الافتتاحية
العقيدة أولاً.. ولكن
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وصحبه ومن والاه، وبعد..
كثيراً ما تحدث العلماء والمفكرون المسلمون داعين إلى الرجوع إلى منهج
الأنبياء في الدعوة، في خضم الكثير من المناهج الدعوية الجديدة، التي ينأى
بعضها قليلاً أو كثيراً عن ذلك المنهج، مما أدى بتلك الدعوات إلى الإخفاق في
الوصول إلى تحقيق غاياتها المعلنة بتحكيم شريعة الله وحده دون غيره، ودعوة
الناس كافة إلى صراط الله المستقيم، وحينما نؤكد على أهمية الدعوة إلى منهج
الأنبياء (عليهم الصلاة والسلام) ، إنما نعني أن يكون البدء بأي إصلاح منطلقاً من
إصلاح العقيدة فهي الأساس الذي يجب أن تنطلق منه الدعوات بعيداً عن التقليد
والمجاملات، وعدم البدء بجزئيات مهما كانت؛ فهي لا تصل إلى أهمية إصلاح
العقيدة. لقد بدأ بعضهم بالإصلاح الفكري، ومنهم من دعا إلى الإصلاح الخلقي
والروحي، ومنهم من دعا إلى الإصلاح السياسي، ومنهم من دعا إلى غير ذلك.
إن تلك الجهود الجزئية مع ما قدمته من أعمال، ومن مساهمة في التأثير على مسار
الصحوة الإسلامية المعاصرة، قد توقفت عند مدًى معين لم تتجاوزه، فولّد ذلك
إخفاقات في مجال الدعوة مازلنا نلمس آثارها في كثير من الأحيان من الخلافات
المستمرة والصراع المرير بين رفاق الدعوة والجهاد، فضلاً عن العجز عن قطف
الثمار التي طال انتظارها.
فحتى متى تبقى الدعوة الإسلامية حقلاً للتجارب. إنه من المحتم على أولي
الشأن من العلماء والعاملين في سلك الدعوة إلى الله التوقف كثيراً أمام بعض ما
حصل من الوقائع والفجائع، ودراسة هذه الظواهر المقلقة، وما تنطوي عليه
نفسيات بعض المنتسبين للدعوة من: حزبية، وتعصب أعمى، وتقديس للرجال.
وسنجد أن وراء تلك السلبيات والمشكلات في طريق الدعوة
أسباب، منها:
١- أن كثيراً من الاتجاهات الدعوية لا تنطلق من تأصيل شرعي صحيح في
مناهجها، مما أدخل في بعض الدعوات أفراداً من الشباب المتحمسين الذين ينقصهم
العلم الشرعي، مع الأنفة من الرجوع إلى العلماء الموثوقين لاستشارتهم.
٢- ولقد نتج عن السبب الأول: أن تسيد في بعض الحركات الإسلامية
أصحاب الفكر البدعي، وأصبحوا منظرين لتلك الحركات، مما أدى أحياناً إلى
وجود سلوكيات لا تمت إلى الإسلام بصلة.
٣- الفهم الجزئي لديننا الحنيف، والانطلاق من جزئيات معينة كما ذكرنا
والبناء عليها، وتناسي الأصول التي يجب البدء بها والبناء على أسسها.
٤- التوجه الحزبي الضيق لبعض الدعوات الذي جعلها تتقوقع على نفسها،
وربما رأت أنها هي التي على الحق وحدها، وهذا نظر قاصر وتزكية للنفوس
تخالف الأصول الشرعية، وغمط لحقوق الدعاة العاملين.
٥- البعد عن الحوار البناء لإيجاد أرضية مشتركة بدءاً من إصلاح العقيدة،
مما ولد صراعاً عنيفاً حتى بين بعض فئات الجماعة الواحدة والمنهج الواحد، مما
جعل أعداء الدعوة من العلمانيين وغيرهم يشعرون بالغبطة، وهم يعملون لتأجيج
مثل تلك الخلافات ليستمر الصراع المؤسف بين الأخوة والأشقاء.
ماذا نعني بإصلاح العقيدة:
الذي نعنيه بإصلاح العقيدة هو: نهج الطريق الذي سلكه الأنبياء (عليهم
الصلاة السلام) وعلى رأسهم نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- في دعواتهم لأممهم
التي أرسلهم الله (تعالى) إليها، فهذا هو الطريق الأمثل الموصل إلى الغاية المرجوة
ومحورها الأصيل، العبودية المطلقة لله وحده، وتحقيق الألوهية له (جل جلاله)
ودعوة الناس إليها، وتربيتهم عليها قبل أي شيء آخر، فمفتاح دعوة الرسل:
معرفة الله بأسمائه وصفاته وأفعاله، وتحقيق الحاكمية في التشريع لله (عز وجل) ،
والولاء والبراء على ذلك. وينبني على هذه المعرفة مطالب الرسالة كلها.
إن كل داعية مخلص يجب أن ينطلق في دعوته من أصول أهل السنة
والجماعة المعتبرة، بعيداً عن المناهج البدعية من: صوفية، وكلامية، وعقلانية
بحتة، فهي التي أدت بالأمة إلى التشرذم والتفرق.
وما ننصح به إخواننا الدعاة جميعا عدم الاستعجال في قطف الثمار، فذلك آفة
تؤدي إلى سلوك الأساليب البعيدة عن الحكمة.
إننا حقاً بحاجة ماسة إلى العودة إلى سنن الأنبياء في الدعوة، وقد وضحت لنا
السيرة النبوية المنهاج لبناء مجتمع إسلامي، فمتى يتعاون الدعاة فيما بينهم؟ !
ومتى يصل الدعاة والعلماء العدول إلى كلمة سواء بدلاً مما هو حاصل في أحيان
كثيرة من جفاء وعدم مودة، لمسنا آثارها السيئة على واقعنا الدعوي، مما جعل
الأعداء يشمتون بنا، وجعل الأصدقاء لا يملكون سوى الدموع حيال ما حصل
ويحصل، إننا بحاجة حقاً إلى التوقف والمراجعة والعودة إلى المنهاج النبوي كما
رسمته لنا السيرة الصحيحة.
فحسن النية والإخلاص وحده لا يكفي في توصيل الدعوة إلى الناس وقبولهم
لها، نعم العقيدة أولاً، ولكن لابد من التزام الأساليب الدعوية الحكيمة، واقتفاء آثار
الوحيين، وتجريد المتابعة للرسول -صلى الله عليه وسلم-.
لقد جربنا كثيراً من المناهج الجديدة التي ألمحنا إلى بعضها، غير أن حالنا لا
يسر، ولم يبق لنا سوى منهج الأنبياء في الدعوة كما فصله بأوضح بيان نبينا
وأسوتنا وقائدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- في سيرته وسنته ونقَلَهُ عنه أصحابه
والتابعون لهم بإحسان [أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ... ] [الأنعام٩٠] ،
وهذه عبودية كان يلزم الأخذ بها من أول الطريق.
إننا نريد أن تكون أساليب الدعوة المحسوبة على أهل السنة والجماعة (أهل
الحديث) هي الأساليب النبوية الصحيحة، كما هو معهود عنهم قديماً وحديثاً، وكما
فصلها كثير من العلماء والدعاة العدول.
والله نسأل أن يوفق الجميع لما يحبه ويرضاه، وأن يلهمنا حسن القصد في
القول والعمل.. والله المستعان..