للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قضايا دعوية

الإسلاميون بين دولة ضائعة وفرصة سانحة

(٢ ـ ٢)

أحمد فهمي

[email protected]

تناول الكاتب في العدد السابق الأزمة التي تمر بها الحركات الإسلامية نتيجة

قصور المناهج الفكرية والدعوية عن مواكبة التطورات الداخلية والخارجية؛ بعد

ثلاثين عاماً من بدء الصحوة الإسلامية المعاصرة، وذكر أن العمل الإسلامي أنهى

دورته الثانية ويقف الآن على أعتاب مرحلة جديدة، تفتقر إلى الفكر القائد القادر

على أن يجتاز بالإسلاميين أزمتهم الحالية إلى فرصة سانحة تلوح بوادرها، وبيَّن

الكاتب أن تعدد الحركات الإسلامية قدَّم لها طوق النجاة من التعرض للذوبان

والتصفية بتأثير المواجهة، كما استشهد بقصة الخضر مع موسى - عليه السلام -

في وصف المرحلة القادمة بـ «مرحلة إقامة الجدار» ، ويواصل عرض بقية

الأفكار في الجزء الثاني.

الحركات الإسلامية وسيلة تجديدية، أفرزها المجتمع المسلم للمرة الأولى

لمواجهة الظرف الطارئ، والذي مرت به الأمة أيضاً للمرة الأولى في تاريخها

عندما طُويت مظلة الخلافة الإسلامية، وصارت معظم البلاد الإسلامية تُحكم بغير

الإسلام، وانطلقت هذه الحركات في مدة تربو على سبعين عاماً، تنافح من أجل

إعادة الخلافة، وكانت النتيجة أن الأمل في تحقق هذا الهدف السامي تلاشى تدريجياً،

حتى يمكن القول بأن دولة الخلافة ضاعت مرات، كانت الأولى في تركيا منذ

أكثر من سبعة عقود، ثم فقدت الحركة الإسلامية عبر تاريخها الطويل فرصاً نادرة

في أكثر من بلد لإعادتها من جديد، وإن كانت الحركة قد اقتربت من تحقيق الهدف

حلماً وواقعاً قبل عهود الاستقلال، ثم اقتربت منه حلماً وفارقته واقعاً في السبعينيات؛

فقد فارقته حلماً وواقعاً في نهاية القرن الميلادي العشرين، ولمدة لا يعلمها إلا الله.

وقد عايشت فترة السبعين عاماً التي هي عمر الحركة الإسلامية أحداث جسام

مرت بها الأمة، ويمكن خلالها أن نلحظ دورتين تاريخيتين للعمل الإسلامي، بدأت

الأولى في إثر سقوط الخلافة، وتحديداً عندما أسَّس الشيخ حسن البنا

جمعية «الإخوان المسلمون» ، وانتهت عندما غلب المد القومي إبان فترة

الاستقلال، وتسلق على أكتاف الإسلاميين في دول مثل: مصر وسوريا وتونس

والجزائر. وبدأت الثانية في حقبة السبعينيات عندما اكتسح المد الإسلامي الشعبي

فلول القومية والناصرية، وانتهت في السنوات الأخيرة بالكيفية التي ذُكرت في

المقال السابق، وإن كانت قد انتهت مبكراً عن ذلك الثمانينيات في بعض البلدان

مثل سوريا.

والتعرض لهاتين الدورتين بالدراسة والتحليل مطلب لا تراجع عنه، فإضافة

إلى أن التاريخ يعيد نفسه؛ فالحركة الإسلامية تعيد إنتاج أخطائها بصورة متجددة،

وتهمل قراءة واقعها المعاصر على ضوء تجاربها الماضية، وفي هذا المقام لا يسعنا

أن نستوعب سرد وتحليل وتقويم التجربة الإسلامية في دورتيها، ولكن حسبنا أن

نقتطف أهم الخبرات التي نحتاج إليها في موضوعنا موزعة على كلتا الدورتين،

ونبدأ بأولاهما:

* الدورة التاريخية الأولى من العمل الإسلامي:

مرت الحركة الإسلامية في هذه الدورة، وتحديداً في مصر، بثلاثة مراحل:

النشأة والتكوين، ثم التوسع والانتشار، ثم ما قبل التمكين. وقدمت الحركة في هذه

الفترة تجربة ثرية لا تزال أدبيات العمل الإسلامي تتعيش عليها إلى يومنا هذا،

ونسلط الضوء هنا على بعض الإشكاليات وجوانب القصور التي رافقت الحركة

الإسلامية في مراحلها الثلاث ونؤكد هنا أن ذلك طرح اجتهادي يحتمل الصواب

والخطأ:

- إشكالية الفكر والحركة هي أول ما يعرض لنا في هذه الفترة، والوضعية

المثالية تقتضي أن يكون للفكر دوماً بادرة السبق على الحركة، كما تقتضي التوازن

بينهما، فلا يتسع الفكر ليجول في سياحات نظرية، ولا ينطلق العمل بلا رؤية

ضابطة وموجهة، وعندما ينشأ بينهما فراغ زمني يحدث الخلل، فلا يمكن للعمل

الإسلامي أن ينطلق برشد دون إطار فكري واضح ينشط خلاله. واختل التوازن

بين الفكر والحركة في هذه المرحلة التاريخية؛ لأن العمل الإسلامي وقتها كان على

غير مثال سابق، وهذا يعني أن رصيد التجربة السابقة يساوي صفراً، ولا أحد

يتحمل المسؤولية هنا لأن ذلك من لوازم السبق، وأيضاً فقد اتسع نطاق العمل محققاً

طفرات لم يستطع الإطار الفكري التمدد لاستيعابها بسرعة كافية، وأصبح هناك

تفاوت بين المنهج الحركي الدعوي الذي ينظم الجماعة من الداخل، والمنهج الفكري

الذي يقودها ويوجهها من الخارج، وظهرت دلائل ذلك في ضعف القدرة على

استغلال الإمكانات المتاحة لتحقيق الأهداف المطلوبة، وهو ما أدى في النهاية إلى

تسلق القوميين - الأضعف - على أكتاف الإسلاميين - الأقوى -.

- يدفع حسنُ الظن الإسلاميين إلى الثقة بشخصيات أو جهات علمانية أو ذات

تاريخ مشبوه أو غامض؛ دون تمحيص أو تدقيق لحيثيات مختلفة في كل مرحلة

تاريخية، وقد ظل أشخاص مثل عبد الناصر وخالد محي الدين زعيم حزب التجمع

الشيوعي في مصر منتظمين كأعضاء محوريين في التنظيم الخاص للحركة لأكثر

من ثلاث سنوات؛ في الوقت نفسه الذي كانوا فيه أعضاء في - حدتو - أبرز

المنظمات الشيوعية وقتها، وغيرها من الجهات المشبوهة.

- تنشأ كثير من السلبيات مع نشأة أي حركة، ولكن عند إهمال المعالجة حتى

تصل الحركة إلى مستوى متقدم من النمو والانتشار؛ يصبح تدارك الخلل بالغ

الصعوبة؛ لأنه نما وتداخل مع نسيج العمل، ولعل من أبرز الأمثلة على ذلك عدم

توفر طاقات بشرية ذات كفاية قادرة على ملاحقة النمو السريع للحركة في ذلك

الوقت، فتولى غير القادر ما لا يقدر عليه، وتولى القادر ما يتجاوز حدود مقدرته

كماً أو كيفاً.

- تميزت هذه الفترة بعدة أمور ينبغي اختزانها في الذاكرة لمقارنتها تلقائياً بما

يقابلها في الدورة التالية؛ حيث يضيق المقام عن التفصيل فيها، وهي: تفرد حركة

واحدة بالعمل القيادة آسرة ومتفردة ذات جماهيرية داخل الحركة وخارجها، ولا

توجد رؤية واضحة لقيادات بديلة؛ لأن البداية كانت واضحة ومحددة؛ فقد أثمرت

واقعاً أكثر انضباطاً وانتظاماً وأقلَّ أخطاء وتجاوزات في مرحلة الانتشار الأولى كان

رد الفعل من قِبَل الرافضين هو الغفلة وعدم الاكتراث، وعندما تجاوزت الحركة

الخطوط الحمراء تمثل رد الفعل في التضييق ثم التصفية ارتباط حدة المواجهة

باقتحام الحركة للعمل السياسي ثم الجهادي في حرب ١٩٤٨م بفلسطين.

* الدورة التاريخية الثانية من العمل الإسلامي:

قبل التعرض للخبرات المستقاة من هذه الدورة؛ نحتاج إلى بلورة منهجية

لعملية تقويم الحركات الإسلامية نظراً لقرب عهدها، ولكونها أكثر إثارة للجدل

وتفاوت وجهات النظر؛ مما يجعل التعرض للتقويم مطلباً صعب التنفيذ والإرضاء،

ولا يُتخيل أن يحظى تصور في هذا المجال بمطلق التأييد أو حتى غالبيته.

فالحركات الإسلامية إضافة لكونها جاءت على غير مثال سابق؛ فإنها تخوض

في مجال اجتهاد رحب لا يحده إلا قليل من الثوابت الشرعية، تختلف بدورها من

تيار إلى آخر، ومن جماعة إلى أخرى داخل التيار الواحد، وبعض هذه الثوابت

قابل للنظر الاجتهادي، أيضاً فهذه الحركات الإسلامية تمارس عملاً طويل الأجل لا

يعلم إلا الله متى تتحقق أهدافه، وقد لا يؤتي ثماره إلا بعد عشرات السنين.

لهذا كله نقول إن التعرض لتقويم مسيرة الحركات الإسلامية يتطلب استخدام

أطر فكرية واسعة ومرنة، ترتكز على عنصرين رئيسين:

- الثوابت الشرعية المتفق عليها.

- التجربة أو النتاج النظري والعملي التاريخي للحركة الإسلامية.

ونتناول في هذا المقال البعد التاريخي في التقويم، وقد تناولنا هذا البعد في

المقال السباق باعتبار: قدرة الحركات الإسلامية على تحقيق أهدافها المعلنة في

فترة زمنية نحسبها كافية لذلك، أو بعبارة أخرى مستوى التطابق بين ما تهدف إليه

الحركة وما حققته بالفعل، وقد خلصنا إلى أن أغلبها قصر عن تحقيق أهدافه في

فترة زمنية متوسطها ٣٠ عاماً، وهو ما دفع إلى القول بانتهاء دورة تاريخية كاملة

للعمل الإسلامي.

وفي هذا المقال نتناول البعد التاريخي في التقويم باعتبار آخر، وهو:

مستوى التقدم الذي حققته الحركات الإسلامية في ميدان العمل الإسلامي، ويمكن أن

نلحظ هنا ثلاثة مستويات: تراجع - ثبات - تقدم. وتنبع أهمية هذا الاعتبار في

التقويم من أن غالبية الجماعات الإسلامية تفتقر إلى معايير دقيقة لقياس الأداء،

وهذا ينشأ عنه التباسات ذهنية متعددة؛ بحيث يمكن أن تجد من يتفاوت تقويمهم

لأداء حركة إسلامية ما بين التراجع والثبات والتقدم في الوقت نفسه، ونحسب أن

المعيار العلمي الدقيق لتقويم الأداء يعتمد على ثلاثة عناصر: الزمن - الظرف -

أحد مفردات نشاط الحركة والذي يُقوَّم أداؤها من خلاله.

فبالنسبة للزمن، يتم تحديد عدة نقاط في النطاق الزمني الذي يراد تقويم الأداء

من خلاله، وهو في حالتنا هذه ٣٠ عاماً تقريباً، أو عمر الحركة، أيهما أقل، ثم

تتم المقارنة بينها لتحديد المنحنى العام لأداء الحركة.

أما الظرف؛ فنعني به التأكد أن النقاط الزمنية المختارة ذات ظروف معتادة

تتوافق مع السياق الطبيعي للأحداث؛ بعيداً عن الأزمات العابرة أو الحوادث الوقتية

التي يمكن أن يكون لها تأثير مؤقت في أداء الحركة.

وأما مفردات النشاط، والتي تُستخدم كأساس للتقويم؛ فتختلف حسب التقسيم

المنهجي للحركات الإسلامية إلى ثلاثة تيارات: سلفية - سياسية - جهادية. فمع

التيارات السلفية يمكن استخدام مفردات مثل: عدد المساجد والخطباء - الرموز

العلمية البارزة - الرموز الدعوية الجماهيرية - عدد المنتظمين في طلب العلم

الشرعي - مستوى الانتشار عددياً وجغرافياً.. إلخ.

وأما التيارات التي تجمع بين النشاط السياسي والدعوي؛ فيمكن بالإضافة إلى

ما سبق استخدام مفردات مثل: مستوى المشاركة النيابية - مستوى المشاركة في

الهيئات والنقابات والاتحادات الطلابية - المؤسسات المعترف بها والتي يُمارس من

خلالها العمل السياسي - المنابر الإعلامية.

أما التيار الجهادي داخل الدول العربية؛ فلا يمكن التعرض لتقويمه من خلال

التجربة التاريخية فقط، لكونه تجاوز في العقدين الأخيرين عدداً من الثوابت

الشرعية في أدائه داخل هذه الدول.

وحسب المعلومات المتوفرة يمكن القول باختصار حيث لا يتسع المقام لأكثر

من ذلك - إن إنجازات الحركة الإسلامية بصفة عامة في عقد الثمانينيات من القرن

الماضي أكثر بدرجة ملحوظة منها في العقد الأخير، وإن كثيراً من مكتسبات

الحركات الإسلامية قد تآكلت، وحسب الرؤية الاستراتيجية يمكن القول بأن

المنحنى العام للعمل الإسلامي منذ أكثر من عقد كامل يحقق انخفاضاً بمعدلات

متزايدة، نعم قد تكون هناك بعض المكاسب الجديدة أو الإنجازات المبهرة، ولكننا

بصدد تحديد التوجه العام للعمل الإسلامي، وعندما يكون هذا الانخفاض عابراً فلا

بأس، ولكن عندما يأتي بعد عقدين كاملين من النمو والارتفاع، وعندما تتضاءل

دلائل على التحول الإيجابي، وعندما تتوفر مؤشرات تنذر بمزيد من الخطر؛ فإن

ذلك يستدعي وقفات للتأمل.

وعود على بدء؛ فإن الدورة الثانية من تاريخ الحركات الإسلامية يمكن

بدورها أن تنقسم إلى مراحل ثلاث باعتبار منهجي: مرحلة تولُّد المناهج والأفكار

- مرحلة تطبيق المناهج والأفكار - مرحلة تراجع المناهج والأفكار. وكانت الفترة

الممتدة من منتصف السبعينيات وحتى بعد منتصف الثمانينيات فترة ذهبية لتأسيس

عدد كبير من الجماعات الإسلامية واندثارها أيضاً، حيث كانت الخطوة التغييرية

المفضلة التي يفكر فيها من توفرت لديه صفات قيادية أو علمية هي أن يؤسس

جماعة خاصة به، ولكن لم تستمر هذه الظاهرة حتى النهاية، فقد تبلورت نتيجة

التدافع المستمر داخلياً وخارجياً إلى جماعات رئيسية لا تزال محافظة على بقائها

ووجودها.

وننتقي فيما يلي بعض أهم الإشكاليات وجوانب القصور التي رافقت ونتجت

عن أداء الحركات الإسلامية في دورتها التاريخية الثانية، والتي تحتاج إلى

مراجعتها على أعتاب الدورة الثالثة:

- هناك أنماط من المواقف التي اتخذتها الحركات الإسلامية في كلتا الدورتين،

وهي تتكرر بصورة تكاد تكون حرفية دون استفادة فيما يبدو من التجارب الماضية،

وهو ما يُشعر بأن ذاكرة الحركة الإسلامية في دورتها الثانية قصيرة الأجل؛ مما

يجعلها تقع في الخطأ الواحد عدة مرات في أزمنة متقاربة، والأمثلة على ذلك كثيرة،

فهناك: إشكالية الجناح العسكري، الجهاد الخارجي، دور المعتقلات في تشكيل

منهج الحركة، تقديم التضحيات والتنازلات دون مقابل يتناسب معها.

ونختار من هذه الأمثلة أحدها للتركيز عليه، وهو: الجهاد الخارجي، فقد

قامت به الحركة الإسلامية للمرة الأولى عام ١٩٤٨م في حرب فلسطين، وهي

حرب لا لبس فيها ولا شبهة، ولكن ماذا كانت النتيجة؟ كانت هذه المشاركة سبباً

في التبكير باتخاذ مواقف تصفوية ضد الحركة؛ إذ كشفت مدى خطورتها، ثم بعد

عقود اشتعلت الحرب في أفغانستان، وفتحت أبواب الجهاد على مصراعيها، وهنا

كان ينبغي على الحركة الإسلامية أن تعي التجربة الأولى ولا تنزلق إلى الفخ قبل

أن تكوّن رؤية متوازنة، وهذا لا يعني بالضرورة عدم الاكتتاب في هذه الفريضة،

والفارق بين الحركة الإسلامية وبين الأطراف المواجهة لها، خاصة الخارجية،

أنهم يستفيدون من الأنماط المتكررة وبمستوى قد يصل أحياناً إلى افتعال حاضر

لنمط سابق؛ من أجل حصر الإسلاميين في مسالك معينة من الفعل سيكون لها

مردودها وتبعاتها في المستقبل، وكان ذلك يعني أنه لا بد من عسكرة العمل

الإسلامي عن طريق الجهاد الأفغاني؛ لتصبح أفغانستان حلقة ثابتة في أي سلسلة

تمتد لخنق العمل الإسلامي في أي مكان، ولأنها مزلق فقد تتابعت الأحداث وانتقل

ميدان الجهاد إلى الداخل العربي، وسيأتي التعليق على ذلك في فقرة لاحقة.

- كان الغالب على جيل المؤسسين للحركة الإسلامية في هذه الحقبة أنهم من

شباب طلبة الجامعات، وتبلورت مناهج الدعوة وقتها على أيدي هؤلاء، نعم كانت

هناك رموز تاريخية لكنها لم تسلب الشباب قوتهم أو رأيهم، وكان النضج والحكمة

عنصرين نادرين في العمل الإسلامي وقتها رغم العاطفة والحماس، وهذا ما

يصرح به هؤلاء الرموز أنفسهم، يكفي أن تجلس مع أحدهم ليحدثك متعجباً عن

تصرفات وسلوكيات وأفكار عجيبة، نشأت عليها أجيال، وأُزهقت في طريقها

أرواح، ثم تخلى عنها مطلقوها إلى غيرها بعد أن تبين لهم عوارها!

في المقابل لم يكن للعلماء دور فعَّال في تأسيس هذه الجماعات أو بلورة

مناهجها أو قيادتها وتوجيهها بالدرجة الكافية بعد ذلك، وانتشرت ظاهرة «مفتي

الجماعة» المتفرد الذي يُرجع إليه لإصدار الفتاوى فيما يتعلق بأداء الحركة،

واعتُبر ذلك غطاء علمياً شرعياً كافياً لدى كثيرين.

- نشأت في هذه الفترة ما يمكن أن نسميه ظاهرة «المطلق» في التفكير

الإسلامي، خاصة لدى التيارات السلفية، ونعني بها اختفاء النسبية من المنهج

العلمي ومنهجية التفكير، واتخاذ القرارات ووضع التصورات، فالأحكام مطلقة،

والقرارات مطلقة، وفتاوى العنف مطلقة، وأيضاً المراجعات مطلقة، بل حتى

تحقيق الأحاديث النبوية صار حقاً مطلقاً لرموز معينة، ومشكلة التفكير بالمطلق أنه

يجعل الحركة الإسلامية - السلفية بالأخص - تأكل مبادئها، فهي تبدأ بنبذ التعصب

المذهبي ثم تنتهي به، وتدعو إلى نبذ الفرقة والاختلاف بمنهجية ترسخهما، وتنادي

بفتح باب الاجتهاد لكي تُحكم إغلاقه من جديد.

- إشكالية «الانتماء» إحدى المشكلات العويصة التي واجهت الحركة

الإسلامية في دورتها الثانية، وهي مشكلة ذات طرفين متناقضين، فبعض

الحركات توسع من مفهوم الانتماء إليها حتى يصبح الأيسر على المراقب توصيف

من لا ينتمي، وبعضها يغالي في شروط الانتماء حتى يضيق المقام عن ذكرها،

والحاصل أن قضية الانتماء تفتقر إلى تأصيل شرعي؛ إذ بها كثير من الدخن الذي

يعيق تقدم العمل الإسلامي.

- العمل الجهادي له أركان ثلاثة: التسويغ الشرعي - القدرة - المصالح

والمفاسد. وأي عمل جهادي لا بد أن يعتبر هذه الثلاثة قبل انطلاقه، والتجربة

التي قدمتها الحركة الإسلامية في الحقبة الماضية تكشف عن خلل في هذه التراتبية،

وبتأثير عسكرة العمل الإسلامي عن طريق الجهاد الأفغاني كما سبق، فقد أصبحت

القدرة هي محور الارتكاز في العمل الجهادي، وليس التسويغ الشرعي أو اعتبار

المصالح والمفاسد، ومن ثم فقد تحول العمل الجهادي من وسيلة تنطبق عليه

الشروط الشرعية للوسائل الدعوية إلى غاية يُسعى إليها - وليس بها - بغضِّ النظر

عن النتائج والتبعات، وحسب ذلك المفهوم فمع تزايد الحصار لهذا التيار تفجرت

إشكالية الأهداف البديلة، والتي حوّلت عدداً من الدول العربية إلى ميادين للجهاد

المزعوم، وخطر هذه الأهداف البديلة أنها تجعل الاستفادة من القدرة المتاحة في

حدودها الدنيا ممكنة، فيمكن دائماً تنفيذ عمليات يسمونها جهادية بغير اسمها.. من

أجل أي شيء؟ لا أحد يدري، ويرحم الله شيخ الإسلام ابن تيمية الذي قرر أن

الحكمة ليست في معرفة الخير المحض أو الشر المحض، بل في معرفة خير

الخيرين وشر الشرَّين.

- التغيرات الحادة في المواقف تنبئ حتماً عن خلل ما، إما في الموقف الأول

أو الثاني، ولا يشترط أن يكون الموقف الثاني غالباً هو الصواب المحض كما يعتقد

بعض الناس، فقد تكون ضالة المؤمن بينهما، ويمكن التمثيل على ذلك بتجربة

الجماعة الإسلامية في مصر، والتي بدأت مسيرتها باغتيال السادات، ثم كان لها

سلوكيات حادة في تطبيق منهجها الدعوي، تطور لاحقاً إلى عمليات العنف، وقبل

تصاعد الأحداث كانت هناك محاولات رسمية لامتصاص الجماعة ولكن بغطاء

شرعي، تمثلت في زيارات قام بها المفتي وعدد من المسؤولين إلى مساجد الجماعة

في الصعيد، ثم تشكل مجلس علماء من أجل الوساطة والتهدئة عام ١٩٨٩م، وكان

يضم: الشيخ محمد الشعراوي، والشيخ محمد الغزالي، والشيخ محمد الطيب

النجار، فأعرضت الجماعة تماماً عن ذلك، ولم تحاول الالتقاء أو تحقيق نوع من

التوازن، ليأتي إعلان التوبة والمراجعات بعد ذلك بـ ١٢ عاماً على يد أحد

الصحفيين العلمانيين!

- من السمات البارزة في هذه الحقبة التاريخية (راجع الفقرة المماثلة في

الدورة الأولى) : كان التعدد هو طبيعة المرحلة - ظهر جيل من القادة الذين ربما

يحظون بشعبية داخل فصيلهم، لكن لم تبرز قيادة آسرة، أو تجمع بين جماهيرية

الداخل والخارج، مع وجود وفرة في القيادات البديلة كانت البداية عشوائية غير

منتظمة، فأثمرت واقعاً مضطرباً متقلباً متناقضاً مع بداية الانتشار لم يكن رد الفعل

غافلاً أو مهملاً، بل كان هناك توظيف للصحوة بغرض تحقيق توازن مع القوى

القومية، ثم لما بدر الخطر؛ كان رد الفعل التضييق والحصار والتصفية الجزئية

مع العجز عن تصفية الوجود الإسلامي تماماً.

* الفرصة السانحة: ملامح - معالم - محاذير:

خرجت الحركات الإسلامية من مرحلتها التاريخية الثانية تلملم أطرافها،

وتجمع شتاتها، وقد بدا للكثيرين أن حجم الخسائر قد فاق المتوقع، وأن التنازل

ينبغي أن يكون شعار المرحلة المقبلة، وحقيقة الأمر أن هذا التصور هو أول

قصور فكري يمكن أن تواجه به الحركة الإسلامية حقبتها الجديدة، وكأن المبالغة قد

أصبحت وصفاً لازماً لكثير من الإسلاميين، ففي مطلع السبعينيات بالغوا في تقدير

قوتهم فأخطؤوا، والآن يبالغون في تقدير ضعفهم، فيخطؤون من وجه آخر.

والذي ينبغي أن يترسخ في العقل الجمعي للإسلاميين أنهم الآن يمرون

بمرحلة قوة لا ضعف، مرحلة استقبال التنازلات وليس تقديمها، وأن الأيام المقبلة

تحمل في طياتها ملامح فرصة سانحة للإسلاميين لمعاودة الانطلاق من جديد وفق

معالم وضوابط ورؤى مغايرة، وأن السنوات المقبلة يمكن أن تشهد عصراً ذهبياً

للعمل الإسلامي لو جمع الإسلاميون بين حكمة التاريخ، وحنكة الحاضر، وبصيرة

المستقبل.

* ملامح الفرصة السانحة:

عندما نقول إنه لدى الإسلاميين فرصة سانحة كبرى لامتلاك ناصية التأثير

في بلدانهم وتحقيق خطوات متقدمة على طريق التمكين؛ فنحن لا نقول ذلك جزافاً

أو من أجل الاستهلاك العاطفي، فهناك من الدلائل والمؤشرات ما يدعم ذلك، وفي

هذا السياق نُذكِّر بما جاء في المقال السابق أن إحدى مشكلات الحركات الإسلامية

أن نياتها وأهدافها في اتجاه، وأغلب ما حققته من إنجازات ومنافع للدعوة والدين

كان في اتجاه آخر، وبعبارة أخرى نقول إنها جهدت لكي تهدم الجدار، فكان مجمل

سعيها يصب في اتجاه إقامته لا هدمه - راجع المقال السابق في مجلة البيان عدد

١٩٦ -.

وللتوضيح أكثر نقول: إن الحركات الإسلامية في الأعوام الثلاثين الأخيرة

نوت فجراً وصلّت عشاء، فلما لم تعاين الإسفار ضاقت عليها الأرض بما رحبت،

وظن أتباعها أنه قد أحيط بهم ولما يحدث شيء من ذلك.

والنتيجة الإيجابية لهذه المفارقة لا تعني ترسيخ أو تأييد استمرار مثل هذا

التفاوت بين المستهدف والمتحقق، فهذا الجانب الإيجابي لطف من الله بعباده،

وتبقى مسؤولية الحركات الإسلامية قائمة قبل وبعد.

ونستعرض بعض المؤشرات التي تدعم القول بوجود فرصة سانحة للعمل

الإسلامي في الفترة المقبلة:

أولاً: على مدى أكثر من سبعة عقود، هل بقيت هناك وسيلة لم تُجرّب

لحصار أو وأد أو تصفية الحركات الإسلامية في الدول العربية العلمانية؟ وماذا

كانت النتيجة؟

لم ينجح أعداء العمل الإسلامي بمحض فعلهم في محو اسم حركة إسلامية

واحدة من الوجود، وتظل الحقيقة ناصعة يعترف بها العدو قبل الصديق: لا يمكن

بحال أن يتم تصفية حركة إسلامية ذات كيان جماعي، قد يُضيق عليها حيناً، وقد

يختفي نشاطها حيناً آخر، ولكنها لا تختفي للأبد، قد تحدث تغييرات في المنهج،

وقد تعدل بعض الثوابت، وقد تحدث بعض الانشقاقات، ولكن تبقى حقيقة البقاء لا

لبس فيها، وأقرب مثال ما نراه في العراق، ففور أن سقط نظام صدَّام البعثي الذي

قهر الإسلاميين عقوداً؛ برز وجود مكثف للتيارات الإسلامية بشتى صنوفها وكأنها

كانت تُعِدُّ لهذا اليوم طيلة سنوات، وقد لا نضيف جديداً إذا قلنا إن الأطراف

المحاربة للعمل الإسلامي تعاني حالياً حالة من الارتباك في تحديد الوسائل الناجعة

لخنق الدعوة الإسلامية.

وها هنا وقفة لا بد منها لفهم لفتة ربانية في هذه الحقيقة يغفل عنها كثيرون،

ونسترشد في وقفتنا هذه بحادثة غلام الأخدود التي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم

ليُعَلِّم أصحابه أن الابتلاء الذي يمكن أن تتعرض له الدعوة في طريقها أمر لازم

لنموها، لن تنمو وتزدهر بدونه، وهذا الابتلاء لن يتم إلا بأيدي أعداء الدعوة في

سياق سعيهم للقضاء عليها، ومعنى ذلك أن محاولات الأعداء لتصفية الدعوة هي

بالمصطلح الإسلامي محاولات إنعاش لها، وذلك بنقلها من مرحلة إلى أخرى تالية

في مسيرتها، وهذا ما لا يمكن أن يفهمه أعداؤها لأن الإقرار بفهمه لا يعني إلا

الانتظام في سلك الإيمان بهذه الدعوة.

فهذه الدعوة ربانية قدَّر الله عز وجل أن محاولات هدمها تنزلق على جانبيها

لتستحيل دعامات لها، ولذلك كان الحاكم في قصة الأخدود كلما بذل جهده حسب

رؤيته في قتل الدعوة أو الغلام؛ ازداد الغلام رسوخاً، وازداد الناس به تعلقاً، ولما

أعيته الحيل لم يكن بد من استشارة الغلام في كيفية قتله، ولم يكن بد من اتباع

الطريقة الربانية للقضاء على الدعاة ممثلين في الغلام، وهي بإنهاء مهمتهم الرئيسية

عندما يدخل الناس أجمعين في دين الله عز وجل، ومن ثَمَّ لم تعد هناك حاجة إلى

وجودهم أو حياته، والذي ينبغي أن نستفيده من هذه القصة الموحية أن كل عامل

للإسلام ينبغي أن يرفع شعار الغلام في وجه أعدائه: «إنك لست بقاتلي حتى تفعل

ما آمرك به» [١] . ولن يفعل العدو ولن يموت الغلام بإذن الله.

ثانياً: مناسبة الحال:

تمر الأمة الإسلامية بمختلف فئاتها وطبقاتها بحالة متردية من التيه وفقدان

الثقة، ولَّدت بدروها شعوراً عاماً بالسخط وعدم الرضا، وهو شعور يتزايد يوماً

في إثر يوم مهدداً بالانفجار، وبات الناس يتلمسون المخرج، ويبحثون عن أي

زعامة أو قيادة جماهيرية تقدم لهم العون.

وقد تسببت الحرب الأمريكية على الإسلام بدعوى الإرهاب في زيادة السخط،

وتبلور مفهومات الولاء والبراء بصورة لم تكن موجودة منذ عقود، وهذا المناخ

النفسي يوفر بيئة مثالية للعمل الدعوي، فليس هناك أفكار أو رموز أو أحزاب أو

مذاهب منافسة تفتن الناس عن الاستجابة للدعوة إلى الله، وهذه فرصة ذهبية لا

تتوفر إلا كل عدة عقود، وتفتقر إلى من يحسن استغلالها قبل أن يُبتلى المسلمون

بما يفتنهم ويلبس عليهم أمر دينهم لسنوات قادمة.

ثالثاً: على الصعيد الداخلي للحركات الإسلامية يمكن أن نلحظ عدة مؤشرات

مهمة تهيئ الظرف أكثر لانطلاقة إسلامية قوية، وأبرزها:

- تراجع حدة التعصب والاحتكاكات التعصبية بين الجماعات المتنافسة،

وظهور نماذج طيبة للتنسيق والتعاون وتوحيد المواقف.

- عدد متزايد من صفوف الجماعات بات يشعر بالملل من حالة الجمود

الفكري والمنهجي المرافقة للعمل الإسلامي منذ فترة، وكثير منهم يتوق للتغيير،

ويتلهف بحثاً عن فكرة جديدة أو رؤية متجددة.

- في ظل شعور كثير من الإسلاميين بفقدان الثقة في شمولية وكمال المنهج

الذي يتبناه فصيل كل منهم؛ تصبح الأجواء مهيأة لتقبل أي طرح جديد بعقول أكثر

انفتاحاً، وهذه حالة نادرة الحدوث كسابقتها لا تتكرر إلا كل عدة عقود من الزمان.

- تنامي ظاهرة المستقلين في العمل الإسلامي، وأغلبهم كانت لهم انتماءات

سابقة، إلا أنهم تخلوا عنها لانتقادات أو اعتراضات.

رابعاً: عند مقارنة معطيات البدء في كل من الدورتين التاريخيتين للعمل

الإسلامي في الأعوام السبعين الماضية بمثيلتها على أعتاب الدورة الثالثة،

نكتشف بسهولة أن الدورة الأخيرة تتمتع بحظوظ وافرة عن سابقتيها:

فللمرة الأولى في تاريخ العمل الإسلامي تبدأ المرحلة والكيانات الدعوية

موجودة بكامل هيئتها وصفوفها، وإمكاناتها الدعوية والتربوية لا تزال باقية إلى حد

كبير، والعشوائية والفوضى التي حدثت في منتصف السبعينيات تتراجع احتمالاتها

الآن بدرجة كبيرة، وأهم من ذلك كله أن خوف الزوال والتصفية قد زال إلى غير

رجعة، ولم يعد مطلق البقاء همّاً وحيداً تتمحور عليه جهود الحركة.

* معالم على الطريق:

في بداية مرحلة جديدة من عمر الحركات الإسلامية يبدو الأمل وافراً في

تحقيق إنجازات أعظم وأعمق أثراً في المجتمعات المسلمة، وذلك على الرغم من

الصورة القاتمة الغالبة لدى كثيرين، ولكن العمل الإسلامي يلزمه ليقتنص الفرصة

السانحة بين يديه أن يسترشد بمعالم تُنير له الطريق، يستقيها من خلاصة تجربة

عريقة امتدت لأكثر من سبعين عاماً، وهذه المعالم، والتي سيرد الحديث عن أهمها

لاحقاً، هي رؤية اجتهادية قد يتفق أو يختلف معها كثيرون، وقد تكون - كلها أو

بعضها - صواباً أو خطأ، ونسأل الله عز وجل أن يرينا الحق حقاً ويرزقنا اتباعه،

ويرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.

أولاً: التعدد هو سمت المرحلة المقبلة:

فلا يحتاج العمل الإسلامي في انطلاقته المشرفة تلك إلى توحّد في الكيانات،

بل يبقى الوضع على ما هو عليه، مع ترسيخ مفهومات التعاون على البر والتقوى،

ونبذ الخلاف والتعصب، وقد مرّ في المقال السابق عن فقه التعدد ما يُغني عن

إعادة طرحه من جديد.

ثانياً: الدور الرئيس للحركات الإسلامية في المرحلة المقبلة ينبغي أن يكون

الإعانة وليس الإقامة للدولة الإسلامية المنشودة:

التمهيد وليس التشييد، والهدف الرئيس ينبغي أن يكون النشر والانتشار،

نشر الدعوة وانتشار الدعاة في كل مكان وإلى كل إنسان، وبذلك فإن تركيبة

الجماعات الإسلامية بوضعها الحالي هي تركيبة مناسبة لكن مؤقتة لها مهمة محددة،

عندما تُوفَّق في إنجازها ينتفي الغرض من وجودها، ويصبح لزاماً علينا البحث

عن صيغة أخرى مناسبة لاحتواء طاقة العمل الإسلامي تتناسب مع الظرف الجديد،

والذي ربما لن يكون التعدد بصورته الحالية مناسباً له، والحق أن أغلب ما سيرد

من معالم في هذا المقال يعتبر تطبيقاً نظرياً لهذا المفهوم.

ثالثاً: التوجيه الاستراتيجي للعمل الإسلامي في هذه المرحلة يمكن بلورته

في ثلاث نقاط:

١ - الاستقصاء في نشر الدعوة والدعاة؛ على أن يُترجم ذلك إلى حصيلة

عددية متزايدة للموالين أو المؤيدين والمتعاطفين.

٢ - حشد ما يتبعثر من طاقة العمل الإسلامي على نسق واحد.

٣ - عرقلة الزحف العلماني.

رابعاً: التغيير عن بعد:

هناك قاعدة ذهبية تقول إن: ما لا تبلغه الحركة رغم العسر تبلغه الدعوة

بيسر: والمعنى المقصود أن الحركة بكيانها وتنظيمها قد تعجز عن تجاوز خطوط

حمراء كثيرة في طريقها من أجل الوصول إلى أهدافها الدعوية، في حين أن

الدعوة غير المقيدة تستطيع ذلك بيسر وسهولة، والتطبيق العملي لهذه القاعدة يعيدنا

إلى الحديث عن الانتماء في العمل الإسلامي، والذي أصبح يمثل عائقاً في ظل

حرص كثير من الجماعات على توزيع صكوك عضويتها على كل من يرتبطون بها،

وخلاصة تجربة السنوات الأخيرة أن الدعاة الجماهيريين غير المنتمين كانوا أقدر

على الوصول إلى الناس والتأثير فيهم من أقرانهم المنتمين، وهذا التأويل لا يعني

رفض الانتماء، بل رفض أن يتحول من وسيلة إلى غاية، وبدلاً من أن يسهل

القيام بالدعوة يصبح معوقاً لها.

وطيلة العقود الأخيرة كانت الحركات الإسلامية تحرص على أن تُظهر

بصماتها على كل عمل تنفذه أو تشارك فيه، ولكن مع الوقت تحولت هذه الرغبة

الطبيعية إلى منطلق أساسي في تحديد أولويات وجداول الأعمال؛ بمعنى أن العمل

الذي لا تستطيع الحركة أن تضع بصمتها عليه أو تنسبه إلى نفسها يكون حظه

التأجيل أو الإلغاء، وفي المرحلة المقبلة لن يصبح ذلك النهج ملائماً، بل يجب أن

تتعلم الحركات الإسلامية إتقان «فن التغيير عن بعد» ؛ دون الحاجة إلى تحمل

أعباء وتكاليف الممارسة المباشرة التفصيلية، وأكثر من ذلك؛ قد يصبح إخفاء نسبة

العمل إلى جماعة معينة هو الأولى لإتمامه ونجاحه.

خامساً: أحد التطبيقات النظرية المهمة للمفهوم السابق هو اعتماد أسلوب

العينة النموذجية في التغيير:

وهذا التطبيق يخص في الأساس الحركات المشاركة في العمل السياسي وما

أكثرها في البلدان العربية، والمعنى المقصود أن يُستعاض عن مسلك المشاركة

الموسعة لتحقيق السيطرة الشاملة بمسلك آخر، وهو الاقتصار على المشاركة

الجزئية في المجالس النيابية أو النقابات أو الهيئات أو اتحادات الطلاب وفق معادلة

توازن تحفظ للحركة المشاركة دون أن تتحفز أو تُستفز الأنظمة لاستئصالها أو

إبعادها، والدافع لتفضيل هذا المسلك خلاصة التجربة التاريخية التي تعلمنا أن

المشاركة الشاملة تستفز قطاعات كثيرة معارضة للعمل الإسلامي داخل المجتمع

المسلم، فالأنظمة عندما تشعر بالخطر تبادر بالمواجهة، وفئات أخرى تكيل

الاتهامات للإسلاميين بحب السيطرة والسعي للسلطة، وتكون المحصلة في النهاية

لا شيء وتعود الحركة إلى نقطة الصفر مرة أخرى، ولم تحقق حركة إسلامية في

العالم العربي النتيجة التي أحرزتها جبهة الإنقاذ الجزائرية في الانتخابات النيابية

مطلع التسعينيات، وكانت هذه النتيجة هي السبب المباشر فيما حدث لها من بعد.

لكن هذه المشاركة الجزئية ينبغي أن تصدر من الحركة وفق منهج اختياري

معلن وليس إجبارياً من الأنظمة، وذلك لكي تحقق تأثيرها المنشود، فينبغي أن

نفرق بين المشاركة الجزئية التي أجبرت عليها الحركة بتأثير الضغوط القوية،

وبين تلك التي تتخذها بمحض إرادتها.

ومن فوائد هذا النهج أنه يتيح للحركة الإسلامية أن تقدم نموذجاً مثالياً مقارناً،

سيتحول مع الوقت إلى معيار لتقويم الأداء في مجاله، وإلى قدوة تجبر حتى

المخالفين على تقليد بعض سماته، وهذا النتاج التغييري هو المبتغى الرئيس للعمل

الإسلامي، وكمثال، لعلنا نلاحظ أن الوجود الإسلامي في العمل السياسي أجبر

الكثيرين بالفعل على تقليد الشعارات الإسلامية في حملاتهم الانتخابية لما رأوا تأثر

الناخبين بها.

فائدة أخرى لهذا المفهوم، وهي أنه كثيراً ما يكون الاحتفاظ بالقوة دون

استخدامها أكثر تأثيراً من استخدامها بالفعل، يعني كما يقول عامة الناس إن

«ترقب البلاء قد يكون أصعب من البلاء نفسه» ، وهذا بالنسبة لجبهة

المعارضين للعمل الإسلامي، وليس من الحكمة أن تستخدم الحركات الإسلامية

دوماً قوتها السياسية أو الدينية أو الاجتماعية وفق حدها الأقصى.

سادساً: الفصل بين العمل السياسي والدعوي في هذه المرحلة يبدو خياراً

مفضلاً، وقد يُشْكِل ذلك على كثيرين، ولكن ذكر بعض مسوغاته قد يزيل بعض

الإشكال:

١ - الارتباط بين العمل السياسي والدعوي لا شك في أنه ارتباط لمصلحة

الجانب السياسي، وأي فائدة يجنيها النشاط الدعوي من ذلك لا يعد الارتباط شرطاً

لحصوله عليها، وبالتالي فإن مَغْرَم السياسة يلزم الدعوة بينما مَغْنَمها لا تفتقر إليه.

٢ - العمل السياسي يمكن اعتباره بمثابة «تلابيب» الحركات الإسلامية

السياسية، أو كما يقال «خُنَّاق» ، ونقصد أن أعداء هذه الحركات في سعيهم

لتصفيتها أو اختراقها أو توجيهها؛ لن يستطيعوا إمساكها أو الضغط عليها إلا من

خلال النشاط السياسي؛ لأن النشاط الدعوي واسع المجال متعدد الأساليب مقارنة به،

وهذا يعني أن العمل السياسي مدخل لاختراق العمل الدعوي، ويعني أيضاً أن

دعوةً لا «تلابيب» لها أقدر على مواجهة الضغوط.

٣ - عندما تكون ممارسة العمل السياسي هي وسيلة التغيير الرئيسة لدى

جماعة ما؛ فإن ذلك يعني أنه بقصد أو بدون قصد سوف تنتظم أنشطتها في جميع

المجالات وتتساوق لخدمة هذا الخيار وتدعيمه، ومع تتابع التضييق والحصار

والمنع من ممارسة هذا العمل في كثير من البلدان العربية العلمانية؛ فإن ذلك

ينعكس على القاعدة الدعوية للحركة بالاختناق والارتباك.

٤ - هذا الفصل بين النشاطين يُخلِّص الحركات السياسية من كثير من

التناقضات بين الأدبيات والأداء العملي والخطاب المعلن، والتي تحمل عبئها بسبب

طبيعة الممارسات السياسية، خاصة أنه مع الطفرة الإعلامية المتمثلة في الإنترنت

والفضائيات؛ أصبح التعرض المحرج لهذه التناقضات والتركيز عليها من قبل

الإعلام العلماني أمراً شبه يومي.

سابعاً: من معالم الفكر الاستباقي الذي يجدر بالانطلاقة الإسلامية الجديدة

أن تتبناه؛ أن تؤسس لعمل مهم يفترض أن يؤتي ثمرته الكاملة في نهاية المرحلة

المقبلة:

وذلك العمل هو: التمهيد لتحقيق وحدة في العمل الإسلامي بين الحركات

الإسلامية، ولئن قلنا بأن الوضعية الأنسب للمرحلة المقبلة وضعية التعدد؛ فإن ذلك

لا يمنع أن التوحد سيكون هدفاً رئيساً فيما يلي ذلك من مراحل تمر بها الدعوة

الإسلامية، ولا يليق أن ننتظر حتى تحين هذه اللحظة لنطالب الحركات الإسلامية

بذلك، بل ينبغي أن يتضمن منهج العمل خطوات تمهيدية لهذا الهدف، ومن هذه

الخطوات: طرح أعمال مشتركة بين الجماعات يكون النجاح احتمال غالب عليها،

الترويج لثقافة الاندماج والتوحد من خلال كل الوسائل الإعلامية المتاحة للحركة،

زيادة مساحة التنسيق بين الحركات بصورة تدريجية.. إلخ.

* محاذير على طريق الانطلاقة الإسلامية:

مرَّ بنا عند الحديث عن الخبرات المستقاة من الدورتين التاريخيتين للعمل

الإسلامي؛ أنه لدى نشأة الحركة الإسلامية في دورتها الأولى كان رد فعل أعدائها

الغفلة والإهمال لوجودها، ثم في الدورة الثانية تعلموا أكثر فكان رد الفعل تجاه نشأة

الصحوة الإسلامية هو السعي إلى توظيفها من أجل تهميش تيارات القومية

والناصرية، أما الدورة الثالثة فالوضع أخطر كثيراً، فالأعداء ينتظرونها، ولا

نبالغ إذا قلنا إنهم يعملون بطريقتهم لتحقيق انطلاقة إسلامية مستأنسة مشوهة الشكل

فارغة المضمون، وذلك على ضوء القناعات التي تكونت لديهم من التجربة

التاريخية باستحالة القضاء على العمل الإسلامي.

ويمكن رصد عدد من المعالم التي تميز هذا المسار المشبوه الذي يراد

للحركات الإسلامية أن تسلكه:

أولاً: التيار السلفي بات في وجه المدفع، والأمريكيون أنفسهم يرونه منبع

الخطر الذي يجب تجفيفه بشتى الوسائل، ولم يعد ذلك التيار يمثل بالنسبة لهم

عنصر أمان داخل الحركات الإسلامية، وبات النموذج الأكثر قبولاً في المستقبل،

ذلك الذي يحشر الحركات الإسلامية أجمعها في مربع سلمي تنويري، كما يتبين من

الشكل الآتي.

ثانياً: تعريض تيارات العمل الإسلامي بصورة مستمرة لأنواع من الضغوط

تجعلها تقلص من ميادين أنشطتها؛ مخلفة وراءها ساحات شاسعة خالية من العمل

الإسلامي؛ بحيث يتم على الفور ترميم هذه الفراغات قانونياً أو نظامياً لمنع عودة

النشاط السابق إليها، وهذا يحتم على الإسلاميين أن يراجعوا أنفسهم قبل تحجيم أي

نشاط دعوي قائم.

ثالثاً: المعلم الأخطر هنا أن يتم صياغة فكر إسلامي جديد للحركات الإسلامية

في أروقة المخابرات ودهاليز مراكز الدراسات الغربية، يصبح أشبه بمقرر دراسي

لا يسوغ لها العدول عنه، وهذا الفكر يتكون من مجموعة من الثوابت بلا متغيرات،

ويتم تدشين هذا الفكر إسلامياً عن طريق دفع بعض الحركات إلى تبنيه لظروف

خاصة بها، ومن ثم يصبح صالحاً للاستهلاك الإسلامي، ويتحول إلى دستور

لمحاسبة أو محاكمة الحركات الإسلامية وفق مبادئه، وبذلك يكون أعداء الدعوة

يخططون لتوحيد الفكر الإسلامي لكن على طريقتهم، ولعله بذلك تتضح بعض

أسباب القول بأن التعدد هو فرض الوقت للعمل الإسلامي.

رابعاً: هناك سيناريو لا يقل خطراً عن السابق، تلوح بوادره من أطراف

عديدة إسلامية وغير إسلامية، هذا السيناريو يعتمد على تفعيل النموذج التركي في

أكثر من بلد عربي، ويلزم لتنفيذه ثلاثة أطراف؛ أحدها يمثل قطاع من الإسلاميين،

والثاني النظام الرسمي، والطرف الثالث أمريكي. ويتطلب التوافق بين الثلاثة

أن يقدم كل منهم تنازلاً ليحصل على بعض المكاسب، فالإسلاميون يقدمون تنازلاً

بالموافقة على تصعيد السمت العلماني للدولة ليشمل جميع المجالات بما فيها

الدستور، وفي المقابل يحصلون على حرية أكبر في ممارسة العمل السياسي،

وربما يؤسسون حزباً لو كان ذلك محظوراً عليهم من قبل، والنظام يقدم تنازلاً

بالموافقة على منح الحرية السياسية للإسلاميين، ويحصل على مكسب علمانية

الدولة، والأمريكيون يقدمون تنازلاً بالسماح للإسلاميين بحرية العمل السياسي،

ويحققون في المقابل النموذج التركي الآمن حسب تفكيرهم، وأيضاً الدعاية

بنجاحهم في تفعيل الديمقراطية في بعض دول الشرق الأوسط.

وحجة الإسلاميين الذين يؤيدون هذا السيناريو ولا يزالون قلة أنَّ تحقُّق

علمانية الدولة بصورة كاملة يعتبر مسألة وقت، ولن تجدي جهود الحركات

الإسلامية نفعاً في وقفها، ومن ثَمَّ لا بأس بحصاد بعض المكاسب لقاء ضرر واقع

لا محالة، وهو منطق خطر لا شك، ويحمل في طياته بوادر لانحرافات طويلة

الأجل.

لا جدال في أن الأمر يحتاج إلى تفصيل أكثر مما ذُكر، فالقضية شائكة،

وتعقيداتها كثيرة، وشواهدها لا حصر لها، ولكن المقام لا يسمح بأكثر من ذلك،

ولعل الله ييسر طرح القضية تفصيلاً في إصدار خاص مستقل في المستقبل القريب،

وحسبنا أن نضع نصب أعيننا تجارب الماضي سلباً وإيجاباً، ونسعى جادين إلى

فهم أكثر لواقعنا، ثم نخطو بقوة نحو المستقبل لتحقيق الانطلاقة الإسلامية المنشودة،

مع اليقين بأن الحركات الإسلامية تقدم التضحيات، وتدفع الثمن حتى مع تقديم

التنازلات، وبدرجة كثيراً ما تكون أكبر منها لو آثروا خيار الثبات والصبر،

[وَإِن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً] (آل عمران: ١٢٠) ، والله عز

وجل قادر على إنفاذ جهدنا وتحقيق غايتنا، فقط: [إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ

وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ] (محمد: ٧) .


(١) أخرجه مسلم، رقم ٥٣٢٧.