للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

من هدي السلف

النظر في مآلات الأفعال

د. حسن حسن إبراهيم

اعتبار المآل أصل من أصول الفقه جارٍٍ على مقاصد الشريعة، ولا شك أنه لا

بد لنا من معرفة هذا الأصل لنعرف متى نقدم؟ ومتى نحجم؟ .. متى نصرّح؟

ومتى نلمَّح؟ متى نواجه؟ ومتى نكون من وراء الستار؟ .. وحتى لا نكون عبئاً

على الحركة الإسلامية، أو ثغرة تؤتى الحركة من قبلها!

يقول شيخ الإسلام ابن تيمية «مررت أنا وبعض أصحابى في زمن التتار

بقوم منهم يشربون الخمر فأنكر عليهم من كان معي فأنكرت عليه وقلت له: إنما

حرم الله الخمر لأنها تصد عن ذكر الله وعن الصلاة، وهؤلاء يصدهم الخمر عن

قتل النفوس وسبي الذرية وأخذ الأموال فدعهم» . [١]

يعلمنا ابن تيمية مراعاة مآلات الأفعال فإن كانت تؤدي إلى مطلوب فهي

مطلوبة وإن كانت لا تؤدي إلا إلى شر فهي منهي عنها. ويعلمنا أيضاً أن الغاية من

إنكار المنكر هي حدوث المعروف فإذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه فإنه

لا يسوغ إنكاره.

ويقرر الإمام الشاطبي نفس الأصل فيقول: «النظر في مآلات الأفعال معتبر

مقصود شرعاً كانت الأفعال موافقة أو مخالفة [*] .. وهو مجال للمجتهد صعب المورد

إلا أنه صعب المذاق، محمود الغب (العاقبة) ، جار على مقاصد الشريعة» [٢] .

ويقول في موضع آخر بعد أن يقرر أنه ليس كل حق ينشر، وبعد أن يحكي

كراهية الإمام مالك للكلام فيما ليس تحته عمل يقول: «فتنبه لهذا المعنى وضابطه

أنك تعرض مسألتك على الشريعة فإن صحت في ميزانها فانظر في مآلها بالنسبة

إلى حال الزمان وأهله، فإن لم يؤد ذكرها إلى مفسدة فاعرضها في ذهنك على

العقول، فإن قبلتها فلك أن تتكلم فيها إما على العموم إن كانت مما تقبلها العقول

على العموم، وإما على الخصوص إن كانت غير لائقة بالعموم وإن لم يكن لمسألتك

هذا المساغ فالسكوت عنها هو الجاري على وفق المصلحة الشرعية والعقلية» [٣]

والأعمال بالنسبة لمآلها أربعة أقسام:

١- ما يكون أداؤه إلى الفساد قطعياً: كمن حفر بئراً في طريق المسلمين

بحيث يقع فيه المارة.

فهذا ممنوع بإجماع الفقهاء.

٢- ما يكون أداؤه إلى المفسدة نادراً: كزراعة العنب مع أنه قد يُتخذ خمراً

فهذا حلال لا شك فيه.

٣- ما يكون أداؤه إلى المفسدة من باب غلبة الظن كبيع السلاح وقت الفتن

وبيع العنب للخمار وهذا ممنوع أيضاً.

٤- ما يكون أداؤه إلى المفسدة دون غلبة الظن كالبيوع التي تُتَخذ ذريعة للربا

وهذا موضع خلاف. [٤]

وينبني على هذا الأصل القواعد الآتية: [٥]

١) قاعدة سد الذرائع: وحقيقتها تذرع بفعل جائز إلى عمل غير جائز فالأصل

على المشروعية لكن مآله غير مشروع ومن الأمثلة على ذلك:

* قوله تعالى: [ولا تَسُبُّوا الَذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ

عِلْمٍ] فالآية تمنع من الجائز لئلا يكون سبباً في فعل لا يجوز [٦] .

* أمر الشارع بالاجتماع على إمام واحد حتى في صلاة الخوف مع كون

صلاة الخوف بإمامين أقرب إلى حصول الأمن وذلك سداً لذريعة الاختلاف والتنازع

وهذا من أعظم مقاصد الشرع وقد سد الذريعة إلى ما يناقضه بكل طريق حتى في

تسوية الصف في الصلاة [٦] .

* نهي المؤمنين في مكة عن الانتصار باليد لأن مصلحة حفظ نفوسهم ودينهم

راجحة على مصلحة الانتصار والمقابلة [٦] .

* جاء في الحديث عن علي «حدثوا الناس بما يفهمون أتريدون أن يُكذب الله

ورسوله» [٧]

قاعدة الحيل -:

وحقيقتها تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر كالواهب ماله عند رأس الحول فراراً من الزكاة فإبطاله نظر في المآل.

قاعدة الاستحسان:

وحدها الأخذ بمصلحة جزئية في مقابله قياس كلي وحقيقتها منع القياس الذي يؤدي إلى قبيح أو بمعنى آخر ترك العسر لليسر، وهذا نظر في المآل.

إقامة المصالح الشرعية وإن عُرض في طريقها بعض المناكر: كطلب العلم

وإن كان في طريقه مناكر تُسمع وتُرى وكشهود الجنائز وإقامة وظائف شرعية إذا

لم يقدر على إقامتها إلا بمشاهدة ما لا يرتضى، فلا يخرج هذا العارض تلك الأمور

عن أصولها لأنها أصول الدين وقواعد المصالح وهو المقصود من المقاصد الشريعة

فجيب فهمها حق الفهم فإنها مثار اختلاف وتنازع وما ينقل عن السلف الصالح مما

يخالف ذلك قضايا أعيان لا حجة في مجردها حتى يعقل معناها فتصير إلى موافقة

ما تقرر إن شاء الله، والحاصل أنه مبني على اعتبار مآلات الأعمال.. فاعتبارها

لازم في كل حكم على الإطلاق.

أخيراً: من يتأمل ما جرى غلى الإسلام في الفتن الكبار والصغار يرى أنها

من إضاعة هذا الأصل ويرى مدى الحاجة إلى تلك القواعد الشرعية لتخليص الفكر

والواقع الإسلامي من النزعة الشكلية التي أعجزته عن مواجهة الواقع مواجهة فعالة.


(١) أعلام الموقعين ابن القيم ج ٣ ص ٥.
(*) فقد يكون العمل في الأصل ممنوعاً لكن يترك النهي عنه لما في ذلك من المصلحة.
(٢) الموافقات الشاطبي ج ٤ ص ١٩٤.
(٣) الموافقات الشاطبي ج ٤ ص ١٩١.
(٤) أصول الفقه لأبي زهرة ص ٢٨٩ باختصار.
(٥) الموافقات الشاطبي ج ٤ ص ١٩٨ بتصرف.
(٦) أعلام الموقعين ابن القيم ج ٣ ص ١٣٧ وما بعدها.
(٧) الموافقات الشاطبي ج ٣ ص ١٨٩.