للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الإسلاميون وقضايا التنمية]

د /أحمد بن محمد العيسى

يثير كثير من العلمانيين شبهات عديدة ويدَّعون أن الحركة الإسلامية إنما هي

عائق لمسار التنمية والتقدم في المجتمعات الإسلامية، وذلك لأن خطابها «الأيديلوجي» يهتم بتعاليم وقيم لا تتمشى مع متطلبات التنمية الحديثة مثل الانفتاح ...

الاقتصادي والتعاون الدولي والحرية الفكرية والتعليم الذي لا يركز على الغيبيات

والحفظ.. إلى آخر القائمة المعروفة التي يتداولها كثير من المفكرين والمثقفين ...

العرب في كتبهم أو في منتدياتهم الفكرية والثقافية وما يسودونه على صفحات الفكر

والثقافة في الصحف العربية. وعلى الرغم من أننا قد تجاوزنا الطرح العلماني الذي

كان سائدا قبل عقدين أو ثلاثة والذي يعزو هذا العائق إلى الإسلام ذاته لأن اعتبار

الشريعة الإسلامية هي المصدر لقضايا التنمية، وهي قضايا سياسية واقتصادية

واجتماعية لا يتناسب بزعمهم جمع واقع العصر وتعقيداته أقول على الرغم من

الفكر الإسلامي قد تجاوز هذا الطرح إلا أننا لازلنا مترددين - أو على الأقل

مقصرين - أمام كثير من الشبهات التي يطرحها كثير من العلمانيين اليوم والتي

تركز على أن الحركات الإسلامية - وليس الإسلام - هي العائق أمام «التحديث

والتنمية في بلاد المسلمين» منذ أكثر من ١٣٠٠ عام، يقول برهات غليون في

كتابه «اغتيال العقل» : «ولعل سبب هذا الانحطاط في مفهوم التقدم العري

راجع هو نفسه إلى الأزمة التي يعيشها مشروع هذا التقدم كما تبلور في القرن

الماضي، أي كبناء لمجتمع عربي موحد ديمقراطي عقلاني عادل.

ونتج عن هذه الأزمة نوعان من مواقف الهروب إلى الأمام، أحدهما يقول بالتغريب الكامل بمثالبه وحسناته، والثاني يقول بالانسحاب الكامل و» الأسلمة «أو العودة الكاملة للأصول» (ص٢٠٧) ثم يصل إلى نتيجة يعتبرها عقلانية ومنطقية في آخر كتابه، حيث يقول: «وعندما نقول أنه لا يوجد حل واحد لجميع المشكلات، فنحن نعني أن المشكلات المطروحة اليوم على العالم العربي لا يمكن حلها جميعاً من أفق أيديلوجي واحد، أو من أفق أيديلوجي بشكل عام. هذا غير منطقي وغير ممكن وغير واقعي، فليس هناك حل لمشكلة التنمية الاقتصادية، الصناعية أو الزراعية من أفق الأيديلوجية السلفية أو الأصولية، كما أنه ليس هناك حل للمشكلة القانونية والتشريعية من أفق أيديلوجية تنكر الإسلام أو تتنكر له..» (ص ٣٦٤) . وهذا الطرح الذي نتحدث عنه يجد الآن اصداء كبيرة عند كثير من المثقفين، وقد بدأ هذه الموجة المفكر المغربي محمد عابد الجابري في كتابه ... «الخطاب العربي المعاصر» (١٩٨٢م) والذى اتبعه بعدد من الكتب تدور في فلك أفكاره الذي أثبتها في الكتاب المذكور.

وقد تركز فكره في نقد الفكر التغريبي الكامل وفي نفس الوقت نقد الفكر الإسلامي الذي يعتمد على منهج أهل السنة والجماعة في التلقي والاتباع. وهو بهذا يؤسس فكرا جديدا يراه أصحابه وتلاميذه أنه فكر «عقلاني» موضوعي يستند إلى منهجية معرفية صارمة، مع أنه من الأساس فكر «تغريبي» يستقي ... أدواته المعرفية والمنهجية من نظريات المعرفة «الابستمولوحيا» الغربية التي لا تعترف بالعقائد الدينية ولا بالغيب والإيمان وثوابت العقيدة الإسلامية.

إن الخطاب الإسلامي الذي يدعوا إلى التوحيد والإيمان وإلي تطبيق الشريعة

الإسلامية لا يدعو إلى طرح (ما ضوي) - كما يقولون - ولا يريد أن يعود العرب

والمسلمون إلى ركوب النياق والحمير والبغال (كما يعبر أحمد عبد المعطي حجازي- ... الأهرام ١٥ إبريل ٩٢) . بل هم يدعون إلى طرح مستقبلي واضح يرتكز على

عقيدة سماوية وشريعة ربانية أنزلها الذي يعلم ما كان ويكون وما سوف يكون، [أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وهُوَ اللَّطِيفُ الخَبِيرُ] . وهى ليست من مخلفات الماضي مثل

شريعة حمورابي أو قوانين الرومان، بحيث نقول إنها خضعت لتصورات الإنسان

الذي عاش في تلك الفترة وفي تلك البيئة وفي تلك الظروف المحيطة، إن الشريعة

التي ندعو إليها هي شريعة متكاملة تربط العقيدة والعبادات والأحكام والحدود

والأخلاق والآداب وجميع شؤون الحياة في بوتقة واحدة لا تنفصل وتربطها بعبادة

الخالق سبحانه وتعالى [! قُلْ إنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْيَايَ ومَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ] .

إن هذا الذي نقوله الآن هو من البديهيات التي لم تكن مطروحة على العقل

المسلم قبل عقود من الزمن ولم يحتاج المسلم إلى تعمق في دراسة العلم الشرعي أو

في قراءة كتب الفكر والثقافة، لكى يفهم هذه البديهيات، ولكننا في هذا الزمان -

والله المستعان - أصبحنا نجادل أهل الفكر والثقافة - أنفسهم - في أساسيات الدين

والعقيدة التي لا تستقيم حياة المسلم بدونها.

ولكن إذا سلمنا بهذه البديهية وابتعدنا قليلا عن «ردود الأفعال» لما يثيره

بعض العلمانيين، وتساءلنا: هل الفكر الإسلامي الذى يطرح في الساحة الآن قد

اهتم اهتماماً جدياً بقضايا التنمية في العالم الإسلامي؟

أحسب أن الجواب سيكون بالنفي.. ذلك أن الفكر الإسلامي، وجهود الدعوة

عموماً لا تزال مشغولة بقضية كبرى (وحق لها أن تشغل بها) ألا وهي تراكمات

موجات التغريب خلال قرن من الزمن أو يزيد، وكادت هذه الموجات أن تقتلع

الأمة من جذورها وتجعلها جزء تابع للغرب أو الشرق. إن الاهتمام بقضية الهوية

هو من الأولويات ولا شك ويجب أن يتفرغ لها القادرون على التأصيل لها والإبداع

في طرحها، ولكن ينبغي على المفكرين والأكاديميين الإسلاميين الاهتمام بقضايا

حيوية تعصف بالمجتمعات الإسلامية ومن أهمها قضايا التنمية التي غربت بها

الأفكار الدخيلة أو شرقت بها، فأصبحت التنمية في بلاد المسلمين اضحوكة يتندر

بها صحفيو الغرب ومنظروهم.

إن الحاجة اليوم ماسة لدراسة أكثر من قضية تنموية، دراسة عميقة مدعمة

بالوثائق والإحصاءات ومبنية على أسس منهجية علمية واضحة لا مجال فيها

للعاطفة المفرطة في التشاؤم أو التفاؤل أو في استباق النتائج. والمطلوب ليس فقط

تنظيراً إسلامياً لهذه القضايا وإنما دراسات واقعية وتطبيقية تهتم بمحاولة وضع

تصورات وحلول للمشاكل القائمة حالياً. إن لدينا الآن فرصة تاريخية لإبراز الفكر

الإسلامي الصحيح الذي يلتمس حلولاً جذرية من منظور إسلامي للمشكلات التنموية

التي تعانيها المجتمعات الإسلامية، ولعلي أشير هنا إلى بعض الأمثلة للقضايا

الحيوية التي يجب أن نهتم بدراستها، وهذه الأمثلة تمثل قضايا كبرى تحتاج إلى أن

تجزأ إلى قضايا صغيرة تجعل من السهل دراستها، ومن هذه القضايا:

١- قضايا التعليم: ويدخل فيها قضايا غياب الرؤية الإسلامية للعملية

التربوية، ضعف الناتج التعليمي، وانفصال واقع التعليم وأهدافه عن حاجات

المجتمع، قضايا إعداد المعلم والمربى وفق منهج الكتاب والسنة، إيجاد الحلول

لمشكلة الأمية، وغير ذلك من القضايا.

٢- قضايا الاقتصاد: ومنها قضايا أولويات النظام الاقتصادي في الإسلام

وقضايا النمو الاقتصادي والهدر العام والتبذير والاستهلاك، ومنها وقضايا الديون

والعجوزات، وقضايا النفط والتصنيع والتجارة الدولية والاتفاقات الاقتصادية

وغيرها.

٣- قضايا التنمية الاجتماعية: ومنها قضايا النمو السكانى، والبيئة وبرامج

التثقيف والتوعية، وقضايا الإعلام وقضايا العنف والتفكك الأسري والجنوح ...

وغيرها.

٤- قضايا التقنية والتقدم العلمي: ومنها قضايا التخلف التقني، وقضايا نقل

التقنية أو استنباتها، وربطها بالنظام العقائدي والأخلاقي للأمة.

كل هذه القضايا (وغيرها كثير) بحاجة إلى دراسات عميقة من قبل المفكرين

الإسلاميين توازي الجهود التي يبذلها القائمون على بعض المؤسسات العلمانية في

العالم العربي التي تعقد المؤتمرات والندوات وتنشر الكتب والمقالات عن هذه

القضايا حتى غدت مفاهيم النهضة والتنمية ترتبط غالباً بمفاهيم علمانية مثل مفاهيم

(حق الأمة في التشريع) في قضايا السياسة وغيرها، ومفاهيم إبعاد الدين والغيبيات

عن عقول الناشئة في قضايا التعليم، ومثل تقديم مفاهيم المصالح المتبادلة وقوى

السوق في قضايا الاقتصاد، ومثل مفاهيم تحرير المرأة ومشاركتها في جميع

مجالات العمل، ومفاهيم تحديد النسل في القضايا الاجتماعية، وهناك قائمة طويلة

من المنطلقات العلمانية التي تتناول قضايا التنمية لا يمكن تقصيها في هذا المقال.

وقد سبب غياب الفكر الإسلامي الصحيح عن قضايا التنمية، احتلال أصحاب

الفكر التغريبي لمواقع عالية في المؤسسات الحكومية والدولية في شتى أقطار العالم

الإسلامي، بل لقد أوهم كثير من العلمانيين وهم يكتبون ويتحدثون عن هذه القضايا، أوهموا أصحاب القرار السياسي والاقتصادي في البلاد الإسلامية بأنهم هم الذين

يفهمون لغة الأرقام ولغة النتائج الإحصائية ولغة التخاطب في المؤتمرات الدولية

والمحلية، أما أهل العلم والدعوة وأصحاب الفكر الإسلامي فإنهم لا يعرفون إلا لغة

الشعارات والخيالات والقضايا الهامشية! !

فهل من وقفة جادة من أصحاب الفكر الإسلامي مع هذه القضايا..؟ وصدق الله

العظيم إذ يقول: [أَفَمَن يَمْشِي مُكِباً عَلَى وجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِياً عَلَى صِرَاطٍ

مُّسْتَقِيمٍ] .