للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في دائرة الضوء

[الشيوعيون والوظيفة الجديدة]

د. محمد يحيى

من الظواهر الثقافية التي تستحق الرصد أو على الأقل التسجيل في العالم

الإسلامي وبالذات البلاد العربية في الفترة الأخيرة ذلك الدور الذي أنيط بنفر من

الشيوعيين أو أنهم سعوا إليه في منظومة التصدي للحركات والفكر الإسلامي إن

نجم النخب الشيوعية الذى علا وتألق في سماء عدد من البلدان العربية في ...

الأربعينات وحتى الستينات قد خبا وأفل في السنوات الأخيرة، ولا يرجع ذلك

فحسب إلى تدهور وسقوط التجارب السياسية الشيوعية فيما عرف بالاتحاد السوفيتي

والكتلة الاشتراكية بل إن هذا السقوط للشيوعية المحلية كان قد بدأ قبل سقوط

الشيوعية الدولية بعد فشل طروحاتها المحلية وبعد ثبوت تواطئها مع مجمل النخب

العلمانية الحاكمة وبعد تخليها عن العديد من مواقفها وشعاراتها التي أعلنت فيها

الانحياز للجماهير الكادحة وتغيير المجتمع إلى الأفضل وما شابه ذلك من الأهداف.

إن القضية المحيرة التي ظهرت في الأعوام الأخيرة وشغلت بالعديد من

الكتاب الصحفيين تمثلت في سؤال مهم هو: لماذا سقطت الشيوعية في روسيا

وأوروبا الشرقية وغير ذلك من أنحاء العالم بينما ازدهرت فجأة في عدد من البلدان

العربية في وقت كان فيه الجميع يتحدثون عن ذبولها؟

والواقع أن هذا السؤال وبصياغته هذه بحاجة إلى توضيح وتحليل. إن

السقوط الذي حدث في أوروبا الشرقية وغيرها كان في المقام الأول سقوط أنظمة

سياسية واجتماعية واقتصادية شيوعية لأسباب داخلية وخارجية متعددة سبقه فشل

الفكر الاشتراكي النظري والأيدلوجية الماركسية التي كانت تستند إليها تلك النظم.

وقد بادر بعض المحللين المدافعين عن النظرية الماركسية إلى التمييز بين الأنظمة

والتجارب الشيوعية من ناحية، التي اعترفوا بفشلها، وبين الفكر الاشتراكي كفكر

اجتماعي سياسي اقتصادي من ناحية أخرى الذي أقروا بتعرضه للفشل إلا أنهم رأوا

أنه ممكن تعديله لمواجهة الظروف الاقتصادية العالمية الجديدة وهي سيادة النظام

الرأسمالي الغربي ومعه فلسفاته المميزة من ليبرالية وبراجماتية ويمينية وغيرها.

كذلك ميز المدافعون بين النظم والتطبيقات الشيوعية - الاشتراكية من ناحية وبين الفكر الماركسي من ناحية أخرى فبينما رأوا أن الأولى قد فشلت وتهاونت زعموا أن الأخير مازال حيا وصالحاً وأنه قابل للتطور والتكيف ليتمشى مع التطورات العالمية.

وذهب بعضهم إلى أنه إذا كانت الماركسية كفكر قد ثبت خطؤها في معظم تنبؤاتها وتفاصيلها التحليلية إلا أنه تبقى مبادئها العامة ومستوياتها النظرية العليا الصالحة لتكون إطار نظر فلسفي في شتى جوانب الحياة أي أنه إذا كانت الماركسية قد فشلت كعلم كما كانت تزعم لنفسها إلا أنها لم تفشل كفلسفة أو كدعوة أيدلوجية

«أخلاقية» ! ! أو كإطار نظري لتحليل المجتمع وفهم ووضع بعض الطرق والبدائل أمامه.

ويذكر أن الذاهبين إلى هذا الرأي الذي يحول الماركسية من عقيدة ثورة وتغيير

للمجتمع إلى فكرة فلسفية تأملية كانوا من الغرب ومن المفكرين والأساتذة في معاهد

البحث والجامعات بأوروبا الغربية وأمريكا الشمالية حيث أصبحت تسود الآن في

دوائر معينة تلك الفلسفة الماركسية (وليس الشيوعية أو الاشتراكية) المنقحة.

هذا عن مجمل التطور الحادث في الغرب أما في البلدان الإسلامية ونحن

نركز هنا على البلدان العربية، فقد فشلت أيضاً الأنظمة الحاكمة التي إن لم تكن

شيوعية معلنة - باستثناء ما كان في اليمن الجنوبي أو بعض فترات الحكم في

العراق أو السودان أو مصر - إلا أنها تبنت ما وصف بالاشتراكية في المجالات

السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية. ومع فشل هذه الأنظمة الحاكمة من

خلال الهزائم الخارجية العسكرية وتفاقم الأزمات الداخلية انهارت أحزابها الأحادية

وسقطت معها الأحزاب الشيوعية، المعلنة وشبة المعلنة، التي كانت تساندها بالدعم

السياسي والمعنوي والدعائي الفكري. وسقط كذلك الفكر والبرنامج الاشتراكي ولا

سيما في المجال الاقتصادي والاجتماعي. لكن هذا السقوط لم ينسحب على النخب

الشيوعية الفكرية والثقافية والإعلامية وبعض النخب السياسة التي كانت خلال فترة

الأنظمة الاشتراكية قد نجحت في التخندق في العديد من المؤسسات السياسية

والاجتماعية كالنظام السياسي الحزبي والإعلام والتعليم الجامعي والثقافة بل وبعض

هيئات صنع القرار على المستويات العليا كوزارات الخارجية والمكاتب الرئاسية

الاستشارية وما شابهها.

ونشأ في البلدان العربية خلال الثمانينات وضع محدد غريب يتمثل في وجود

نخب شيوعية قوية في مواقع مؤثرة ولكنها تسبح في شبه فراغ بعد سقوط الأنظمة

الدولية أو ضعفها التي كانت تستمد منها الدعم والقوة المادية والمعنوية وتعمل من

خلالها وفي سياقها وبالإضافة إلى ذلك فإن الرسالة- الاشتراكية الشيوعية ذات

المحتوى السياسي والاقتصادي التي كانت هذه النخب تروجها من خلال مواقعها

وتعاونها مع الأنظمة قد فقدت مصداقيتها وسقطت هي الأخرى تاركة النخب بدون

محتوى أو رسالة سوى ذلك الكم من الفكر الماركسي النظري الذي وجد لنفسه

فرصة حياة داخل نطاق الفلسفة الغربية العلمانية التي احتضنته كأحد روافدها

المتعددة. لكن المشكلة التي واجهت هذه النخب الشيوعية المحلية تمثلت في أن جل

أفرادها لم يكونوا من المثقفين حقيقة أو الفاهمين أو حتى المطلعين على هذا الفكر

الماركسي لأنهم كانوا يعيشون على فتات نظري محدود متمثل في بعض الشعارات

والشذرات ألقيت لهم من الكتلة الشرقية البائدة في سنوات سابقة من التلقين والترويج

والدعاية العقائدية الفجة. ومن هنا انطبق على النخب الشيوعية المحلية قانون البقاء

للأصلح وتعرضت لمزيد من الضعف ليس فقط لانفصالها عن الأنظمة الحاكمة

المغذية لها ولا عن الكتلة الاشتراكية الأم بل لأنها كذلك لم تكن تتقن صنعة الفكر

الماركسي النظري الذي تبقى بعد الانهيار العظيم.

ولكن وسط هذا الركام من التدهور والفوضى تجمعت عناصر قوة معينة أو

لعلها «عوامل حظ» لتنقذ هذه النخب. أول هذه العوامل هو أن انفصال النخب

الشيوعية المحلية في الظاهر عن دعم وقوة الأنظمة السياسية الحاكمة محلياً أو دولياً

مع انهيار هذه الأنظمة ومعها الحركة الدولية الشيوعية قد أزال أو أضعف عنصر

الخوف والقلق والتوجس الذي كانت دوائر محلية عديدة حاكمة وعلمانية ومتغربة،

تنظر به إلى تلك النخب. فقد انتهت مثلاً نظرية الخطر السوفيتي وخطر نخب

الشيوعية كعملاء وطلائع للسوفيت وانتهت نظرية خطر الثورة العمالية وغيرها من

الأخطار التي كانت هذه النخب تمثلها وأدى هذا الوضع إلى إزالة أي تحرج من

التعامل مع النخب الشيوعية لا سيما فى حالة ضعفها المادي والمعنوي وإفلاسها

وخوائها وفشلها الفكري الواضح لقد تحول الثعبان الضاري فجأة إلى حيوان أليف

منزوع الأنياب والسم.

وعنصر القوة الثاني هو ذلك الالتقاء الذي يبدو غريبا لكنه منطقي وطبيعي

الذي حدث بين النخب الشيوعية وبين الدوائر النافذة والسياسات الغربية في المنطقة. لقد نشأ الجميع في العقود السابقة على فكرة أصبحت أشبه باليقين والبديهيات

مفادها أن الغرب لا يعادي ولا يواجه إلا الخطر الشيوعي في المنطقة العربية رغم

أن المواجهة الغربية كانت دائماً وفي الحقيقة مع الإسلام.

وأيا كانت الحال وأيا كان خطر هذا التصور فقد استمر مهيمنا على الأذهان

لكن السقوط الواضح لنظرية الخطر الشيوعى وظهور نظرية الخطر الإسلامي لدى

الغرب كان بمثابة صك البقاء للنخب الشيوعية. فمن ناحية كانت هذه النخب أمام

الغرب مجموعات من المثقفين منزوعة القوة وبلا دور واضح في المجتمعات

العربية التي توجد فيها، ومن ناحية أخرى كانت أفكار بعض أفرادها الماركسية

تلقى القبول في الفكر الغربي المعاصر باعتبارها أحد مكونات هذا الفكر وجذوره

وكذلك باعتبارها فاقدة للطابع الثوري المعادي للغرب الذي كان يميز شعاراتها

المرفوعة في وقت سابق. وبجانب ذلك كانت تلك النخب وبرغم عوامل الضعف

المتعددة التي أشرنا إليها تحتفظ بمواقعها الوظيفية والمؤثرة داخل المؤسسات

السياسية والاقتصادية والثقافية وهى فوق أي شيء آخر تبحث عن دور أو وظيفة

جديدة تتناسب مع مؤهلاتها. واجتمعت كل تلك العوامل لتجعل من التعامل الغربى

مع النخب الشيوعية المحلية أو ما تبقى منها أمرا مرغوبا بل مطلوبا في ظل

سيطرة نظرية الخطر الإسلامي على التفكير الغربي وإزاء «مؤهلات» هذه

النخب من ناحية الموقع الوظيفي المؤثر الموروث من عهود سابقة وامتلاكها لفكر

يحظى بالقبول الغربي العام.

ونقطة الفكر هذه مهمة للغاية في تفسير عنصر القوة الرئيسي الثالث لهذه

النخب ألا وهو الالتقاء والاندماج مع مجمل النخبة العلمانية في العالم الغربي بل

والوصول إلى زعامتها وزيادتها وتوجيهها. إن النخب العلمانية المتغربة في العالم

العربي كما في مجمل العالم الإسلامي قد تأسست على الفكر الليبرالي الذي صيغ

صياغة خاصة ركزت على جوانبه اللادينية وليس الديمقراطية، وكان ذلك أمرًا

طبيعيا في عهود الاستعمار وما له من حكومات محلية. وعندما ورد الفكر الشيوعي

والماركسي إلى البلاد الإسلامية من خلال دعايات الكتلة السوفيتية أو من خلال

التعامل من عدد من البلاد الغربية على المستوى الثقافي والأدبي والجامعي فإنه

برغم احتوائه على عنصر العداء للدين والإلحاد إلا أنه طرح في شكل سياسي

ثوري أوجد قطيعة مع سائر عناصر النخب العلمانية صاحبة النفوذ والمتأثرة بالفكر

الليبرالي والبراجماتي الغربي وتفريعاتها. وهكذا عانت النخبة العلمانية في البلاد

العربية من انقسام بين عنصريها اليميني والأوسط من ناحية واليساري الماركسي

من ناحية أخري، وهو انقسام أضعف من أفاقها إلى حد كبير وكان انقساما تقع

خطوطه على السطح فقط أي في المواقف السياسية والاقتصادية والتكتيكات بينما

كان الجميع في المستويات الأبعد عمقا والأكثر نظرية يشتركون في الموقف العدائي

نفسه الناقد للإسلام من منظور فلسفي ثقافي واحد هو منظور علمانية الغرب المشكلة

في فكر عصر النهضة وعصر التنوير هناك قبل ظهور الماركسية بزمن بعيد وهى

على أي حال بنت هذه العصور مثلها في ذلك مثل الليبرالية والبراجماتية وغيرها

من المذاهب الغربية الكبرى.

لكن التحول الخطير الذي طرأ على النخب الشيوعية في السنوات الأخيرة

قضى على هذا الانقسام وفتح أبواب الوحدة والتكاتف بين مكونات النخبة العلمانية

العامة مرة أخرى بعد أن كان الشيوعيون أو الماركسيون قد ناصبوا الطرف

الليبرالي العداء من موقع الإحساس بالقوة وموقع احتكار التعامل مع الأنظمة الحاكمة، ... وتمثل هذا التحول الخطير في هذا الصدد في سقوط الفكر الشيوعي والاشتراكي

الثوري في جوانبه الاقتصادية والسياسية التي كانت تعتبر حد الانقسام أو الحد

الفاصل بين المكونين الماركسي والليبرالي للنخبة العلمانية. ولم يبق من الفكر

الشيوعي سوى المكون الماركسي الثقافي النظري الفلسفي الأصلي الذي يلتقي مع

الفكر الليبرالي في جذر أساسي هو العلمانية والنظرة الناقدة والرافضة للدين. وهكذا

وبعد تعرية النخب الشيوعية من أسباب القوة السياسية ومن أقسام رئيسة وواسعة

من أفكارها أصبحت مؤهلة وراغبة في الانضمام إلى عموم النخبة العلمانية المتغربة

تلتمس فيها القوة والبقاء من خلال التضامن السياسي كما تلتقي معها في المكون

العلماني الفج والصارخ وفي العداء للدين (الصاعد نفوذه) بعد زوال الكم الفكري

«الكم الاشتراكي الثوري» الذي كان يميزها ويفصلها عنها.

لكن الشيوعية العائدة إلى صف النخبة العلمانية المتغربة العام كانت تمتلك

سبباً آخر للقوة، هو العنصر الرابع في تحليلنا هذا، لا تمتلكه سائر مكونات النخبة

ألا وهو امتلاكها لتحليل مطول ونقدي لظاهرة الدين (المسيحي بالذات) بالإضافة

إلى سبق خبرتها الواسعة خلال الخمسينات والستينات في الحرب الفعلية والمواجهة

الميدانية للتيارات الإسلامية على المستوي الفكري والسياسي. وفي الواقع كانت

هذه الورقة الرابحة أو عنصر القوة الحقيقي الذي يميز النخبة الشيوعية في نظر

السياسة الغربية مؤخراً وأيضاً في نظر الدوائر السياسية الحاكمة الجديدة والتى

خلفت الأنظمة التى سبق أن تعاونت النخبة الشيوعية معها ضد الإسلام صحيح أن

الليبرالية علمانية التوجه وأنها تمتلك هي الأخرى تحليلاً نقدياً للدين تضخم في

العقود الماضية كثيرا لكن هذا التحليل ليس جذرياً أو متخصصاً. مما فيه الكفاية

كما أن الدوائر الليبرالية والمصاحبة لها في العالم العربي بالذات لا تمتلك مثل هذا

التحليل لأنها ركزت في الفترة الأخيرة على الجوانب الاقتصادية بالذات (سياسات

الانفتاح الاقتصادي والخصخصة وتنفيذ برامج المؤسسات المالية الدولية - إلخ)

أكثر من تركيزها على نقد الدين ومواجهة أفكاره وفوق ذلك فإن الخط الليبرالي

العلماني العام كما تطور في العالم العربي لم ينشأ في الغالب علاقة تصادمية مع

الدين بالدعوة إلى الإلحاد أو رفض العقيدة والطعن فيها وفي الشريعة وفي النصوص

الدينية كما فعل الشيوعيون في أوقات سابقة وكما يفعلون الآن ولهذا كانت النخبة

الشيوعية أقوى من سائر مكونات النخبة العلمانية المتغربة في جانب التصدي للفكر

الديني (الإسلامي وحده) الذي أصبح يلح الآن على الدوائر الغربية والأنظمة

السياسية الحاكمة الآن في العديد من البلاد العربية والإسلامية.

لقد تضافرت عناصر القوة الأربعة هذه وتجمعت في نسيج واحد لتؤدي إلى ما

يسميه بعضهم بالازدهار الظاهري الذي تمر به الشيوعية على المستوى السياسي

الرسمي العربي في وقت كان يفترض فيه وفق منطق الأشياء أن تذوي وتذوب.

إن أحزابا شيوعية تقام هنا وهناك في وقت تلغى فيه الأحزاب الشيوعية

الكبرى في شرق وغرب أوروبا وتغير أسماءها خجلا وعارا رغم طول تاريخها.

وفي بلادنا العربية تنشأ الصحف والمجلات ودور النشر والمنتديات والتجمعات

الشيوعية الثقافية والأدبية والنسوية بشكل شبه يومي في الأعوام الأخيرة. ويقفز

دعاة الشيوعية السابقون والذين كانوا قد سقطوا وأفلسوا فكريا إلى مواقع الوزارة

والصدارة في شتى المؤسسات ويناط بهم تشكيل النظام التعليمي وتكوين الرأي العام

من خلال وسائل الإعلام والتأثير في محتوى ومضمون الثقافة والفكر في المجتمعات

ككل ويرسمون السياسات الاقتصادية ويضعون القرار السياسي. لكن كل هذا

النشاط ليس ازدهارا طبيعيا بل هو تحرك مصنوع ومدبر ومفتعل بقرار علوي من

السلطات الحاكمة وبمباركة وتوجيه حاسم من جانب الدوائر الغربية السياسية

المؤثرة ومعها المؤسسات المالية الدولية والحركات الكبرى كالصهيونية والعلمانية

والصليبية كذلك. وهذا الازدهار المصطنع والخطط المحكوم يجيء لكي تؤدي

النخبة الشيوعية دور التصدي لصعود قوة الإسلام.

إن الصورة الفعلية التي تواجهنا هي صورة نخب سقطت وأفلست وصارت

تبحث عن دور وعندما عرض عليها هذا الدور في التصدي الفكري لتيار الإسلام

سارعت بانتهازية معهودة إلى العض عليه بالنواجذ ولم تفلته لأنه فرصتها الوحيدة

في البقاء. وإذا كانت هذه النخبة قد مارست التصدي والهجوم على الإسلام في

عقود سابقة إبان فترات قوتها النسبية وجدتها ولحساب الأنظمة الاشتراكية

الدكتاتورية التي تحالفت معها فإنها تمارسه الآن من موقع الضعف والإفلاس الفكري

والذيلية المطلقة لأنظمة علمانية متغربة وديكتاتورية أيضاً وتمارسه باضطرار من

يغرق ويريد النجاة بأي ثمن وليس بحنكة من يريد أن يؤدي دورا في لعبة القوة

والسلطة له منه نصيب. والصورة التي تواجهنا ليست صورة تيار سياسي فكري

يستعيد أو يواصل عافيته بل هي صورة التقاء مصالح ومخططات أقرها لنا الدور

الشيوعي الجديد على امتداد الساحة العربية. فهناك نخب ساقطة ومنتهية لكنها تملك

فقط توزيعا جغرافيا ومناخيا وبقايا فكر معاد للدين ومتخصص في مواجهته بسابق

الخبرة وهى تبحث باستماتة عن دور يحفظ وجودها، وهناك على الناحية الأخرى

دوائر غربية ومحلية مؤثرة وحاكمة تبحث بإلحاح عن طرف يؤدي مهمة ضرب

الإسلام والتصدي لفكره على أن يكون مؤهلا لذلك وعلى ألا يكون من القوة أو

الإمكانية بحيث يخرج من طور التابع الذيلي العميل إلى دور الفاعل المستقل بالرأي

والمصلحة.

هذا الالتقاء أو هذا البحث المزدوج هو الذي أخرج لنا الدور الشيوعي الجديد

في العالم العربى في سياق من العناصر والعوامل التي أشرنا إليها آنفا.

ولكن الدور الشيوعي الجديد في خط الدفاع ضد الإسلام يجرى على حساب ما

تبقى من صورة النخب الشيوعية ودعايتها لنفسها وشعاراتها.

فالنخبة الآن لا تنشغل إلا بشيء واحد فقط هو الهجوم والمزيد من الهجوم

على الإسلام وهي بذلك تؤدي وظيفتها بأمانة تحسد عليها ولم تعهد فيها من قبل

وتتلقى الثمن المناسب ماديا ومعنويا بتوزيع الحقائب الوزارية والمغانم المادية

والظهور والشهرة الإعلامية. ولكن الانغماس الشيوعي شبه التام في التصدي

للطرح الإسلامي يجعل الشيوعيين مكشوفين مفضوحين أكثر مما كانوا أمام

الجماهير التي ما عادوا يثبتون أيا من قضاياها ومشاكلها السياسية والاقتصادية بل

على العكس يهاجمون عقيدتها.

إن الشيوعي النمطى يقف الآن بورجوازيا محترما يدافع عن القطاع الاقتصادي الخاص والملكية الفردية والقيم الغربية الليبرالية كما يقف محافظا رصينا يدعوإلى الاستقرار والسكينة في ظل نظم شمولية ويبشر بالتعاون مع الغرب (الاستعماري سابقا) وبالتحالف مع اليمين المحلي والعالمى في وجه الخطر الإسلامي ويرحب بالصهيونية وإسرائيل كشريك في صنع التقدم المستقبلي غير الإسلامي في المنطقة كما يرحب بالصليبية الدولية والمحلية باعتبارهما حلفاء في وجه العدو المشترك أي الإسلام. وهو ينسى كل الشعارات القديمة عن الثورة والجماهير الكادحة والاستغلال الاقتصادي الطبقي وهبة القوى العاملة ولا يعود إليها، وإن عاد فإنه يستخدمها فقط ضد الإسلام الذي اخترع له ألفاظ الظلامية والسلفية والأصولية ليشوه صورته بها. هذا الشيوعي النمطي إذن وهو يؤدي الدور الذي أنيط بقومه يخاطر بفقدان البقية من ورقة التوت التي تغطي العورة لأنه يتحالف وبشدة مع من كان حتى الأمس القريب ينعتهم بالأعداء سواء على المستوى المحلي أو العالمي وهو كذلك يتخلى عن الدور السابق المزعوم كمعارض صلب ومناضل يضحي من أجل مصالح الكادحين.

إن الوضع الجديد للنخبة الشيوعية في العالم العربى وفي العالم الإسلامي على

نطاق أوسع بحاجة إلى تدبر وتحليل حاولت هنا أن أضع معالمه الأساسية.

والخلاصة التي أتوصل إليها ويتوصل إليها أي تدبر موضوعي هي أننا أمام حالة

من حالات السياسة الثقافية التي توظف مجموعة انتهازية من المثقفين في أداء مهمة

الهجوم بوسائل فكرية وإعلامية متعددة على تيار معين (الإسلام) لحساب قوى

خارجية وأخرى محلية تريد التخلص من هذا التيار لأنه يناقض طروحاتها العلمانية

ومصالحها السياسية في الحكم والسيطرة واحتكار السلطة وانتزاع المجتمعات

الإسلامية من دينها وعقيدتها بل تاريخها وهويتها.

إن ما يحدث على الساحة الفكرية الآن وفي بلدان عربية كثيرة هو أبعد ما

يكون عن مجرد تطورات فكرية وثقافية جريئة أو كما يصوره بعضهم من تصد لما

يسمى بالإرهاب والتطرف المنسوب للإسلام وحده.

إنما يحدث هو استراتيجية موضوعة بعناية لتتكامل مع استراتيجيات أخرى

أمنية وسياسية واجتماعية لكي تضرب جذور الإسلام. ودور النخب الشيوعية في

هذه الاستراتيجية هو دور المنقذ الباحث عن دور والمعَّين لدي أصحاب المهمة

الباحثين عمن يقوم لهم بهذا الدور.