للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في دائرة الضوء

أقنعة العلمانية

قراءة في الطروحات العلمانية الجديدة

د. محمد يحيى

يلاحظ المتتبع للطروحات العلمانية الفكرية في البلدان العربية خلال الفترة

القريبة، توجهين أساسيين يحكمان هذه الأفكار، أولهما حديث نسبياً من حيث

التعبير العلني عنه مؤخراً، وهو يبشر صراحة بالفكر العلماني «الكلاسيكي» في

صورته الشرسة من ضرورة الفصل بين الدين (وهو هنا الإسلام) والدولة، أو بين

الدين والسياسة، أو بين الدين والحكم، أو بين الدين والاقتصاد والتعليم وسائر

شؤون المجتمع، أما الاتجاه الثاني فهو يواصل ما عهد عن أصحاب هذا الفكر في

العقود الماضية من طرح العلمانية وراء أقنعة ومسميات شتى لا تلجأ إلى المصادمة

المباشرة أو الوضوح الصريح أو الإفصاح عن النوايا والأهداف النهائية، وظهور

الاتجاه الأول الذي يمكن أن نسميه بالأتاتوركي نسبة إلى رائد العلمانية في العالم

الإسلامي في شكلها السياسي الشامل يرتبط بتصاعد الحرب من جانب القوى المحلية

والأجنبية ضد الحركات الإسلامية، حيث فقدت هذه القوى توازنها أو صبرها في

الفترات الأخيرة، وقررت أن تكون الحرب علنية ليس فقط ضد التيارات الإسلامية

ولكن ضد الإسلام ذاته، من خلال وجوده الدستوري والقانوني في أنظمة الدول

العربية، وأيضاً من خلال وجوده المؤسسي في هيئات تعليمية أو ثقافية أو

اجتماعية، ولذا جاءت الدعوة إلى العلمانية الأتاتوركية صريحة إلى حد أننا سمعنا

مثلاً موظفاً رسمياً في وزارة الثقافة بإحدى الدول العربية يتحدث باسم وزارته وهو

ما يعني الحديث باسم الحكومة داعياً إلى فصل الدين عن الدولة في دستور البلاد،

وتتردد آراء مشابهة من جانب كتاب من المشرق والمغرب العربي في صحف

ومجلات تصدر هنا وهناك، وتديرها وتدعمها الأنظمة والحكومات، وتتراوح

أهداف هذا التوجه الجديد المعلن ما بين بالونات اختبار (وفق المصطلح الصحفي

الدارج) لآراء الصفوة والجماهير نحو الدعوة العلمانية الصريحة، وما بين التهديد

للإسلاميين والمؤسسات الإسلامية بأنهم إذا لم يتوقفوا عن النشاطات الإيجابية في

مجال الدعوة والحركة فإن الأنظمة الحاكمة قد تضطر في نهاية المطاف إلى اللجوء

إلى «الحل الأتاتوركي» أي إلى تبني العلمانية التقليدية بالنص في الدساتير

والقوانين على تنحية الإسلام وعزله عن شؤون الدولة والحكم والمجتمع بكل

مؤسساته، والوصول إلى الإقصاء الشامل لهذا الدين عن كل شؤون الحياة.

خطورة التوجه العلماني الجديد:

لكن هذا التوجه الأخير للطرح العلماني على خطورته المتمثلة في المصادمة

الصريحة للإسلام، يبقى محدوداً من الناحية الكمية بالمقارنة مع التوجه العلماني

الأخير الذي يحتل المساحة الكبرى في الكتابات الفكرية والإعلامية العلمانية،

وأعني به تسريب هذا الفكر بشتى جوانبه وراء مجموعة من الأقنعة وأدوات التنكر

والستائر التي تخفي حقيقة جوهره أو مقاصده وأغراضه البعيدة أو الجهات التي

تحركه وتستفيد منه، وفيها جهات دينية غير إسلامية تتمسك بأديانها أشد التمسك،

وتتعصب لها إلى الحد الممقوت، لكنها تريد للمسلمين أن يتحللوا من دينهم، وأن

تنفصم عرى هذا الدين، ويبعد عن حياة الشعوب وتوجيه مصائرها، وإذا كان

الفكر العلماني الكلاسيكي محدود الطرح في الناحية الكمية حتى الآن، فإن الفكر

المقنع منذ فترة طويلة ومازال أكثر انتشاراً لأنه لا يسعى إلى الصدام المباشر

الواضح مع العقيدة، بل يواصل عدوانه عليها، ويهاجمها بطريق غير مباشرة،

فيقوض الطرح الإسلامي بطريق الإجهاض والإضعاف المستمر، دون أن يجازف

بإثارة مشاعر الجماهير المسلمة أو تحفيز طاقات رد الفعل الفكري الإسلامي، أو

تنبيه المسلمين لما يراد بهم، بل ويكسب فوق ذلك التظاهر بأنه تيار فكري محايد

أو حتى «إسلامي مستنير» ! !

صور جديدة للخداع:

وأقنعة العلمانية كما عهدناها متعددة وكثيرة ومتغيرة وفق الظروف والمناسبات، وتتيح هذه الأقنعة مزايا أخرى لأصحاب الفكر العلماني غير ما لاحظناه فيما سبق، فهي قبل كل شيء تمكنهم من الرد على دحض الإسلاميين لأفكارهم بمقولة أن

الإسلاميين لا يفهمون العلمانية، أو يتعمدون الحط من شأنها بربطها بالفكر في

الإسلام، بينما هي «في الحقيقة» (أي في القناع والفكر) لا تعني سوى التفكير

الحر، أو الاجتهاد الذهني، أو الاستنارة العقلية، أو الموضوعية العلمية، أو

الإصلاح الاجتماعي والديني! ! ... الخ.

ولقد شاهدنا في الفترة الأخيرة إحدى المجلات الشيوعية ترد على سلسلة

مقالات لكاتب ومفكر إسلامي موضوعي فند فيها أفكار العلمانيين، باتهام الكاتب أنه

«يزيف العلمانية» أي يتهم العلمانية، وينسب إليها ما ليس فيها على حد زعم

المجلة وهذه هي فائدة أسلوب الأقنعة والتنكر، لأنه يمكن العلمانيين عند الرد

الموضوعي والداحض والمفند لأفكارهم أن يتنصلوا منها بزعم أنهم إنما ليسوا سوى

دعاة العقل والفكر والحرية والاستنارة والتقدم وما أشبه ذلك من المصطلحات

والألفاظ العامة التي يطلقونها دونما تحديد اجتلاباً للأذهان، لكنهم يحددونها في

الوقت الملائم وبالمعنى والمضمون الذي يختارونه ويكون أكثر المضامين فعالية

وأثراً في وضع ومقام معين.

مزاعم علماني متفلسف:

وفي هذا الصدد مثلاً ونحن نشير إلى أقنعة العلمانية واستخدامها التقنع والتنكر

لأغراض مرحلية تتعلق بالرغبة في الانتشار والترويج واستمالة الأذهان وتجنب

المواجهة المباشرة، أشير إلى واحد من أحدث هذه الأقنعة وربما كان من أطرفها،

فقد عرف أستاذ جامعي مصري للفلسفة وهو غير مسلم اشتهر بهجومه على

الإسلاميين منذ عقد الستينات العلمانية بقوله: إنها تعني التفكير في الأمور البشرية

النسبية والمتغيرة بطبيعتها من خلال فكر نسبي ومتغير، والابتعاد عن «المطلق»

عند التفكير في هذه الأمور البشرية وتدبيرها وإدارتها، وهذا التعريف المبتكر

للعلمانية يبدو مختلفاً تماماً وبعيداً كل البعد عن تعريفها التقليدي بأنها فصل الدين

عن الحكم والدولة والمجتمع، لكنه بعد تحليله يصل إلى نفس الهدف وراء سحابة

المصطلحات الفلسفية عن المطلق والمتغير والنسبي.

فصاحب هذا التعريف يصف العلمانية بأنها التفكير في الشؤون البشرية ذات

الطابع النسبي والمتغير بأساليب وأفكار مماثلة لها من حيث النسبية والتغير لكنه من

المعروف أن المذاهب العلمانية المتنوعة وبالذات في المجالات «المتغيرة

والنسبية» كالسياسة والاقتصاد وقضايا المجتمع، اتسمت بأشد درجات الإطلاق والجمود والصلابة وعدم التغير بحيث كانت تضع نفسها في شكل دساتير وقوانين صارمة ثابتة تهيمن على حركة المجتمعات التي طبقت فيها وتعيد صياغتها بشكل كلي وشامل بحيث تتسق هذه المجتمعات مع تلك الأفكار النظرية المجردة، ولو كلف الأمر ملايين الضحايا البشرية ومحن واضطرابات تستمر عشرات السنين.

وليست التجربة الشيوعية فيما كان يعرف بالكتلة الشرقية الأوروبية عنا ببعيد، فالمذاهب العلمانية نفسها، وهي من وضع البشر لم تكن ترى في نفسها أنها أفكار

متغيرة ونسبية جاءت لتحكم شؤون بشرية متغيرة ونسبية، بل على العكس فقد

انتحلت لنفسها بالضبط ما تدعي العلمانية أن الأديان قد اتصفت به ألا وهو الطابع

المطلق الشمولي الجامد المستعصي على التغير، وينطبق هذا حتى على تلك

المذاهب العلمانية التي ادعت «الليبرالية» أو التحرر، إذ لم تخلوا هذه المذاهب

من مطلقات مقدسة طرحت على أنها ثابتة ثبوت الدهور، وغير متغيرة مع تغير

الظروف، بل وعلى أنها هي التي تحكم وتضبط وتوجه التغيرات وتهيمن عليها لا

تواكبها ولا تسايرها ولا تتغير معها، وهذه المقدسات معروفة حتى الآن في الحرية

الاقتصادية ونظام التمثيل البرلماني، وأفكار المساواة المطلقة والفردية، وأشهر

مطلق من مطلقات الليبرالية بل ومن مطلقات الفكر العلماني نفسه هو مطلق فصل

الدين عن الدولة.

وللماركسية والاشتراكية مطلقاتها الخاصة كما لسائر المذاهب والفلسفات

العلمانية، بل إنهم يتبادلون الهجوم فيما بينهم بالإشارة إلى الطابع المطلق لكل منهم

الذي يستعصي على التغيير والنسبية، ويقاومهما ويصر لنفسه على احتكار الحق

المطلق حتى في أدق الأمور الاجتماعية والاقتصادية وأكثرها عرضة لمجريات

التغير والتبدل.

العلمانية والمطلق والنسبي:

العلمانية إذن لم تكن أبداً إدارة أو تفكيرفي شؤون البشر المتغيرة والنسبية

بأفكار وأساليب تشاكلها، بل على العكس كانت تتمثل في استبدال مطلق جديد (هو

العلمانية) لمطلق قديم هو (المسيحية الغربية) ، وما رافقها من أفكار ومذاهب سياسية

واقتصادية وثقافية، ثم إن المذاهب العلمانية لم تنظر لنفسها على أنها مجرد

تعبيرات ملائمة عن أوضاع نسبية ومتغيرة، تتغير وتتبدل وتمضي مع ذهاب هذه

الأوضاع، بل على العكس اعتبرت نفسها مبادئ وخطوط عمل وإرشاد وتوجيه

حاكمة وعامة، توجه وتقود وتشكل هذه الأوضاع، بل وتحكم كيفية ومسار تغييرها

إلى أبد الآبدين، أو إلى الوصول إلى الفردوس الأرضي ونهاية التاريخ كما في

الماركسية والليبرالية.

العلمانية إذن تحل لنفسها ما تحرمه على غيرها، وإذا نظرنا إلى الجانب

الآخر من المسألة فلن نجد داعياً لوصف شؤون البشر بأنها نسبية ومتغيرة مهما

كانت درجة التغير والتبدل التي تطرأ على أحوال الأفراد والمجتمعات والأمم فوراء

هذه التغيرات تقف (كما تقول لنا حتى فلسفات العلمانية ذاتها) قوانين كبرى ومبادئ

عامة، وملامح مشتركة، تجعل من وجود أفكار وتعاليم مطلقة للتفكير في هذه

الشؤون، أمراً مقبولاً، بل وضرورياً، ولا ننسى أن «ماركس» وهو أحد كبار

كهنة الفكر العلماني الغربي قد ابتكر نظاماً مطلقاً محكماً ادعى أنه يقف بثبات

وصرامة لا تتخلف وراء كل التغيرات التي تطرأ على المجتمعات فالمطلق أياً كان

له مجال في التفكير في الشؤون البشرية والمطلق كذلك له مجال أكبر في مجال

توجيه هذه الشؤون كما تدل على ذلك التجربة العلمانية ذاتها في النظرية والممارسة، ذلك لأنه إذا قبلنا بفكرة أن كل الشؤون البشرية متغيرة ونسبية، فإن ذلك لا يعني

منطقياً أن تكون المبادئ التي توجه وتحكم هذه الشؤون متغيرة ونسبية مثلها، لأن

الحكم والتوجيه والتدبير في حد ذاته يعني وجود درجة كبيرة من الثبات والهيمنة،

تتجاوز النسبية والتغير وتتعالى عليهما أو تقود التغيرات في مسار معين، وتبعدها

عن مسار آخر.

والأكثر أهمية في ذلك هو بحث معنى «المطلق» وفق هذا التعريف المبتكر

للعلمانية، فهل المقصود هنا هو «الإله» الذي تتحدث عنه الأديان التي يواجهها

العلمانيون رغم ضرورة الإشارة إلى اختلاف مفاهيم الألوهية بين الأديان وبالأخص

بين الإسلام وبين سائر الأديان بما فيها تلك التي تسمى حالياً بالسماوية أم أن

«المطلق» هذا هو الأفكار والمذاهب الدينية لاسيما ما يتصل منها بالتشريع والشؤون الاجتماعية المتنوعة، وفي هذه الحالة ينبغي الإشارة إلى وجود شريعة في الإسلام تختلف جوهرياً وبالنوع عن أي أفكار أخرى بدائية ومحدودة قد تحتويها الأديان الأخرى في مجال التشريع الاجتماعي، فالشريعة الإسلامية هي نظام كامل له منهاجه الخاص، ولا يمكن أن تختزل هذه الشريعة بوصفها بتلك الكلمة العامة الغامضة ذات الإيحاءات السلبية في دنيا الفلسفة وهي عبارة

«المطلق» ، فالشريعة الإسلامية بالذات تحتوي على مستويات من المبادئ والقوانين والأحكام، وفيها من المرونة ومن القابلية للاستيعاب وتغطية المتغيرات، والتعامل معها من خلال أنظمتها هي كالاجتهاد وغيره ما يحول دون نشوء مشكلة ... التقابل الثنائي بين المطلق والنسبي التي يثيرها ذلك التعريف العلماني، وهو يحمل في ذهنه الأوضاع المسيحية الغربية.

وإياً كان ذلك «المطلق» فلا يعطينا تعريف العلمانية هذا مسوغاً لإبعاده عن

شؤون البشر، سواء أكان تفكيراً فيها أو توجيهاً لها، مادام أن العلمانية نفسها تقيم

بعده مطلقاً أو مطلقات أخرى من صناعتها هي، أي أصنام وثنية مادية لتحل محل

الآلهة الغيبية (حسب تصورهم) ، فلا جديد في المسألة.

تهافت العلمانية الجديدة:

تعريف العلمانية الجديد هنا ينشيء عند تحليله تناقضات ومشكلات عديدة،

كما أنه ينبثق عن نفس التعريف القديم، لكنه ليس سوى قناع أو تنكر له، فهو

يطلق اسم المطلق على: الدين أو الشريعة أو العقيدة أو «الله» ، وهو ذو

إيحاءات سلبية كما قلنا ولاسيما في مذاهب الفلسفة الغربية الحديثة وفي مقابلة هذا

المطلق توضح شؤون البشر المتغيرة النسبية (هكذا كل شؤون البشر متغيرة ونسبية

عندهم بإطلاق!) ، ثم تأتي العلمانية لتسمى في هذا التعريف بالأفكار النسبية

المتغيرة والتي تصلح بذلك دون «المطلق» لتسيير وتفسير حياة البشر وشؤونهم.

إنها مجرد تسميات مختلفة، فبدل القول بأن الدين يجب أن يرفض وينحى من

حياة البشر لتحل محله العلمانية، أو بالأصح مذاهبها المختلفة يأتي القول بأن حياة

البشر متغيرة نسبية بإطلاق (!) في التغير والنسبية، وأن هناك اتجاهين يتنازعان

تفسير وتسيير هذه الحياة، أحدهما «مطلق» لا يصلح لها والآخر مثلها متغير

نسبي، فهو الأصلح والأجدر بها، هكذا تترجم العلمانية الكلاسيكية إلى صياغة

تحاول أن تتجمل بمصطلحات الفلسفة ذات الإيحاءات والظلال المعينة دون أن

يتغير شيء في المضمون.

لكن هذا التعريف الجديد أو القناع الجديد يحتوي من التناقضات أشد ما يحتويه

التعريف الأقدم، لاسيما فيما يتصل بالإسلام، فشريعة الإسلام ليست ذلك «المطلق» البعيد عن دنيا البشر وهمومهم وأوضاعهم بل هي وثيقة الصلة بها لا من حيث

إنها تعكسها وتبررها وتواكبها بشكل ذيلي في تغيراتها كما يصور التفسير المادي

المألوف، بل من حيث إنها تقودها وتوجهها وترقى بها وفق مشيئة وحكمة العزيز

العليم الذي أوحى بها، وشؤون البشر في هذا التصور الإسلامي ليست متغيرة

نسبية بإطلاق، بل تطرأ عليها التغيرات وفق سنن ثابتة، كما تتفاوت التغيرات

بين مادي واجتماعي ونفسي وعقدي وأخلاقي ... كل له مساره الخاص ودرجته

الخاصة في مدى التغير، والتغير فيها يمكن توجيهه والتحكم فيه على الأقل من

الناحية المهمة كناحية الإيمان وإرضاء الله بالعمل وفق منهجه، والثبات في محن

البلاء والاختبار المتنوعة.

وأخيراً فإن الأفكار العلمانية ليست نسبية التطور كما يزعم التعريف، بل هي

تزعم لنفسها كما أسلفنا الإطلاق والثبات، أضف إلى ذلك السذاجة الفكرية المتضمنة

في مقولة أن النسبي والمتغير لا يصلح للتفكير فيه سوى النسبي والمتغير فصاحب

هذا التعريف وهو ماركسي النزعة يعرف أكثر من غيره أو هذا هو المفترض أن

الماركسية وقبلها بدرجة أكثر الهيجلية قد حكّمت فكراً (أو ما أسموه بمنهج علمي)

مطلقاً هو الجدل أو الديالكتيك بشقيه المنطقي والمادي في تفسير ما رأوا أنه شؤون

الحياة والتاريخ المتغيرة والنسبية، فالمتغير في هذه الفلسفات محكوم بقانون مطلق

لا يجعل منه تغيراً بقدر ما يجعل منه ثباتاً يتجلى شيئاً فشيئاً إلى أن يظهر بكامله،

كما أن النسبي عندهم لا يصبح نسبياً إلا عندما ينسب إلى إطار مطلق يحتويه

ويتعالى عليه.

خدعة المجتمع المدني:

في نهاية الأمر لسنا نواجه سوى قناع آخر من أقنعة العلمانية هذه المرة في

ثوب فلسفي النقش، لكن الأقنعة لها ثياب متعددة، فهناك مثلاً الثوب السياسي الذي

يفصح عن نفسه هذه الأيام في مصطلح كثر ترديده بصورة ببغاوية حتى عد عند

بعضهم وكأنه الحل السحري لكل الأزمات والمشاكل وفي مقدمتها أزمة الإسلام،

وأعني به مصطلح «المجتمع المدني» ، فالدعوة إلى العلمانية هذه الأيام تتخذ

شكل الإلحاح على إقامة أو تقوية ما يسمى «بالمجتمع المدني» ، وليس المقصود

بهذا المجتمع كما قد يتبادر إلى الذهن أنه المجتمع الذي لا يسيطر عليه العسكريون

بشكل مباشر أو غير مباشر كما هي الحال في معظم المجتمعات العربية، بل على

العكس نجد أن أصحاب هذا المصطلح أو التعريف العلماني من أشد أنصار الحكم

العسكري، لأنهم يرون في شراسة هذا الحكم وبعده عن الالتزام بالقوانين وحقوق

الإنسان، أكبر ضمانة للتصفية الجسدية للحركات الإسلامية التي يناصبونها العداء

والخصومة.

المجتمع المدني المقصود في هذا المصطلح الذي نجد له أوسع رواج الآن في

بعض الصحف والمجلات والمنابر الناطقة باسم النخبة العلمانية، هو المجتمع

اللاديني، ذلك لأن «المدني» عندهم لا يواجه «العسكري» بل يواجه ...

«الديني» وقد اعتمد مطلقو هذا التعبير على ترجمة محرفة للاصطلاح الدنيوي أو غير الكنسي في بعض اللغات الأوروبية، الذي يقابل ويواجه «الكنسي» أو الديني فالدين عندهم يرتبط بما هو متصل بالكنيسة ورجالها (الكهنوت) الذين يشكلون بزيهم وتنظيمهم المستقل المميز سلكاً هو سلك الدين أو الكنيسة المتميز عن سائر المؤسسات الاجتماعية، كسلك الجيش أو ملاك الأراضي ... الخ، وعند غيرهم يطلق عليه اسم «الدنيوي» (أي غير الديني) الذي تحور في الترجمة أو في التلاعب عند أصحاب التعريف أو الدعوة الجديدة إلى «المدني» . ...

والخلط هنا ينشأ من أن كلمة «المدني» في استخدامات العربية الحديثة

تطلق أساساً للتفرقة بين ما ينتمي إلى السلطة العسكرية وما ينتمي إلى غيره كما قد

يطلق على ما ينتمي إلى المدنية أو الحضر، أو ما يتسم بالصفات السائدة في تلك

الأماكن، لكن «المدني» لا يعني في العربية «العلماني» ، ومن هنا يأتي القناع

أو التنكر، فهم يستخدمون تعبير المجتمع المدني لأنه سيجد القبول بإيحاءاته التي

تعني مجتمعاً لا يسيطر عليه العسكريون بالدكتاتورية والتسلط وكبت الحريات

وفرض الرأي الواحد الخاطئ في معظم الأحيان، كما أن أصحاب المصطلح

يساعدون على هذا الترويج بإكسابه إيحاءات أخرى ينظمونها حول لفظة

«المدني» كالديموقراطية والحرية وتعدد الآراء والمناقشات والانفتاح السياسي والفكري، لكنهم عندما يتحدثون عن هذا المصطلح فإنما يقصدون كما يتضح من كتاباتهم العلمانية أو اللادينية المجتمع الذي يفصل الدين عن حياته وينحيه بعيداً، وهكذا يظهر المصطلح جذاباً لبعضهم لكنه في نفس الوقت يؤدي نفس ما يؤديه التعريف الكلاسيكي للعلمانية.

وكما هو الحال في التحليل السابق للتعريف الجديد للعلمانية، فإننا إذا حللنا

تعبير «المجتمع المدني» كما يستخدمه العلمانيون، فسنجده ينطوي على تناقضات

تهوي به كمصطلح جاء حسب استخدامهم أبسطها أن مفهوم «المجتمع المدني»

كما يستخدم في الكتابات الاجتماعية الغربية يعني مجموع المؤسسات والهيئات

والمنظمات والجمعيات والروابط المعروفة (الجيش، الشرطة الجهاز

الإداري ... الخ) ، ومن هذه الناحية فإن المصطلح بمعناه الدقيق أو العلمي في الكتابات الأكاديمية يضم ولا يستبعد المؤسسات الدينية، كما يضم ولا يستبعد الأفكار والرؤى الدينية طالما أنها تشكل قسماً من نسيج هذا الشعب الذي يتشكل المجتمع المدني من تنظيماته.

وللعلمانية أقنعة أخرى تخفي وراءها طرحها الأساس والصريح الذي ما خرج

هذه الأيام إلى طور العلن إلا كحلقة من حلقات المواجهة مع الإسلام كما يسمونها،

والأقنعة ذات فوائد متعددة للطروحات العلمانية لكنها في المقابل ينبغي أن تكون

بمثابة ساحة تدريب ودافع تنشيط للفكر الإسلامي في تتبعها ودراستها ودحضها

وكشف ما وراءها، مع إظهار البديل أو بالأصح «الأصيل» الإسلامي الذي

تحاول هذه الطروحات أن تشوه صورته أو تخفيه.