البيان الادبي
قِمَّةُ التَّمَرُّدِ
عبد الله عطية الزهراني
اقتضتْ سُنَّةُ الله في هذه الحياة أنَّ لكلِّ أمرٍ قد بدأ نهايةً حتميَّةً لا بُدَ منها؛ قال
الله - تعالى -: [كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجَلالِ وَالإِكْرَامِ]
(الرحمن: ٢٦-٢٧) .
الأعمارُ تنتهي، والكائناتُ تفنى، والطبيعة تتغير، والأزمان تمضي..
كم من جبلٍ كان شاهقاً يطاول أعنان السماء بقمته جعله الله محطماً فأضحى
أثراً بعد عين! وكم من نَهَرٍ كان يسيل بالمياه أضحى اليوم يشكو الجفاف! وكم من
حديقةٍ غنَّاء كانت شديدة الخضرة، مترعةً بصنوف الأزهار والورود، أمست اليوم
أشجارُها كالعصفِ المأكول، فلا خضرة ولا رُواء، ولا ماء، ولا ظل ظليل!
وكم من إنسانٍ كان يعيش حياةً حافلةً بالنشاط والحيوية، وكان يعيشُ صحةً
في جسمه، وذكاءً في عقله، وبهجةً في وجهه، وقوةً في بصره وجميع حواسه
وهو اليوم كالزهرة الذابلة؛ ذهب بصرُه، ونحُلَ جسمُهُ، وتقوَّسَ ظهْرُهُ، وكساهُ
الزَّمَانُ شعراً أبيض وتجعدات في وجهه، وهكذا.
إنها سُنةُ الله في هذه الحياة التي نعيشُ أيامَهَا ولياليَها، ونشاهد أحداثها
ومواقفها، ولله درُّ القائل:
كل أمرٍ قد ابتدا ... سترى فيه خاتمة
ومثل ذلك نرى صروف الليالي والأيام ... قبل وقت من الزمن كان عُمْرُ
الواحد منَّا لا يتجاوز بضع سنوات، كان يعيش في كنف أمه وأبيه، يلعب مع
أترابه وزملائه، يقفز هنا وهناك، يبتسم كثيراً، ويمتلئ قلبه بالأفراح، لا يعرفه
الهمُّ ولا يعرف الهمَّ، يتقلب في هذه الحياة التي لا يعرف لها سِرًّا ولا يحمل فيها
مسؤولية.. وما هي إلا أيامٌ معدودة فإذا بالسنوات قد تضاعفتْ، وأعلنت الأيامُ
تمردها على الإنسان، فكثُرتْ المشاغلُ وازدادت الهمومُ، وكبُرَ الوالدُ والوالدةُ،
وتفرق الأحبابُ والأصحابُ، وتبدَّلت الدِّيارُ، وأصبح الهمُّ مركباً، وما أصدق
القائل:
ربَّ يومٍ بكيتُ فيه فلمَّا ... صِرْتُ في غيره بكيتُ عليه
عند ذلك يستيقظ من أراد الله به خيراً من غفلته، ويعود إلى رشده، ويعلم
علم اليقين أن هذه الدنيا بزخارفها وبهرجها لا تساوي شيئاً، وأن الفرحَ فيها مؤقت،
والسرور سحابة صيف عن قليل تَقَشَّعُ.
والسعيد في هذه الحياة مَنْ عمل فيها عملاً ينفعه هناك حيث توضع الموازينُ
القسط ليوم القيامة، ويحصِّل العامل ما عمل.
وفاز بالسَّبْق مَنْ قد جَدَّ وانقشَعَت ... عَنْ أُفْقِهِ ظلماتُ الشَّكِّ والرِّيَبِ