في دائرة الضوء
[محنة الثقافة في العالم العربي]
د. محمد يحيى
من التطورات ذات المغزى لأوضاع ما يسمى عادة بالثقافة في العالم العربي
إصرار وزارة الثقافة المصرية مؤخراً على الاحتفال بالذكرى المئوية الثانية لغزو
نابليون مصر في آخر القرن الثاني عشر في إطار تعاون مشترك مع فرنسا، وقد
بلغ من تمسّك الوزارة الشديد بهذه الاحتفالات أن وصف الوزير وعدد من الكتاب
المؤيدين للفكرة من يعارضونها بالجهل والتخلف بل ومساندة من يوصفون عادة
بالمتطرفين المسلمين، وهذا الموقف بليغ في الدلالة على محتوى مفهوم الثقافة كما
يستخدم الآن عند غالبية من ينتهجون المذهب العلماني في العالم العربي. فالثقافة
عندهم هي بلا مواربة اتباع المناهج الغربية في الفكر والنظر، والجري وراء
الفلسفات والنظريات الغربية في مجالات العلوم الإنسانية ولا سيما في الآداب
والفنون. ومن هذا المنطلق فإن وزارة الثقافة في أكبر بلد عربي إسلامي لا تجد
غضاضة في الاحتفال بذكرى عدوان صارخ واحتلال جلي لهذا البلد جعل هدفه
القضاء على الإسلام فيه، وهذا الاحتفال بذكرى احتلال مصر يأتي من جانب
وزارة الثقافة التابعة للدولة كما يأتي بالتعاون مع الدولة المحتلة وبتمويل منها، وكل
ذلك باسم الثقافة!
الثقافة عند العلمانيين:
ويبدو أن بعضهم الآن قد وصل إلى حالة من التبعية الذهنية لا يرى معها
مفهوم الثقافة إلا من خلال عدسات أوروبية غربية. أما الثقافة الإسلامية العربية
(هذا إذا تفضلوا بمنحها لقب أو رتبة الثقافة) فهي ليست إلا مخلفات (رجعية) !
(طلابية) ! لا محل لها في العصر الحديث. ولا نلمح هنا فحسب قطيعة مع عقيدة
وتراث وتاريخ وهوية الأمة؛ بل نلمح كذلك أصل ذلك التفضيل الغريب والتمييز
العنصري الذي أضفى على كلمة (الثقافة) و (المثقف) على مدى العقود الماضية من
جانب التيار العلماني. كان بعض حسني الظن يتصورون أن التفضيل والتمييز
اللذين تحظى كلمة الثقافة بهما إنما يعودان إلى أهمية الفكر والقراءة والعلم في
تهذيب الشخصية وتهذيب سلوكها وترقية وجدانها وعقليتها حسب المفهوم الدارج
لكلمة الثقافة أو المثقف، ولكن هذا التفضيل للمفهومين إنما يعود لدى النخبة
العلمانية إلى أن للثقافة والمثقف عندها معنى خاصاً هو الامتلاء بمحتوى غربي
علماني مخالف للإسلام إن لم يكن مفارقاً ومعادياً له.
ومن هنا حدث اللبس الذي عكر الأجواء الثقافية وأوجد فيها الاضطراب
والبلبلة؛ فالعلمانيون الذين احتكروا منابر الفعل والحركة الثقافية لا يفتؤون
يمتدحون (الثقافة) و (المثقفين) ويرفعون لواءهما، ويدافعون عنهما، ويقف عامة
الناس متفرجين لكنهم مسرورن؛ لأن الثقافة عندهم لها معنى إيجابي هو الفهم والفقه، والتعمق في القراءة والعلم، وتكميل الشخصية، وتطوير العقل وفق جذور معناها
في الوسط الإسلامي؛ لكنهم لا يدركون أن الثقافة التي يجري الحديث عنها ليل
نهار وترفع رايتها إنما هي الثقافة الناظرة صوب الغرب والمستمدة مفاهيمها من
هناك، وهم لا يدركون ذلك إلا إذا خرج (مثقف) بكتاب يطعن في الإسلام، أو إذا
وقعت واقعة كالاحتفال (الثقافي) بالاحتلال الفرنسي للبلد المسلم وسط دعاية طنانة
تجعل من ذلك الغزو السافر المقترن بهمجية الاحتلال ووحشيته بداية التاريخ
المصري الحديث وفاتحة النهضة الفكرية والاجتماعية وباعث الحياة في أمة قتل
روحها الإسلام!
تزوير المعاني:
إن الثقافة عند النخبة العلمانية هي ما جاء من الغرب، ومعيارها هو محاذاة
النموذج الغربي والسير وراءه، ومقياسها هو التمشي واللحاق بأحدث ما يخرج في
الغرب من مذاهب ونظريات فكرية وفلسفية واجتماعية واقتصادية.. إلخ. إن
مفهوم الثقافة عند هؤلاء هو في الحقيقة التبعية لا غير ومحض الذيلية حتى وهم
يرفعون العقيرة بالحديث عن الإبداع وثقافة الإبداع لا ثقافة التلقين (الإسلام) !
وحتى عندما يتحدثون عن (الثقافة الوطنية) أو (الثقافة الجماهيرية) فلا يخلو حديثهم
هذا من التبعية والذيلية؛ لكنها تبعية مستترة خفية. فالثقافة الوطنية عندهم هي
ثقافة النخبة العلمانية المتغربة، وتقابلها ثقافة الظلام والرجعية والردة (الإسلام) أما
الثقافة (الجماهيرية) فهي ليست ثقافة الجماهير القائمة أو التي كانت قائمة؛ لأن تلك
الثقافة إسلامية الطابع والجوهر، وإنما هي الثقافة التي يراد لها أن تنتشر وتسود
بين الجماهير بقوة الفرض والإلحاح الإعلامي والدعائي وهي الثقافة المُعَلْمَنَةُ.
ومما له مغزى في هذا الصدد أن هناك بعض كتب أصدرها علمانيون يكيدون
بها للإسلام في الفترة الماضية القريبة إنما خرجت للناس أول ما خرجت من خلال
سلاسل ثقافية عنونت باسم الثقافة الجماهيرية أو الثقافة للجميع أو مكتبة الأسرة وما
شابه ذلك من الأسماء، والعلمانيون يستغلون شعار وممارسات (الثقافة الجماهيرية)
ومؤسساتها للترويج لأشكال وأنماط من النشاط أقل ما توصف به أنها مجلوبة من
الغرب دون جذور لها في الوسط الإسلامي حتى ولو أضيفت إليها مظاهر خارجية
توحي بأن لها أصلاً في التراث العربي الإسلامي.
ومن الأمثلة الجلية على ذلك ما درجت عليه أجهزة الثقافة الجماهيرية في بلد
كمصر من تنظيم عشرات من حفلات الرقص (المسمى بالشعبي) خلال شهر
رمضان بحجة الاحتفال بالشهر الكريم. ولو تأمل المرء في أصل هذا الرقص
الشعبي لوجد وراء دقات الزار أو دوران الدراويش أو الجلابيب التي يرتديها
الراقصون في خطوات وحركات.. الرقص الغربي نفسه، وقد جلبت إلى العالم
العربي، كما يجد مفاهيم الغرب نفسه في أواخر القرن الثامن عشر وأوائل القرن
التاسع عشر التي سعت إلى إحياء أمجاد الماضي الأوروبي في العصور الوسيطة
(حسب تصورهم) وتعيدها للحاضر كي تهديه أو تنير له الطريق، ولكن كانت
دعوة إحياء الفنون والآداب الشعبية قد جاءت في الغرب في إطار عملية إحياء
شاملة لتراث الغرب وهويته الحضارية.
أما مسألة الفنون الشعبية والثقافة الجماهيرية وما أشبهها عندما تروج في
بلادنا العربية والإسلامية فإن المقصود بها عادة يكون إما إحياء تقاليد تراث وثني
قديم سابق على الإسلام، أو نشر أشكال من الخلاعة والمجون من خلال الرقص
والغناء والانشغال بهما؛ لكن يبقى الهدف المستتر هو علمنة وتغريب الثقافة
الإسلامية باتخاذ أشكال خارجية قد يبدو لبعضهم أنها نابعة من التقاليد المحلية
(التراث القومي) لكنها مملوءة بمضامين أو تفسيرات تُجعل امتداداً للمفاهيم الغربية
في شتى جوانبها المتراوحة من الاحتفاء بالوثنية إلى الاحتفال بالإباحية.
إن مفهوم الثقافة كما يُروّج له الآن من عدة تيارات وجهات علمانية في العالم
العربي وهي جهات ملكت أدوات الفعل والقرار والتنفيذ الرسمية في العديد من
البلدان يخفي وراءه حتى ولو تسربل بثياب الثقافة الشعبية أو الجماهيرية انحيازاً
كاملاً للمفاهيم والتوجهات الغربية. وتحت هذا المفهوم وأبعاده تصبح الثقافة
الإسلامية وهي الثقافة الأصلية والأصيلة (لا ثقافة) . أي تصبح منفية ومقصاة
ومقموعة تحت شعارات جذابة هي رفض الرجعية والظلامية والانغلاق ... إلخ.
وهكذا يكشف هذا المفهوم عن أحد أشد جوانبه شراً وخطورة ألا وهو العنصرية
البغيضة التي ترفع شعارات العقل والتنوير والديمقراطية والحرية والتعددية وما
شابهه؛ ولكنها في الوقت نفسه تمارس أبشع أشكال الاستئصال والإقصاء للتيار
الثقافي الأصيل والغالب وهو الإسلام.
إن الدكتاتورية هي الوجه الآخر المختفي من مفهوم الثقافة الذي يحرص على
إظهار نفسه في صورة نظيفة ناصعة البياض.
والواقع أن مفهوم الثقافة هذا يكشف عند تدبره عن أوجه كثيرة تخالف كلها
المعلن منه، وتناقض مزاعم الدعاية الطنانة التي تُروّج له وتطنطن به جاعلة منه
لفظ مديح واستحسان حتى يحرص كل (مثقف) على أن يتصف به حتى يُعدّ من
زمرة المرضي عنهم! فإذا كان الشعار هو (الثقافة الوطنية) فإن المضمون غربي
علماني يناقض المفهوم العربي الإسلامي، وإذا كان الشعار هو الجماهيرية والشعبية
فإن المضمون هو النخبة والصفوة التي تحاول أن تُكْسِب أفكارها الخاصة والغريبة
عن الشعب والجماهير لباس الانتشار والذيوع والأصالة، كما تحاول أن تسلب
الأشكال الشعبية مضامينها الأصيلة وتملأها بمضامين معلمنة ثم تعيد إطلاقها وسط
الناس تحت زعم أنها تنتمي إليهم، وإذا كان الشعار المرفوع هو الديمقراطية
والانفتاح والتعددية فإن الممارسة المشهودة هي الاستبداد بالرأي وحجب المخالفين
حتى ولو كانوا يمثلون فكر الأغلبية وعقيدتها ثم رميهم بتهم الرجعية والتخلف.
إننا عندما نسمع وصف الثقافة والمثقف يُطلق اليوم على اعتبار أنه وصف
استحسان ومديح فإن علينا أن نبحث في الخلفيات والبواعث وفي حقيقة المضامين
المستخدمة ظاهرة وخفية، وعلينا أن نستكشف أبعاده المختلفة وأبعاد المفاهيم
الأخرى المقصاة عند استخدامه وهي في المقام الأول مفاهيم الثقافة الإسلامية.
ولعل هذا المقال يكون فاتحة نقاش واسع حول هذه المحاور.