجعية الإسلامية بقصد تحقيق المصالح الكلية الضرورية
والحاجية والتحسينية) .
إن مصطلح النخبة في مدلوله الغربي شديد الشبه بمصطلح (العصبية) بيد أن
تركيز الحضارة الغربية على قيم الصراع المفتوح بلا ضوابط، واعتبار امتلاك
القوة والسلطة غاية، وتعظيم الفردية السياسية يجعلنا نحدد بناءه من جديد بحيث
نُطَعِّمه بقيم الحضارة الإسلامية التي توازن بين مصلحة الفرد والجماعة، وتضبط
أسباب الصراع ودوافعه كما تجعل الحركة السياسية محكومة بإطار المرجعية
الإسلامية.