[مساجد العراق ومواجهة التحديات والأخطار]
حسين عبد عواد مخلف الدليمي
من المعلوم ضرورةً أن المسجد قد أدى رسالة عالمية في نشر الإسلام وتعاليمه؛ حيث كان أحد الركائز التي قام عليها الإسلام، ولذلك سارع النبي -صلى الله عليه وسلم - إلى بنائه بعد هجرته إلى المدينة المنورة ... ومن ثَمَّ كان المسجد المدرسة والتاريخ والحضارة ومكان الإصلاح والتداوي والتدريب، وهو ملتقى التعارف والأخوة، بل هو كل شيء في حياة المسلم؛ ولذلك أدرك الأعداء هذه الرسالة المباركة، وكثرت المعسكرات والمؤسسات المعادية له، ولما يقوم به من رسالة في الإسلام.
وإذا كانت هذه المعسكرات والمؤسسات لم تُعْلِن عن عدائها للمسجد صراحة؛ فإنَّ عداءها للإسلام هو في الحقيقة عداءٌ للمسجد ورسالته؛ لأننا ذكرنا أنه أحد ركائز ودعائم الإسلام.
فالمسجد إذن يلعب دوراً كبيراً ومهماً: دينياً، وثقافياً، وسياسياً، واجتماعياً؛ فهو المكان الذي تأوي إليه النفوس، وتهفو إليه القلوب، وإلا لما أولاه النبي -صلى الله عليه وسلم - هذه العناية والرعاية.
وإذا رجعنا إلى الوراء قليلاً ـ مع بداية الاحتلال الأمريكي للعراق ـ وجدنا أنَّ إقبال الناس على المساجد كان إقبالاً منقطع النظير؛ لأنهم أدركوا أنه المأوى الحقيقي الذي تجد فيه نفوسهم الراحة والطمأنينة، على اعتبار أنه مكان العبادة والصلاة، والتي كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إذا حزبه ـ أي أحزنه ـ أمرٌ صلى» ، وكان رسول الله -صلى الله عليه وسلم - يقول لبلال ـ رضي الله عنه ـ: «أرحنا بها ـ أي الصلاة ـ يا بلال!» .
وإنَّ طبيعة أي بلد تُحتل أرضه، وتُنتهك حرماته أن تداس مساجده، وأن يُستهان بشعائره ومقدساته.
ففي الوقت الذي جاءت جيوش الاحتلال الجرارة بدعوى تحرير العراق كذباً وبهتاناً، إذا بها باسم التحرير والديمقراطية تتعدى اعتداءً صارخاً على مقدسات البلد وشعائره الدينية.
وليس ذلك بغريب على معسكر الشرك والإلحاد. وبالمقارنة بين ما فعله التتار ببغداد بالأمس عندما احتلوها لأول مرة، وما فعله اليهود اليوم يجد توافقاً عجيباً ينبئ عن الهمجية التي يحملها العدو الغاشم؛ فقد فعل التتار المغول ما فعلوا من تدنيسٍ لمساجد المسلمين؛ وإنْ ينسَ التاريخ شيئاً فلم ولن ينسى ما فعله التتار بمساجد بغداد وأئمتها وخطبائها وقرَّائها، وما ارتكبه السيخ والهندوس من مجازر بالمسلمين في الهند، وما فعله الشيوعيون بالمساجد؛ حيث قاموا بتحويلها إلى نوادٍ وملاهٍ ومسارح وسينمات ومدارس علمانية.
واليوم ـ وفي ظل الاحتلال البغيض ـ تعاد الكرة نفسها التي أعلن من خلالها أعداء الإسلام من المشركين والملحدين حربهم ضد مساجد المسلمين في العراق؛ فقد انتهكت حرمات المساجد في عراق الحرية والديمقراطية الجديد.
فهذه الفلوجة ـ التي شرد مئات الآلاف من أهلها ـ والتي شهدت معركة ضارية كتبها التاريخ في صفحاته بماءٍ من ذهب، والتي لقَّنَ أهلُها المشركين درساً لن ينسوه على مر التاريخ في المقاومة والثبات.
وكان من بين ما قام به المحتل: قصف المساجد والمآذن، والتعدي على روادها وأهلها، بل تعدى الأمر إلى قتل من يلجأ إليها ويستأمن فيها؛ ولعل كثيراً من أبناء أمة المليار والربع رأت بأم عينها ذلك المشهد الفظيع الذي قام من خلاله أحد جنود الاحتلال الأمريكي بقتل أحد المواطنين الآمنين العزَّل بعدما لجأ إلى أحد المساجد على اعتبار أنه مكان مستأمن في كل الديانات السماوية.
ولا تزال آثار القصف والدمار والخراب واضحة على هذه المساجد المباركة؛ وما وقعت هذه الأعمال الوحشية إلا بعد أن أدرك المحتل أن المساجد هي مصدر البطولة والفداء وقوة العقيدة والإيمان. فلا تحزني يا فلوجة الصمود ولا تتأسفي! فستبقين في القلوب وحدق العيون؛ فإنكِ بحق «مدينةُ المساجد وبلدُ الأماجد» .
ومساجد بغداد هي الأخرى انتُهكت حرماتها وديست قدسيتها؛ فهذا مسجد الإمام أبي حنيفة النعمان في الأعظمية ـ وهو أكبر مساجد السنَّة في العراق ـ تعرض للقصف والدهم مرات عديدة؛ ولعل المرة الأخيرة من عمليات الدهم والتفتيش نالت القسط الأكبر من الهمجية والعدوان؛ فقد اقتُحِم المسجد من قِبَل قوات الجيش العراقي الجديد يوم جمعةٍ، وقُتل في المسجد بعض المصلين، واعتُقل العشرات منهم بأسلوب همجي مشين.
وقد ازداد الأمر شراسة وازدراءً بعدما طالت أيادي الاحتلال البغيضة شخصيات إسلامية وعلمية من أئمة وخطباء المساجد من قتل أو اعتقال، وقد سمع العالم كله من خلال الفضائيات نبأ مقتل الشيخ موفق مظفر الدوري عضو هيئة علماء المسلمين بعدما اقتحمت قوات الاحتلال الأمريكي منزله في بغداد.
وقد تحدثت هيئة علماء المسلمين ـ المرجعية العليا لأهل السنَّة في العراق ـ منذ فترة عن اعتقال أكثر من سبعين إماماً وخطيباً في مساجد العراق.
وإذا توسعنا في حديثنا عن تلك الانتهاكات، وتحديداً في كلامنا عن المناطق التي تقع غرب العاصمة بغداد، مما يسمى بالمناطق الساخنة، وتحديداً بمركز محافظة الأنبار «مدينة الرمادي» كنموذج لمدن أخرى قام الاحتلال بالعبث بمساجدها؛ فإننا نلحظ مشاهد عجيبة وغريبة؛ فقد انتُهكت حرمات المساجد في هذه المدينة مرات عديدة، واعتُقل عدد كبير من روادها وأئمتها وخطبائها، وفي ليلة واحدةٍ دوهم ما يقرب من عشرة مساجد، وصاحب ذلك تفجير للأبواب وتكسير للزجاج، وتخريب للحاجيات والممتلكات.
وفي تقرير إعلامي أعده «مركز البلاغ الإسلامي في العراق» مرفوع إلى هيئة علماء المسلمين، ذكر فيه المساجد التي أنتهكت حرماتها في مدينة الرمادي خلال مداهمة منظمة ليلة ١١/١٠/٢٠٠٤م، وهي:
١ - جامع الدولة الكبير، وهو الذي يضم مقر هيئة علماء المسلمين فرع الرمادي.
٢ - جامع عبد الله بن أم مكتوم؛ حيث كسرت الأبواب بإلقاء المتفجرات، واعتقل خادم ومؤذن المسجد المتواجد فيه.
٣ - جامع محمد عارف، وقد قامت قوات الاحتلال أثناء مداهمته باعتقال الشيخ الدكتور عبد العليم السعدي رئيس رابطة علماء الأنبار ونجله.
٤ - جامع الصديقة عائشة (الحاج دهر) ، وقد تميز انتهاك هذا المسجد زيادة على تكسير الأبواب: بالعبث بالمصاحف الشريفة ورميها على الأرض.
٥ - جامع الشيخ عبد الجليل، الواقع على الشارع العام في الرمادي.
٦ - جامع القاضي، الواقع في وسط مدينة الرمادي من جهة الشرق.
٧ - جامع بديع السماوات والأرض، الذي يقع في منطقة الملعب.
٨ - جامع عباد الرحمن، الواقع في حي الشرطة.
وحجة هذه القوات المحتلة حسب ما جاء على لسان المكتب الإعلامي الخاص بها: أنَّ هذه المساجد تأوي عناصر الإرهاب، وأن الإرهابيين يلجؤون إليها عندما يشنون هجماتهم ضد قوات الاحتلال.
إنَّ مواقف المستعمرين والمحتلين معروفة ومشهورة تُجاه المساجد ودور العبادة في كل بلدٍ يحتلونه؛ فهذه فرنسا يوم احتلت الجزائر قامت أول ما قامت به هو تحويل «الجامع الكبير» في الجزائر إلى «كاتدرائية» .
وربط نايليون بونابرت خيوله في الجامع الأزهر، وهدم القبارصة اليونانيون سنة ١٩٦٥م مئة وتسعة وأربعين مسجداً من مساجد المسلمين في قبرص، ومنها «جامع البيرق دار» الذي حُفظت فيه شعرات النبي -صلى الله عليه وسلم -.
ولمّا استعمر البرتغاليون إحدى قرى الهند أحرقوا أحد مساجدها والمصلين فيه، وكان عددهم يبلغ ستة آلاف مصلٍ.
ومن قبل هذا وذاك ذبح الصليبيون في المسجد الأقصى أكثر من سبعين ألفاً من المسلمين، فيهم الكثير من العلماء والزهاد.
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا يعمل هؤلاء على تدنيس مساجدنا ويرتكبون جرائمهم فيها؟
الجواب: أنَّ هؤلاء يعلمون يقيناً من خلال دراساتهم لحضارتنا أنَّ المسجد هو مصدر قوة المسلم، ومنه يستلهم الروح التي يدافع من خلالها عن دينه ووطنه وعرضه ومبادئه.
ولذلك عمل المحتل عملاً منظماً من أجل إيقاف عجلة بعض المساجد المهمة في العراق عن أن تؤدي دورها الريادي والقيادي الموكول إليها باعتبارها إحدى ركائز دولة الإسلام، وقد ركز ذلك العمل في المناطق الساخنة؛ فصلاة الفجر تكاد أن تكون معدومة في عدد كبير من مساجد العراق، وكذلك صلاة العشاء، بحجة ما يسمى بقانون «منع التجول» ، وهو قانون فرضه المحتل وباركته حكومة العراق المعينة من قِبَل الاحتلال.
وقد تعرَّض المصلون الذين يرغبون بأداء هاتين الصلاتين في المسجد لرشقات الرصاص، وجرح عدد كبير منهم، وفي مناطق مختلفة من مدن العراق.
وإذا كان ديوان الوقف السني أعلى سلطة حكومية تُعنى بحماية المساجد وأئمتها وخطبائها ومنتسبيها؛ فإنه مطالبٌ ـ ولا بد ـ أن يضع حداً لتلك الانتهاكات المتكررة من قِبَل قوات الاحتلال بمساعدة جيش العراق الجديد؛ وإلا فإنَّ الديوان سيرسب في هذا الامتحان الذي يخوضه في ظل تحديات هذا الزمن الصعب الذي يعيشه الأبناء المخلصون من أهل بلاد الرافدين في هذه السنين النحسات العجاف.
وإننا لنسأل الله ـ تعالى ـ أن يعجل بنصره وفرجه لأمة نبيه -صلى الله عليه وسلم -، وأن يعيد المجد والكرامة والعز والاستقلال لحاضرة الخلافة ومنبع العلوم والاجتهاد، وأن يوفق الخيِّرين في بلد الرافدين لما يحبه ويرضاه؛ إنه سميع مجيب.
(*) مدير المكتب الإعلامي في مركز البلاغ الإسلامي.