للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

حوار

حوار مع فضيلة الشيخ

عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين

التحرير

كنا في العدد الماضي في ضيافة شيخنا العلامة عبد الله الجبرين حفظه الله

حيث حدثنا عن نشأته، والفوارق بين التعلم في عصره والتعلم اليوم، وبيان

الأسلوب الأمثل لطلب العلم، وعلاج بعض الظواهر السلبية بين طلبة العلم،

وتوجيهه لهم في التلقي عن العلماء العدول، وتذكيره بصور من مواقف علماء

السلف الصالح في أداء واجب العلم والتعليم.

ونواصل في هذا العدد هذا المجلس المبارك مع فضيلته ليحدثنا في جوانب

علمية وشرعية وتوجيهية ودعوية. جزاه الله خير الجزاء ومتعه الله بالعمر والعافية.

... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... - البيان-

١٣- حين يُمكّن الله لرجل في العلم فإن الناس يرون فيه الخطيب والواعظ

والمدرس، وعلى هذا الأساس قد يعاملون الخطيب أو الواعظ على أنه العالم المفتي.. وليس ذلك بغريب منهم بقدر غرابته حين يصدر من بعض المتعلمين. فهل

لفضيلتكم من توجيه؟

جواب: لا شك في كثرة الفنون، وتنوع المعلومات، وأن الهمم تختلف،

ولذلك نشاهد الجامعات ممتلئة؛ فهؤلاء يميلون إلى الأحكام وعلم الحلال والحرام،

وهؤلاء يفضلون التخصص في علم العقائد والفرق والمذاهب المعاصرة، وآخرون

ميلهم إلى علوم اللغة والتراجم والتاريخ والأدب، وآخرون ميلهم إلى العلوم الآلية

والرياضيات ونحوها. ثم إن العامة إذا لقوا من جاوز المراحل الدراسية، وحصل

على درجة عالية، اعتقدوا فيه الأهلية لكل ما يتجدد من الوقائع، ورجعوا إليه في

حل المشاكل، فرضوا بحكمه في الفصل بين المتخاصمين، ورجعوا إلى قوله في

الأحوال الشخصية، وطلبوا منه الجواب فيما يدور حولهم من الوقائع العلمية،

سواء كانت تتعلق بالعبادات، أو بالمعاملات، أو بالأنفس أو بالأموال، ثم تراه

يتجاوب معهم، ويُنَصّب نفسه للإفتاء والتعليم، ويجيب على كل ما يوجه إليه من

أسئلة تتعلق بالتوحيد، أو بالأدب أو بالسّنّة، أو بالتفسير، أو بالأحكام، رغم قلة

معلوماته في أكثرها، ويحمله على ذلك الخجل من رد الجواب، أو التوقف على

الفتيا، مخافة الوصمة بالنقص، أو الرمي بالجهل؛ حيث إنه في مكانة مرموقة،

ومنزلة من العلم رفيعة عند العامة، فهو يفتي بغير علم، ويتصدر للجواب، وهو

بعيد عن الصواب. ولا شك أن هذا عين الخطأ، وأن الواجب عليه أن يحيل هذه

المسائل إلى أهلها، ويعطي القوس باريها؛ فإن العلم أن يقول: الله أعلم. وقد قال

بعض العلماء: (من أخطأ (لا أدري) أصيبت مقاتله) ؛ وقد قال بعض الشعراء في

الحث على العلم وآداب التّعلّم:

وقل إذا أعياك ذاك الأمر ... ما لي بما تسأل عنه خبر

فذاك شطر العلم فاعلَمَنْهُ ... واحذر هُديت أن تزيغَ عنه

فربما أعيا ذوي الفضائل ... جواب ما يلقى من المسائل

فيمسكوا بالصمت عن جوابه ... عند اعتراض الشك في صوابه

ولو يكون القول في القياس ... من فضة بيضاءَ عند الناس

إذاً لكان الصمت من عين الذهب ... فافهم هداك الله آداب الطلب

وقد ذكر بعض العلماء أن تدخل الإنسان في ما لا يعنيه من القول على الله بلا

علم، وجعلوه أعظم إثماً من الشرك، لقول الله تعالى: [قُلْ إنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ

الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الحَقِّ وَأَن تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ

يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ] [الأعراف: ٣٣] . وهذه

المحرمات مرتبة على الترقي من الأخف إلى الأشد، فدل على أن القول على الله

بلا علم أعظم إثماً من الشرك.

ولقد كان العلماء الأجلاء يتوقفون عند الكبير من المسائل، كما ذُكر ذلك في

الشعر المذكور، وقد نقلوا عن مالك إمام دار الهجرة رحمه الله تعالى أنه سُئِلَ عن

أربعين مسألة فأجاب عن أربع منها وتوقف عن الباقي، وقال للسائلين: اذهبوا

فقولوا: إن مالكاً يقول: لا أدري. وكان الإمام أحمد كثيراً ما يتوقف عن الأجوبة

التي تعرض له، ويستدل بقول الله تعالى: [وَلا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكَذِبَ

هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ إنَّ الَذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ لا

يُفْلِحُونَ] [النحل: ١١٦] . ثم نقول: على الجمهور أن يرجعوا في مسائلهم

ومشكلاتهم إلى أهل العلم الصحيح، وأن يمتثلوا قول الله تعالى: [فَاسْأََلُوا أََهْلَ

الذِّكْرِ إن كُنتُمْ لا تَعْلَمُونَ] [النحل: ٤٣] فأهل الذكر هم حملة علم الشريعة الذين

توغلوا في علم الأحكام، وبحثوا في مسائل الحلال والحرام، وقد يسر الله الاتصال

بهم بأسهل الطرق؛ فقد تقاربت البلاد، ويسر الله المواصلات السريعة التي تقطع

المسافات البعيدة في زمن قصير، كما يسر الاتصال الهاتفي للقريب والبعيد،

وتيسر الرجوع إلى الفتاوى المطبوعة والمسجلة، والرجوع إلى الإذاعة الإسلامية،

سيما برنامج (نور على الدرب) ، وما أشبهه، فعلى هذا لا يجوز لغير العالم

بالأحكام التدخل في جوانبها، ولو كان واعظاً، أو خطيباً أو مدرساً أو داعية،

حتى يطّلع على العلوم الشرعية، ويعرف الحق بدليله، ويعرف الراجح من

المسائل الخلافية، ويتصور أسباب الخلاف بين المذاهب والعلماء، كما لا يجوز

للعالم الرباني أن يكتم العلم، ويتوقف عن الجواب الذي يعرفه؛ فقد ورد الوعيد

الشديد على كتمان العلم، وأن الذين يكتمونه يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون، ومن

سُئل عن علم فكتمه أُلجِمَ يوم القيامة بلجام من النار، ولا يجوز للعامة الرجوع إلى

حملة الشهادات التي لا تؤهل للفتيا في المسائل الخلافية، كمسائل الطلاق، والتيمم، ومسح الجوارب، ومفطرات الصائم، وواجبات الحج، ونحوها، بل يوجهون

هذه المسائل إلى أهل التخصص والمعرفة بها، ليصدروا عن علم ويعملوا على

بصيرة. والله أعلم.

١٤- تتزاحم الأولويات في مخاطبة الناس، فيقع بعض المصلحين في حيرة

أو اضطراب؛ فحبذا لو جلّيتم الخطوط العريضة في هذا المجال؟

جواب: لا شك أن الناس يختلفون في المفاهيم، وفي الميول والطباع، وأن

المعلم، أو الواعظ قد يتوقف في العلوم والفنون أيّها أوْلى أن يطرقه، ولكن نقول:

إن الواجب تحديث الناس بما هو الأهم في حقهم، وقد نُقل عن علي رضي الله عنه

أنه قال: (حدثوا الناس بما يعرفون، أتريدون أن يُكذّب الله ورسوله؟) فمتى كان

المخاطَبون من أهل الأديان المخالفة، فالأوْلى خطابهم بتقرير الرسالة، ودلائل

النبوة، ومحاسن الدين الإسلامي، أو إزالة شبهاتهم، والإجابة عما لديهم من

الشكوك والتوهمات. وإن كان المخاطَبون من أهل الإسلام، إلا أن لديهم بدعاً

وعقائد منحرفة؛ فإن خطابهم يكون بتقرير العقيدة السليمة، وما كان عليه الصحابة

والسلف الصالح، والصدر الأول، وهو ما تطرق إليه الأئمة في مؤلفاتهم في السّنّة

والتوحيد، والإيمان، وتقرير العقيدة الصحيحة، والرد على المبتدعة.

وإن كان المخاطَب من أهل التفريط والانتماء إلى الدين ظاهراً، دون تطبيق

وعمل، أو مع مخالفة وانهماك في كبائر الذنوب أو صغائرها، فإنه يُسلك معه من

المناقشة حول حالته ما يمكن اقتناعه به من الوعد والوعيد، وإقامة الحجة والدليل،

وإيضاح الحجة والسبل السوية، التي تقطع الشبهات، وتوصل إلى الحق واليقين.

أما الخطيب والواعظ الذي يلتقي بعوام الناس الذين لم تتلوث عقائدهم بأوضار

الجاهلين وشكوك المموهين، بل هم على فطرتهم، وعلى يقين من صحة دينهم،

إلا أن معهم من الجهل ما أوقعهم في المحرمات ونقص الطاعات، فإن الخطيب

والواعظ يسلك معهم طرق التعليم، والتنبيه على ما فيه خطر، أو ما هو محرم،

ويحرص على علاج ما انتشر وفشا من المعاصي والفواحش، ويتطرق كل حين

إلى ما فيه ضرر على الأديان والأبدان، مما هو موجود ومتمكن في المجتمعات،

فلا بد أن يكون عالماً بما يحتاج إليه ذلك المجتمع، وما يتساهل فيه الأفراد

والجماعات، وما يفعلونه عن جهل، أو عن تهاون، ويحسبونه هيناً وهو عند الله

عظيم، فمع كل جنس بما يناسبه، وبذلك ينجح الواعظ، ويقدم ما هو أهم من

غيره، ويعطي كل نوع ما يحتاج إليه.

١٥- لا شك في ضرورة تصحيح عقائد الناس بكل جوانبها. حبذا لو ذكرتم

لنا جوانب الاعتقاد مرتبة حسب أهميتها في واقع الناس اليوم؟

جواب: معنى ذلك أن الدعوة إلى الله تعالى، يُحتاج فيها إلى البدء بتصحيح

العقيدة؛ فإن الأعمال الصالحة يتوقف قبولها على صحة المعتقد، ومعلوم أن عامة

الناس وأكثريتهم لا يحسن خطابهم بأدلة وجود الله تعالى، ولا بالخوض في إثبات

الصفات الذاتية، والصفات الفعلية ونحو ذلك، وإنما يسلك الداعي معهم تصحيح

مفهوم العبادة، وإخلاص الدين لله تعالى، وذكر أنواع العبادة، وأدلة التوحيد العملي، كالدعاء، والخوف، والرجاء، والتوكل، ونحو ذلك. وقد كتب في ذلك الشيخ

محمد بن عبد الوهاب رحمه الله الأصول الثلاثة، وكتاب التوحيد، وكشف الشبهات، ونحوها مما كتبه في التوحيد، فهو المناسب للعامة الذين يقعون في شرك العبادة

وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً.

والعلماء منهم يناقشون فيما لديهم من الشبهات، وما قد يعرض لهم من

الاعتقاد في المخلوقات؛ الذي تلقوه عن أسلافهم وعلمائهم الذين انخدعوا بالعامة

والخاصة، وأكبوا على الشركيات، وسموا ذلك استشفاعاً، وتبركاً، وتوسلاً

بالأولياء ونحوهم. وأما علماء الضلال فإن الداعية يناقشهم في البدع التي ينتحلونها، ويحتجون فيها بسنّة الآباء والأجداد، ويقول الله تعالى في حجتهم: [قَالُوا بَلْ

وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ] [الشعراء: ٧٤] ، ويدخل في البدع ما يخالف الأدلة

اليقينية، من العقائد المتعلقة بالأسماء والصفات، والقضاء والقدر، والأمر والنهي، والإسلام والإيمان، والصحابة، وأهل القبلة، من المعتزلة، والمعطلة،

والجهمية، والجبرية، والمرجئة، والقدرية، والخوارج، والروافض، والمتصوفة، ونحوهم. وقد أكثر العلماء من أهل السّنّة في مناقشة عقائدهم، والرد على

شبهاتهم العقلية والنقلية، وبيان الصواب والخطأ في معتقداتهم وأدلتهم. فلذلك على

الداعي أن يسلك معهم المجادلة بالتي هي أحسن، ويرجع في ذلك إلى ما كتبه علماء

صدر هذه الأمة، مما يتعلق بالسنة، والإيمان، والتوحيد، فقد أكثروا من التأليف

فيما يتعلق بالاعتقاد، كالإمام أحمد بن حنبل، وابنه عبد الله، وأبي بكر الخلال،

وأبي بكر بن أبي شيبة، والبخاري، وابن خزيمة، وعثمان الدارمي، والآجري،

واللالكائي، وابن بطة، والبيهقي، والطحاوي، وابن أبي عاصم، وغيرهم، وقد

يسّر الله طبع كتبهم ونشرها، وتوفرت لدى كل طالب علم، وتبين بواسطتها ما

كان عليه السلف والأئمة المقتدى بهم، والله أعلم.

١٦- تتباين مناهج الدعاة في التغيير، فيميل بعضهم اجتهاداً إلى مسلك دخول

المجالس النيابية.. تُرى: هل هذا مما يتسع فيه النظر والاجتهاد لأجل تباين

الظروف، وتعقّد بعض الأوضاع؟ وإذا كان الأمر سائغاً فهل في هذا السبيل غنية

عن تربية الناس على دين الله تعالى؟

جواب: صحيح أن هذا مما يختلف باختلاف الأشخاص، والأماكن،

والأوضاع، فمتى رأى الدعاة هذا المسلك مفيداً فعلوه؛ حيث إن الداعية متى غَشِيَ

الجماهير، واعترفوا بمكانته وفضله، وارتفع منصبه، واشتهر بين العامة بعلمه

ورتبته، كان ذلك أدعى لقبول قوله، والتأثر بنصحه، وتلقي مواعظه وإرشاداته،

وتقبل فتاواه وأجوبته؛ حيث تعترف به الدولة، وتوليه منصباً مرموقاً، وترجع

إليه الاختلاف، ثم يقوم بالخطابة، والدعوة إلى سبيل الله تعالى والقضاء بالعدل،

والحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه، فهو بما لديه من علم وعمل ومعرفة بالله تعالى

وبوعده ووعيده، وأمره ونهيه، يقول الحق ويصدع به، ولا يخاف في الله لومة

لائم، فيأمر بردع الظالم، وقمع العاصي والمجرم، وقتل القاتل متى تمت الشروط، ورجم الزاني المحصن، وقطع يد السارق، وهكذا يقضى بأمره على معامل

الخمور والمسكرات، وعلى مروجي المخدرات، وعلى حوانيت الدعارة والبغاء،

وأماكن الفساد. ولكن هذا إنما يُتَصوّر عن عالم رباني، معترف بمكانته، فهو

يتصل بالرؤساء والوزراء، والأمراء والولاة ونوابهم، وتنفذ أوامره، وتجاب

طلباته التي توافق الحق، وتهدف إلى مصلحة العباد والبلاد.

فأما من كان ضعيف المعلومات، أو قليل المعرفة، أو معه شيء من

الانحراف، أو عنده ميل إلى بعض البدع والمحدثات، أو كان مُزجى البضاعة في

العلم، فأرى عدم دخوله تلك المجالس، لعدم تمكنه من قول الحق والصدع به،

وخوفاً من إقراره المنكرات، أو دعوته إلى شيء من البدع والشركيات، كما حصل

ذلك من بعض علماء الضلال الذين خدعوا ولاة الأمر وسوغوا لهم البناء على

القبور، وعمارة المشاهد والمعابد الشركية، وحفلات الموالد، وإقرار البدع

الاعتقادية والعملية، فاحتج العامة بأقوالهم الخاطئة، وأصبحت فتاواهم ومؤلفاتهم

حجة لكل جاهل ومبتدع. وهكذا نقول أيضاً: قد يُفَضّل للعالم والداعية الاعتزال،

والبعد عن ولاة السوء، وأئمة الضلال، الذين يحتقرون العالم، ويخالفون ما يقوله، ويبقى بينهم ذليلاً مهيناً مع تظاهرهم بتحكيم القوانين، وإعلان البدع، وإباحة

الخمور، وتعاطي المسكرات، وإعلان تعطيل الحدود، وفتح بيوت الدعارة

والفواحش، ورفع أماكن علماء الضلال، وقمع الدعاة إلى الله. فمن السلامة في

مثل تلك الدول أن يبتعد الداعية إلى الله عنهم، وأن يعتزل ولاياتهم، وأن يفضل

العيش في البادية، والقرى النائية؛ فقد ورد في الحديث قول النبي -صلى الله عليه

وسلم-: (يوشك أن يكون خير مال أحدكم غنماً يتتبع بها شعف الجبال، ومواقع

القطر، يفر بدينه من الفتن) . ومع ذلك فإن كل مسلم عليه مسؤولية كبرى، بحسب

ما عنده من القدرة والعلم، ففي الأثر: (كلكم على ثغر من ثغور الإسلام، فاللهَ اللهَ

أن يؤتى الإسلام من قِبَله) . فعلى هذا يقول بما في إمكانه من الدعوة إلى الله تعالى، وتربية الناس على دين الله تعالى وليس هناك غنية عن هذه التربية بحسب

الإمكان. والله أعلم.

١٧- من قواعد منهج أهل السّنّة: (رحمة الخلق في دعوتهم إلى الحق) . وقد

سبب غياب هذه القاعدة عن أذهان بعض المصلحين والشباب أن استحالت قضيتهم

مع أهل البدعة والضلال إلى معارضات جدلية لا معنى لها؛ مما أضعف استجابة

بعض المخالفين. فليتكم تشيرون إلى بعض الأمثلة لتطبيق هذه القاعدة عند سلف

الأمة من المتقدمين والمتأخرين؟

جواب: قال الله تعالى: [ادْعُ إلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ

وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] [النحل: ١٢٥] . وقال الله تعالى: [وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ

الكِتَابِ إلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ] [العنكبوت: ٤٦] وقد امتثل النبي -صلى الله عليه

وسلم- هذا الأمر، فرفق بالناس عند الدعوة إلى الإسلام، وأحسن معهم المقال،

فكان بمكة يتتبع الوفود والحجاج، ويعرض عليهم دعوته، وما جاء به، ويبين لهم

حقيقة التوحيد، دون أن يضللهم، أو يُسفّه أحلامهم، أو يتنقص عقولهم، حتى قال

الله تعالى: [وَلا تَسُبُّوا الَذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ]

[الأنعام: ١٠٨] مع أن آلهتهم أموات غير أحياء، لا تسمع ولا تبصر، ولا تغني

عنهم شيئاً، ولكن في سبها قدح في عقولهم وأعمالهم، وقد حكى الله تعالى حالته

معهم بقوله: [فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظاً غَلِيظَ القَلْبِ لانفَضُّوا مِنْ

حَوْلِكَ] [آل عمران: ١٥٩] ، وهكذا كان يوصي أصحابه عند دعوة الناس إلى

الإسلام، فقد قال لمعاذ: (فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله) وفي

رواية: (إلى أن يوحدوا الله) . وقال لعلي رضي الله عنه: (ثم ادعهم إلى الإسلام،

وأخبرهم بما يجب عليهم من حق الله تعالى فيه، فو الله لأن يهدي الله بك رجلاً

واحداً خير لك من حمر النعم) . وفي حديث (بريدة) في الوصية لأمير الجيش،

أمره أن يبدأ بالدعوة إلى الإسلام، ثم إلى بذل الجزية، وهو دليل على ما جبل الله

تعالى نبيه عليه من الرحمة بالخلق، وحبه لدخولهم في الإسلام بالطرق السلمية؛

حيث لم يكره أحداً على الدخول في الدين، وإنما دعاهم بالحكمة والموعظة الحسنة، وهكذا فعل أصحابه والمؤمنون من أمته، قديماً وحديثاً، فقد ظهر حسن معاملتهم

مع المعاهدين والذميين، مما حمل الكثير على اعتناق الإسلام، فكانوا يوفون

بالعهود، ويؤمّنون المستأمن حتى يسمع كلام الله، وقد ذكر العلماء في أحكام أهل

الذمة تحريم الظلم والعدوان، والإضرار بالذميين، ووجوب الرفق بهم في الدعوة

إلى الله، وحسن معاملتهم التي تجلب لهم الدخول في الإسلام. وضرب المسلمون

أروع الأمثال قديماً وحديثاً في الرحمة بالخلق، ولين الجانب، واللطف في القول،

واجتناب الإغلاظ والفظاظة؛ والقصص عنهم في ذلك كثيرة مشهورة في كتب

التأريخ والتراجم، فمن طلبها وجدها.

١٨- تعيش قاعدة: (هجر المبتدع) بين نظرين: نظرٍ يجنح إلى تطبيقها دون

مراعاة قاعدة: (المصالح والمفاسد) ، وآخر يترك تطبيقها بالكليّة فما ضوابط تطبيق

هذه القاعدة؟

جواب: أرى أن الأمر وسط بين هذين النظرين، فإن الهجر يجوز للمصلحة؛ وذلك أن العاصي والمبتدع إما أن يكون معانداً مصرّاً على الذنب والبدعة، لا

يتأثر بالوعظ، ولا يقبل النصح، بل يرى صحة ما هو عليه، ويعتقد خطأ من

نصحه عن ذنبه، سواء كان الذنب مكفراً أو مفسقاً، فمثل هذا أرى هجره والابتعاد

عن مجالسته وموالاته؛ لعموم الأدلة في تحريم موالاة الكفار، كقوله تعالى: [لا

تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ] [المجادلة: ٢٢]

الآية، والمودة هي المحبة والكرم، وقوله تعالى: [تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَذِينَ

كَفَرُوا] [المائدة: ٨٠] إلى قوله: [وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إلَيْهِ

مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ] [المائدة: ٨١] ، وقوله تعالى: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا

آبَاءَكُمْ وَإخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إنِ اسْتَحَبُّوا الكُفْرَ عَلَى الإيمَانِ] [التوبة: ٢٣] فالنهي عن

التولي أمر بالهجر والإبعاد، والمقاطعة للأقارب، فضلاً عن الأباعد، وذلك أن

إكرامهم وتقريبهم، ومجالستهم، مع إصرارهم على الكفر والفسوق والعصيان،

يعتبر إقراراً لأفعالهم، وفيه دعوة لغيرهم إلى تقليدهم واتباعهم؛ حيث لم يلقوا من

المؤمنين إلا المودة والتقريب، والله قد نهى عن مودتهم، وجعل من والاهم مثلهم،

بقوله: [وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإنَّهُ مِنْهُمْ] [المائدة: ٥١] أما إن كان العاصي أو

المبتدع متأولاً ويعتقد أنه على صواب، فإن الواجب دعوته، وبيان الحق له،

وتأليف قلبه وتقريبه، وكثرة نصحه، وتخويفه وتحذيره، من غير مبادرة إلى

الهجر الذي يكون مُنفّراً له عن الخير، ومبعداً له عن مجالس الذكر والعلم، سيما

إذا كان هجره وإبعاده يسبب اختلاطه بالأشرار، وامتزاجه بهم، ورسوخ المعاصي

في قلبه وابتعاده عن أهل الذكر والخير والعلم النافع؛ مما يسبب قسوة قلبه،

وانصرافه عن أهل الفضل والعلم، واعتقاده فيهم التنفير والغلظة والشدة، فمثل هذا

متى هجر واستعملت معه القسوة لأول مرة نتج عن ذلك بغضه للصالحين، ونفرته

من مجالستهم، واعتياضه عنهم بالأشرار، وإحسانه الظن بهم، لما يجد منهم من

التقبل والترحيب والتشجيع؛ وهكذا إذا كان العاصي معترفاً بذنبه، مقراً بسوء فعله، قد غلبت عليه نفسه الأمارة بالسوء، وكذا من يجالسه ويعمل معه من السفهاء؛

فإن ذلك يحدث كثيراً من بعض الجهلة، فأرى أن هجرهم مبدئياً مما ينفرهم،

ويسبب منهم التمادي في الغي والضلال، فمن المصلحة تقريبهم وتكرار نصحهم،

وتخويفهم، وترغيبهم في التوبة والإقلاع عن الذنوب، سيما إذا وجدت منهم الرقة

والتقبل، والوعد الحسن. وقد يجوز الهجر للعاصي إذا عُلم أن الهجر يؤثر فيه،

ويسبب إقلاعه عن المعاصي حيث إن هناك الكثير من العصاة يقع منه الذنب

الصغير أو الكبير، بلا حاجة ولا دافع نفسي، كحلق اللحية والإسبال، والتكاسل

عن الصلاة، وسماع الأغاني، وتعاطي الدخان أو الخمر، وهو مع ذلك متأول،

أو متساهل، فمتى هجره أبواه وإخوته وأقاربه، ومقتوه، وطردوه، تأثر لذلك،

وعرف خطأه، وكذا إن كان الهاجر له يعز عليه، كأصدقائه وأحبابه، فكثيراً ما

يحدث أن يتوب بعد الهجر، ويقلع عن العادات السيئة، فإن كان الهجر لا يزيده إلا

تمادياً في السوء، وعملاً للمعاصي، فالمصلحة تقتضي تقريبه، فذلك أخف للشر،

وأقل للعصيان، والله المستعان.

١٩- كثرة الواجبات أشغلت بعض الدعاة عن بيته، لا سيما إذا كان مشغولاً

بما هو فرض كفاية مما يرى أنه متعين في حقه: فهل له في هذا عذر مع اعتبار

المصالح والمفاسد في كلتا الجهتين؟

جواب: لا يجوز للإنسان أن يتقبل من الواجبات والأعمال ما هو فوق طاقته، بحيث يشغله عن الحقوق المتحتمة عليه لله أو لعباده، وقد قال النبي -صلى الله

عليه وسلم- لعبد الله بن عمرو بن العاص: (فإن لجسدك عليك حقاً وإن لعينك

عليك حقاً وإن لزوجك عليك حقاً وإن لزَوْرك عليك حقاً) [١] والحق الذي لزوجه،

هو الأنس والمجالسة الكافية، والعشرة الطيبة، وقضاء الوطر، والمبيت المعتاد،

ولا شك أن ذلك لا يستغرق جميع وقته، ففي إمكانه أن يقوم بواجبه الوظيفي،

ومنه الدعوة إلى الله تعالى، وزيارة الإخوان، وأداء الواجبات الدينية، ومنه

الإتيان بما يقدم عليه في نهاره أو ليله من فروض الكفاية، سيما إذا رأى غيره لم

يقم بها، وأصبحت متعينة في حقه، ولو كانت تحتاج إلى سفر بعيد أو قريب،

كالمحاضرات، والندوات، والنصائح، وتغيير المنكرات، والأمر بالمعروف،

وإبداء الآراء والاقتراحات عند من يقبلها؛ وذلك لما فيها من المصالح العامة

للمسلمين، وما فيها من نصرة الدين، وقمع العصاة والمنافقين، ومع ذلك كله فلا

يهمل أهله وذريته، فقد ورد في الحديث: (كفى بالمرء إثماً أن يضيع من يمون)

وفي لفظ: (أن يحبس عمن يمون قوته) ، وعليه أن يقنع أهله وزوجاته بما يحصل

لهم من نفقة، أو إقامة، إذا تحتم عليه السفر أو الانشغال، والله أعلم.

٢٠- ما الشروط المعتبرة للشهادة بعدالة الرجل؟ وهل يمكن الاكتفاء فيه

بقول معدل واحد؟

جواب: تكلم العلماء في الجرح والتعديل بالنسبة لرواة الحديث، وأطالوا في

شروط العدالة في كتب المصطلح، وكتب الرجال، وذكروا أنه لا يقبل قول كل

جارح أو معدل؛ حيث إن هناك من يتكلم في الرجال بغير علم، فيجرح أو يعدل

بمجرد الظن والتخمين، وكذا من يتكلم لمجرد الهوى، فيجرح من يبغضهم أو

يعاديهم، ويعدل من يواليهم، ويعرف ذلك بمخالفته لغيره، فكثيراً ما ينفرد البعض

بتعديل الراوي، بينما بقية الأئمة جرحوه وطعنوا في روايته، ولا شك أن الكلام

في الرجال المسلمين، سيما بعد موتهم، له خطره، وخصوصاً من عُرف بالدين

والعبادة، والصلاح والاستقامة، وعرفت مكانته عند الأمة، وظهر له ذكر حسن،

ولسان صدق، فإن الكلام فيه من غير تثبت ذنب كبير، وقد قال النبي -صلى الله

عليه وسلم-: (لا تسبوا الأموات؛ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا) رواه البخاري

وغيره. وقال: (لا تسبوا الأموات فتؤذوا الأحياء) رواه أحمد وغيره.

ومتى كان الكلام في الأموات لمجرد الهوى أو الحسد فإنه يكون طعناً في

الجارح نفسه؛ حيث إن المجروح قد اشتهر علمه وفضله، وانتشر بين الناس ذكره

الحسن، والثناء عليه.

أما إن كان المجروح ضعيف الحديث، وقد تصدى للرواية، فدخل في حفظه

خطأ، أو خلل، أو نقل ما ليس بصحيح، فإن الكلام فيه متعين على من عَرَف ذلك، مخافة الانخداع برواياته ونقوله، وهي غير صحيحة، ولذلك كان الإمام أحمد

والبخاري ويحيى بن معين، وأبو حاتم الرازي، وغيرهم يتكلمون في المحدثين،

ويذكرون ما فيهم من الجرح والطعن، وذلك من باب النصيحة للأمة، لا من باب

التنقص لهم، ولا يكون غيبة؛ لأنهم يذبّون عن سنة رسول الله -صلى الله عليه

وسلم-، وينقّونها مما دخل فيها؛ فلو سكتوا لاشتبه الصحيح بالضعيف والسقيم،

ولم يفرق بين نسر وظليم، فهم مأجورون على كلامهم؛ ولأن أولئك تدخلوا في

رواية الحديث بغير أهلية، فوجب بيان حالهم بدون تعصبٍ أو هوى، والله أعلم.

٢١- ما توجيهكم لطلاب العلم الذين اشتغلوا بالجرح والتعديل في بعضهم وفي

بعض العلماء والأشخاص دون أن يأخذوا للأمر عدته ومتطلباته؟

جواب: لحوم العلماء مسمومة، أي غيبتهم والقدح فيهم يردي من تسرع

وطعن في علماء الأمة، ويتوجه الطعن والعيب عليه حتى يهلكه هلاكاً معنوياً؛

وذلك لأن علماء الأمة الإسلامية قد حَمّلهم الله هذا الدين، واختارهم لحمل كتابه

وسُنّة نبيه، وذلك شرف وفضيلة تميزوا بها عن غيرهم، وقد عرف الناس قدرهم

ومكانتهم المرموقة، واعترفت الدول والرؤساء بفضلهم وتقدّمهم، وولّوهم المناصب

الهامة، وصدروا عن آرائهم وتقبلوا نصائحهم واقتراحاتهم، فهم يقومون بأمر

عظيم، ويتحملون عن الأمة عبئاً كبيراً، ولو قُدّر أن في بعضهم شيئاً من الخلل

والخطأ، فإنهم معذورون، فهم يعرفون ما لا يعرف غيرهم، ويقدرون للأمور

حسابها، وليس في استطاعتهم ولا غيرهم إصلاح كل فاسد، ولا رد كل شارد،

ولكن بعض الشر أهون من بعض، وقد يظن بهم بعض العامة التساهل والتغاضي

عن الشرور الظاهرة، والمنكرات الموجودة، ويعتقد أنهم سكتوا عنها وأقروها،

والواقع أنهم قد قاموا بما في الإمكان، ودافعوا عن الأمة والدين الإسلامي، ودفع

الله بهم الكثير من كيد الأعداء الحاسدين، ممن يحاول الطعن في ديننا، وإدخال ما

يفسد القلوب، من الشرور والأضرار والفتن، فالعلماء يبذلون الجهد في الدفاع عن

الإسلام، والتخفيف من المنكرات، ولكن الشرور تتوافد وتتوارد من كل جهة،

فتغلب القوى الفردية، ويعتذر من خفف من شأنها، بصعوبة اجتثاثها، وبما في

بعضها من مصلحة أو خلاف ولو ضعيفاً يقتضي التساهل بها، ومع ذلك فالسعي

جاد في تقوية الحق ونصر الدين بقدر الاستطاعة، والله المعين، فعلى هذا من

اشتغل بالطعن في علماء الأمة الإسلامية أو في بعضهم فقد أساء العمل، وجهل

الحال فيقال لهم:

أقلوا عليهم لا أبا لأبيكم ... من اللوم أو سُدّوا المكان الذي سَدّوا

فعلى طالب العلم أن يشتغل بنفسه، ويتفقد عيوبه، ويسعى في إصلاح نقصه، كما عليه أن ينكر المنكرات بقدر استطاعته، وأن ينصح العلماء ويرشدهم إلى ما

يراه الأصلح للحال والمستقبل، ويتصل بكل من رآه مخلاً بشرط، أو واقعاً في

خلل، ويبدي له اقتراحه، ويقبل عذره، ويعترف بما يراه من الرأي السديد،

وينصح الشباب وطلبة العلم بعدم الخوض في أعراض العلماء، والميل أو التّحيّز

إلى جهة أو طائفة لمجرد تعصب أو هوى في نفس، وبذلك تصلح الحال، وتجتمع

الكلمة، وتقوى معنويات المسلمين، ويوجهون قوتهم إلى أعداء الدين في البعيد

والقريب، والله المستعان، وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله، وصلى الله

على محمد وآله وصحبه أجمعين.


(١) أخرجه البخاري في الصوم (١٩٧٥) ، وأخرجه مسلم في الصيام (١١٥٩) .