الحوار الإسلامي بين الدواعي والمعوقات (٢ ـ ٢)
إعداد: محمد بن شاكر الشريف ـ خباب بن مروان الحمد
في العدد الماضي طاف بنا المحاورون على رؤى مختلفة أو متفقة أو متفردة أحياناً فيما يخص الحوار الإسلامي الذي لم يُعطَ من الأهمية ما يستحق بل ما يجب، وقد كانت المحاور تدور في مسائل هامة هي:
جدوى البحث عن التقارب وأهمية التقارب الفكري والمنهجي ودور الحوار في تفعيل ذلك، والقواسم المشتركة، وخطة العمل من أجل التقارب، وضوابط التقارب والتعاون، ومنهج السلف الصالح ودوره في الحوار والتقارب الفكري والمنهجي. وفي هذا العدد تتمة للمحاور التي جال فيها المحاورن الأفاضل. ـ البيان ـ
- معوقات التقارب والتعاون:
البيان: رغم ما تبين من الحديث عن التقارب بين العاملين للإسلام أفراداً وحركات وأهميته واقتناع الكثيرين بضرورة السعي لتحقيقه وبذل الجهد في سبيل ذلك وعدم اليأس والصبر على صعوبة الطريق، إضافة إلى الحماس الذي يبديه الكثيرون لهذه المسألة؛ إلا أن الرياح لا تجري دائماً بما تشتهي السفن؛ فهناك الكثير من المعوقات التي تقف في سبيل تحقيق دعوة التقارب وهي في حاجة إلى إماطة اللثام عنها مع اقتراح آليات للتغلب عليها أو الحد من تأثيرها.
- المشاركون:
يرى الدكتور كسال عبد السلام أن المعوقات التي تعترض عملية التقارب تصنف إلى معوقات فكرية ونفسية وبيئية. أما المعوقات الفكرية فهي تختص بطريقة التلقي والتعلُّم من خلال المدارس أكثر من اختصاصها بالفوارق في القدرات الفكرية، تلك المدارس التي توجه إلى التعصب نحو فكر، أو قراءة تلغي غيرها، وكذلك التعلم الذاتي بغياب المعلم الذي قد ينتج عنه توجه يكون إلى الخطأ أقرب منه إلى الصواب؛ ولذلك فإن مراجعة سياسة التعليم والتلقين تظل مسألة أساسية وخطوة لا بد منها في طريق التقريب والوحدة. وأما المعوقات النفسية فإنها تعود إلى الأنانية الفردية والجماعية وحب السيادة والسلطة والزعامة والغرور، وهذه يمكن معالجتها عن طريق تبديل الأجواء النفسية والاحتكاك والتحرك والانتقال لاستيعاب الجديد والخروج من الفضاءات الاجتماعية والتعليمية الضيقة إلى فضاءات أوسع. وأما المعوقات البيئية فكالاختلافات الجغرافية والاختلافات التنظيمية، والاختلافات الذاتية كاختلاف القدرة والاستطاعة البدنية والفكرية والتي لا يمكن أن يوجد في ظلها اتفاق في مسار تختلف فيه الهموم والقضايا، وهذه يمكن معالجتها باعتماد أكبر قدر من الاستثناءات والاقتصار في مجال توحيد القراءة على الأساسي من الثوابت في أمور العقيدة والدين والحياة.
ويرى الدكتور عبد الرزاق مقري أن من أهم العوائق الاختلافات الفكرية التي لا تعالج إلا بالعلم أولاً، ثم بالتجربة ثانياً، ثم بإرادة الحوار والاطلاع على تجارب الآخرين. ومن العوائق الأساسية اتباع الهوى وإرادة المحافظة على المصالح كالزعامة والمنافع المادية والمعنوية الفردية والجماعية.
ومن العوائق أيضاً قلة المهارة في إنجاز المشاريع المشتركة، ويرى الأستاذ خالد حسن أن التقارب ما عاد همّاً يشغل حيزاً كبيراً في العقول ولا في الخطاب ولا في الحراك، وصار الكل يتطلع إلى الهيمنة وتوسيع الرقعة وفرض الوصاية مما شكل عائقاً في حصول التقارب.
ويعدد الدكتور عمر الأشقر المعوقات فيذكر منها تعميق الخلاف وتأصيله بهدف أن تتميز جماعته ويكون فيها رئيساً أو قائداً، وطبع أتباع هذه الجماعات أنفسهم بطابع الأفضلية التي تؤول بهم إلى العصبية حتى لا يروا على الحق غيرهم، ثم الفهوم القاصرة والتصورات الخاطئة التي قرت في العقول وظن أصحابها أنها من الحق الأصيل، وتصور بعض المسلمين أن هذه الجماعات العاملة للإسلام فرق مبتدعة مثلها مثل الخوارج والشيعة.
ولا يخرج الدكتور محمد العبدة فيما ذكره عما تقدم إيراده من المعوقات الداخلية. وكذلك الدكتور منير محمد الغضبان.
ويوسع الدكتور عثمان جمعة ضميرية مجال العوائق؛ فلم تعد عنده هي العوائق الداخلية فقط، بل انضم إليها عوائق من خارج الحدود؛ ففي المجال الداخلي يرصد العجلة وعدم التأني والصبر، وكذلك حظوظ النفس والتأثر بالهوى والريبة والشك في الآخرين، وأما الخارجية فيرصد منها الكيد الذي يُبذل لتكريس فرقة المسلمين، وبذر بذور الفتنة وزرعها، والعمل على تمزيق وحدة الأمة ووحدة العاملين. وللتغلب على ذلك يدعو إلى بذل جهد أكبر بعد الاعتماد على الله ـ تعالى ـ وصدق النية وسلامة الطريق والوعي الكامل بما يجري.
ويتخذ الشيخ أحمد فريد المنحى نفسه؛ حيث يرى أن المعوقات بعضها من داخل الصف المسلم وبعضها يأتي من خارج الصف المسلم، ويرصد في المعوقات الداخلية اعتناء بعض الحركات ببعض الشرائع في مقابل إهمال أو نسيان شرائع أخرى مما يهيج العداوة والبغضاء بينهم لاعتقاد كل حركة بتقصير الحركة الأخرى وهو مصداق لقوله ـ تعالى ـ: {فَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} [المائدة: ١٤] ، ويمكن معالجة هذا عن طريق إعادة الصياغة واهتمام كل الجماعات بالإسلام كله. وكذلك اغترار بعض الجماعات بعددها وقوتها، وأيضاً حب الظهور، واحتكار بعض الجماعات لاسم السلفية ونظرتهم إلى بقية الجماعات على أنهم فرق نارية. وأما المعوقات الخارجية فتربُّص العلمانيين والمنافقين بالجماعات الإسلامية والتشهير بهم وإغراء الحكومات وتهييج الأنظمة عليهم.
ويبين الشيخ كمال الخطيب أن ضغوطات الأنظمة الحاكمة والجهات الرسمية تجعل عدداً من المدارس والحركات الإسلامية تفضل العمل المستقل بديلاً عن التقارب مع بقية الفصائل، بل إنها تسعى لدفع هذه التهمة عن نفسها. ثم إن هناك من الجماعات من يخشى من خطر الاحتواء من الآخرين أو التأثر بهم، فيفضل الاستقلال على التقارب والالتقاء مع الآخرين، وهذا كله من المعوقات التي تقف حجر عثرة في طريق التقارب.
وللدكتور خالد الخالدي إسهام مطول في ذلك، فيذكر من المعوقات الداخلية التنافس وحب الظهور، قلة الوعي عند الكثيرين من أبناء الحركات الإسلامية، الخلافات الشخصية بين قادة الجماعات الإسلامية، تركيز بعض الجماعات على جوانب وإهمالها لجوانب أخرى، قلة الاهتمام بالجوانب السياسية المتعلقة بهموم المسلمين. وأما المعوقات الخارجية فيذكر منها خوف بعض الجماعات من اتهامها بالإرهاب أدى إلى ابتعادها عن قضايا الأمة الجوهرية، تلقي بعض الجماعات الدعم المادي من دول وحكومات يهمها إبعاد هذه الجماعات المرتبطة بها عن العمل السياسي والجهادي، قيام العدو بزرع العملاء بين الجماعات الإسلامية، ثم يعقب على ذلك بالخطوات المقترحة لمواجهة تلك العقبات، فيذكر منها: توحيد الخطاب الإعلامي الذي يستهدف أبناء الجماعات الإسلامية، التحذير المستمر من عواقب التباعد وأثر ذلك على ضعف الأمة، إبراز أسباب الهجمة على المسلمين وأن ذلك بسبب تمسكهم بعقيدتهم وإقامة حكم الله في الأرض، نشر وترويج المبادئ والمقالات والكتب والمحاضرات التي تدعو إلى التقارب وتحض عليه، توضيح مخاطر الحزبية وتربية الشباب المسلم على أن يكون ولاؤهم للإسلام قبل أن يكون للجماعة أو التنظيم، التذكير المستمر بخطورة وحرمة الغيبة، الاستشهاد بالتاريخ لبيان أن الوحدة كانت من عوامل الانتصار في المعارك الكبرى، التذكير بواقع الأمة السيئ وأنه نتاج التباعد والفرقة.
ولا يخرج كلام كل من الدكتور همام سعيد والشيخ تيسير عمران فيما ذكراه عما تقدم إيراده من المعوقات الداخلية والخارجية وكيفية معالجتها.
أما الأستاذ جمال سلطان فيضيف مسألة في غاية الأهمية والخطورة في المعوقات الخارجية؛ حيث يبين ما تقوم به القوى الدولية الكارهة للإسلام من محاولة صناعة فكر إسلامي أو منهج إسلامي مِستأنَس أو مدجَّن؛ بحيث ينفصل عن واقع الأمة وأصول الدين ويتماشى مع القوى الدولية التي تكيد للإسلام أهله.
ويضيف الشيخ حامد البتاوي إلى المعوقات الخارجية عدم سماح كثير من الأنظمة لأبناء الحركات الإسلامية بالالتقاء وتنظيم مؤتمراتهم من أجل التقارب.
- تنوع البيئات وتعدد الثقافات والخصوصيات المحلية، وأثر ذلك على دعوة التقارب:
البيان: الحركة الإسلامية ليست محصورة في شارع أو حي أو مدينة أو دولة، بل تمتد على طول العالم الإسلامي وعرضه وهو ما يعني تباين البيئات واختلافها وتعدد الثقافات والخصوصيات، وهذه لها دور كبير في تربية الناس وتنشئتهم، وهو ما يلقي بظلاله وآثاره على دعوة التقارب، ويصبح من الأمور المهمة أن نعزل أو نقلل من أثر ذلك على خطة العمل للتقارب الفكري والمنهجي والحوار الإسلامي؛ فما رؤيتكم لهذه المسألة؟
- المشاركون:
يقر الشيخ عبد الله الغنيمان بأثر البيئة ويقول بإمكانية تقليل أثرها بأمرين: أحدهما: عقلي؛ وذلك ببيان أن ما يسعى إليه الإنسان للتخلص من البؤس والفقر والضيق والشدة كما أن الظفر بهناء العيش وسعادة البال لا يوجد إلا في طاعة الله وطاعة رسوله. والأمر الثاني: شرعي، وهو طاعة أوامر الله ورسوله التي تدعو إلى الاعتصام بحبل الله ـ تعالى ـ وتنهى عن التفرق والاختلاف، كقوله ـ تعالى ـ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا} [آل عمران: ١٠٣] .
ويرى الدكتور كسال عبد السلام أن تقليل أو عزل المؤثرات البيئية لا يتم عبر إهمال البيئة والثقافة، بل باعتبارهما؛ ولكن بترتيب القضايا وتثبيت الثابت منها. وأما ما اختصت به بيئة دون أخرى مع عدم مخالفته للثابت في شرع الله ـ تعالى ـ فلا مجال للخوض فيه، ولا مُشَاحَّة في قبوله، وأما ما لا يثبت فهو محل تصحيح، كما يمكن قبول الطرف الآخر بهيئته التي هو عليها شريطة ألا يضيِّق على الآخرين واسعاً.
ويذكر الدكتور عبد الرزاق مقري أن التطور الهائل في تدفق المعلومات والاتصال أوجد فرصة كبيرة وسهولة في التواصل مما يقلل من تأثير البيئة والثقافة المحلية.
ويوافق الدكتور عثمان جمعة ضميرية على أثر البيئة والثقافة المحلية؛ ولعزل تأثيرها على التقارب أو تقليله يذكر أنه لا بد من صبر ومصابرة ومتابعة وتجرد، وكذلك معرفة طبائع من نحاورهم، ولا بد أن يشعر الجميع بصدق النية وحسن التوجه؛ فإن هذا من أسباب القناعة والتعاون والاتفاق.
ويرى الشيخ أحمد فريد أن تقليل تأثير البيئات والثقافات يكون بنشر الوعي والفكر السليم والاتفاق على أصول لا يتعداها الجميع في العمل بالكتاب والسنة وما أجمعت عليه الأمة، وعدم إحداث ما يخالف ما كان عليه الصحابة.
ومع تفهم الدكتور محمد العبدة لأثر البيئة والثقافة لكنه ينبه إلى قضية خطيرة وهي الخوف من صبغ الإسلام بالصبغات المحلية، فيصبح لدينا إسلام مغربي وإسلام مشرقي وإسلام مصري وإسلام خليجي؛ والإسلام هو ما نزل على قلب محمد -صلى الله عليه وسلم -. فينبغي على الدعاة ألا يسمحوا للتقاليد والعادات أن تؤثر على صفاء العقيدة؛ وخصوصيات بعض البلدان لا تعني أن لا نتفاهم ونتفهم ما عند الآخرين.
ويوافق الشيخ تيسير عمران على أثر البيئة والثقافة الواضح على عقليات أبناء الحركة الإسلامية؛ لذلك يرى أن الحكمة تقتضي أن نحترم خصوصية كل بيئة قدر الإمكان ما لم تتعارض مع قطعيات الدين التي يتفق عليها الجميع، وينبغي في بداية الحوارات أن نُحَيِّد بعض القضايا ولو مؤقتاً إلى أن تصلب الأرضيات المشتركة.
ويرى الدكتور منير محمد الغضبان أننا في قضية أثر البيئة معذورون من جهة وملومون من جهة أخرى، أما العذر فلتراكم تباعد البيئات خلال القرون، ولزوال الخلافة الإسلامية، ولاحتلال الأقطار الإسلامية وما أوجد فيها من ثقافات تغريبية، وهذا يدفعنا إلى الاعتراف بخصوصية البيئات والثقافات المحلية، لكننا ملومون اليوم بعد تحوُّل العالم إلى قرية كونية تجعل عملية الخلافات هذه مذللة من خلال الاتصالات.
وينظر الأستاذ جمال سلطان إلى أن اختلاف البيئات يؤثر في أولويات العمل واختياراته؛ فبعض الأمور التي تكون ملحة في بلاد الخليج العربي قد لا تكون ملحة في تونس والجزائر وهكذا، لكنه يؤكد على قضية مهمة وهي أنه لا ينبغي أن نتعنت في البحث عن إذابة هذه الاختلافات في اعتبار الأولويات؛ لأنها فرز طبيعي لا بد من احترامه، والعمل وفق معطياته.
- ألفاظ جذابة فما حقيقتها وما دورها في الحوار والتقارب؟
البيان: في الأيام القريبة المنصرمة بدأ يكثر تداول بعض الألفاظ وما زال، فكثر الحديث عن الآخر وعن الاعتراف به وتجاوز أحادية الفكرة، والتسامح الفكري والثقافي، وضرورة الانفتاح على ثقافات وأفكار وقناعات الآخرين إلى نهاية تلك المنظومة؛ فهل تمثل هذه المنظومة عاملاً من عوامل التقارب، أم أنها تعد معوقاً من معوقات التقارب لكنها صيغت بلفظ جذاب؟ والشيء نفسه يقال عن لفظ التجديد الذي تحول إلى مصطلح يستبطن العديد من المصطلحات الأخرى كالعقلانية والتعددية والنسبية ذات المعاني والمضامين غير المحددة.
- المشاركون:
فيما يتعلق بالآخر:
يقول الدكتور عبد الرزاق مقري: لقد سلمنا في بداية هذا التحقيق بأن الاختلاف حتمية بشرية، فلنعش هذه الظاهرة في ظل تقوى الله، ونسيِّرها ضمن القواعد الشرعية التي تبدأ بالتسليم بأن المؤمنين مهما اختلفوا فهم إخوة في الله، ومهما اختلفوا فلا بد لهم أن يتعاونوا على البر والتقوى.
ويرى الدكتور كسال عبد السلام أن معرفة الخصوم من خلال نوافذ غير التي كان العاملون يحصرون أنفسهم فيها جعل الكثيرين يعيدون النظر لتبني فكر متوازن لا يجعل الناس جميعاً في كفة واحدة.
ويكشف الدكتور عثمان جمعة ضميرية اللثام عن هذه الدعوات ويقول: إن التباس المفاهيم والمصطلحات أو وضعها في غير موضعها من أهم عوامل الافتراق، وبعض هذه المصطلحات يمكن حملها على محمل صحيح وفيها ما هو خاطئ وغير صحيح؛ فمثلاً يصبح التسامح سبباً للتفلت من الأحكام والتنازل عن الثوابت، والتسامح الفكري والثقافي دعوة للردة أحياناً وقبول الكفر والدعوة للانفتاح طريقاً لضياع الشخصية المستقلة. وعلى كل فلم يكن الهدف فيما يبدو من تلك المصطلحات هو الدعوة إلى اللقاء والتعاون وإنما الالتفاف على بعض المفاهيم والتشويش عليها باستغلال تلك المصطلحات.
ويتوجس الشيخ سليمان أبو نارو من هذه المصطلحات شراً فيقول: إن أصحاب هذه الشعارات والمصطلحات لا أعلم أنهم تجمعهم منظومة فكرية واحدة؛ فهم خليط من شتات الفكر والرأي، ولا يجمعهم إلاّ موقفهم من الإسلام على نهجه الذى جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم - ورضيه الله ديناً قيماً لهذه الأمَّة الإسلامية؛ فهم يبحثون عن كل وسيلة يفرِّغون بها هذا الدين من مضمونه، ويحرِّفون أحكامه وشرائعه بهذه الأساليب الماكرة بعد أن عجزوا عن مواجهته مباشرة؛ فهم كاسحات ألغام يمهدون الطريق لمن هو مُعَدٌّ لإتمام المهمة، ويعقب على ذلك بقوله: وبالقطع ليس لهؤلاء مدخل في تحقيق (التقارب الفكري وإثراء الحوار) إلاَّ إذا كان المقصود أنَّ الإحساس بخطر هذا الضجيج على هذه الأمة وعلى حفظ دينها، سيدفع العاملين المخلصين للإسلام إلى سرعة الاجتماع والتعاون في سبيل دفع هذه الشرور المعلنة والخفية وسد الطريق أمام كل هذه الشراذم وحيلها ذات الوجوه المتعددة، وهذا ما ينبغي حصوله إن شاء الله تعالى.
وينبه الدكتور سفر الحوالي في هذا الخصوص إلى قضية مهمة بقوله: من أهم ما يجب اجتنابه في القضايا العقدية والفكرية؛ المصطلحات المحدثة أو العامة، وأحسب أن مصطلح (الآخر) منها فهو عام مجمل، وينبغي أن نحدد فنقول مثلاً: العدو الكافر أو الخارجي، ونقول أهل البدع أو أهل القبلة المخالفون، ثم نقول: أخيراً: المخالفون في الاجتهاد والرأي، وهكذا. ونحن لا نستحدث شيئاً جديداً؛ فالأمة عرفت التفرق، وعرفت الغزو الخارجي بأنواعه والأصول في التعامل مع ذلك مضبوطة، نعم! نحن نحتاج إلى مزيد من الاجتهاد والوعي وهذا يقتضي التحديد والدقة وليس التعميم.
ويرى الشيخ عبد الله الغنيمان أن استعمال هذا اللفظ في وقتنا المعاصر إنما هو خدعة من أجل استخدامه بدلاً من لفظ اليهودي أو النصراني أو الكافر، ويبين أن هذه انهزامية، وأنه لا يستقيم إيمان عبد إلا بتكفير اليهود والنصارى وسائر ملل الكفر، ثم يعقب على ذلك بقوله: والمقصود أن إهدار عقيدة الولاء والبراء ومحاولة تجميع الناس على أساس ما يزعمونه من التعايش السلمي إنما هي محاولة لإخراج المسلمين عن دينهم.
ويعلق الشيخ أحمد فريد على ذلك بقوله: إن كلمات الاعتراف بالآخر وحق الآخر ينبغي أن تؤخذ بجانب الاعتبار في الحوار الإسلامي الإسلامي في السعي للتقارب، ولا ننصح بقبول كل هذه المصطلحات، ولكن نميز بين ما يُقبل منها وبين ما لا يقبل.
ويفرق الشيخ كمال الخطيب بين الآخر الإسلامي الذي يرفع لواء العمل للإسلام وخدمته؛ فهذا ينبغي السعي للتقارب والالتقاء معه حتى وإن وجدت اختلافات وتباينات معه في الفروع ما دامت الأصول متفقاً عليها، وبين الآخر المحارب للإسلام ودعاته وإن كان يحاول الظهور باسم الدين كالقاديانية مثلاً.
وعلى المنهج نفسه يفرق الدكتور همام سعيد بين (آخر) الإسلامي؛ فلا بد من إزالة الوحشة بينهم سعياً وراء التقارب. وأما الآخر المخالف في العقيدة. فهؤلاء أنواع؛ فمنهم الحربي الذي لا لقاء بيننا وبينه، ومنهم غير المحارب الذي يبقى في دائرة الدعوة والحوار لإقناعه بهذا الدين.
ويرى الدكتور محمد العبدة أن المسألة تعتمد على: مَنِ الآخر؟ هل هو في الكفار أم في المسلمين؟ فكل واحد من هؤلاء له حكم وطريقة وموقف في الحوار وغير الحوار.
ويرى الشيخ تيسير عمران أن المنظومة الفكرية التي تتحدث عن الاعتراف بالآخر وحقه في الاختلاف يمكن أن تؤسس لحوار بين أصحاب الرؤى المختلفة، وتفسح المجال لإثراء موضوعات البحث، ويمكن أن تحقق شيئاً من التقارب الفكري والثقافي. ويستدرك الشيخ على هذا الإطلاق فيقول: لكنها في الوقت نفسه إن تركت دون ضوابط تجعل من ثوابت الأمة حاكماً عليها وموجباً لها؛ فإنها تقود إلى التشتت والانحراف.
ويقلق الأستاذ جمال سلطان من بعض المصطلحات التي لها رموز أو التي يصعب تحديد مدلولها كمصطلح الآخر والانفتاح على الآخر والحوار مع الآخر ويتساءل: من الآخر وما صفته؟ ثم يقول: عندما أتحدث عن الاتحاد الأوروبي فهذا يختلف عن الكيان الصهيوني؛ فهذا آخر وهذا آخر، ولكن منطق الحوار ومسوغاته ومشروعيته تختلف حتماً لاعتبارات كثيرة، ويعقب على ذلك بقوله: فأنا أتعامل بحساسية وحذر مع مصطلح الآخر؛ ولكن الحوار في حد ذاته مطلب نبيل.
وفيما يتعلق بالتجديد:
يتحدث الأستاذ خالد حسن عن الشروط الأساسية التي ينبغي توفرها في أي حركة تجديدية إصلاحية إسلامية حقيقية، فيذكر من ذلك: أن يتحقق الإنتاج الفكري التجديدي بصفات العمل الشرعي حتى لا يحرم من التوفيق الرباني، واستعمال العلم بحيث لا يحدث انقطاع عن العمل وتُتَجاهَل قيمته الفعلية في توجيه النظر والرأي، والتوسل في النظر بمفاهيم عملية شرعية من خلال التمكن من العلم الشرعي فهماً ودراية ومنهجية في التلقي والاستدلال.
ويرى الدكتور كسال عبد السلام أن مصطلح التجديد من المصطلحات الخطيرة التي يجب التنبيه إليها؛ فمعانيه هلامية ولا يمكن الوقوف على حجم أو قياس أو معنى محدد له؛ حيث تظهر التصورات البدعية التي ترغب في التجرد من كل أساس يقوم عليه أمر الإسلام رغبة في إسلامٍ غير الذي جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم -. إن أهم ما لدى المسلم عقيدته وإيمانه وهو مطالب منذ أيام الوحي بالتجديد فيه قراءة وتدبراً وهو من المسائل الثابتة، وقد كان التجديد للتقوية والتحلية؛ فكيف الأمر بما حُكْمُه حكم المتغير الذي وجب التجديد أن يكون تجديداً في ماهيته وليس في مواصفاته؟ هما في الخلاصة دعوتان صادقة وكاذبة، والواجب الالتزام بالأولى والإعراض عن الثانية.
ويقدم الدكتور عبد الرزاق مقري نظرة تحليلية متعمقة في هذه الظاهرة؛ حيث يقول: التجديد ظاهرة تفرضها الحتمية النصية والسيرورة التاريخية؛ فهذه الرسالة هي آخر الرسالات ولا بد أن تجيب عن احتياجات الناس في كل فترة من فترات التاريخ، وإذا اعتبرنا أن فترة التجديد السابقة التي كانت في بدايات القرن الماضي والتي كان الهدف الأساسي منها توعية المسلمين وإخراجهم من الذهول الحضاري الذي صاحب انهيار كيانهم السياسي واستعمار أوطانهم قد استنفدت أغراضها؛ فإننا في بداية قرن جديد والله ـ تعالى ـ يرسل لهذه الأمة من يجدد لها دينها كما جاء الوعد بذلك في الحديث الشريف، وقد بدأت صحوة إسلامية في العالم بأسره، وتحقق الشعور بالانتماء، وتأكدت إرادة التغيير، وبدأت الصحوة منذ سنوات تراوح مكانها من حيث الفكر والممارسة، ولم تستطع تحويل الطموحات إلى إنجازات عملية ثابتة ومستقرة، وهذا يحتاج إلى إضافات فكرية جديدة وممارسات شرعية في مختلف المجالات، وهذا هو مجال التجديد والاجتهاد. وما نراه من تجارب مثيرة للجدل في بعض الأحيان في المغرب والجزائر ومصر والسودان واليمن وتركيا وماليزيا وأندونيسيا هي بدايات التجديد، وسيثبت منها الأصلح ويجازي الله ـ تعالى ـ الجميع.
ويقول الدكتور عثمان جمعة ضميرية: الأصل أن عملية الإحياء والتجديد ترتكز على أصول شرعية ولها مفهومها وضوابطها وآثارها، وهي علامة على حيوية هذا الدين وأبنائه في العودة إلى أصوله وتنقيته مما علق به أثناء التطبيق العملي، وقد شاعت الدعوة إلى التجديد في هذه الأيام لكن بمفهوم يختلف عن أصل معناه، وعندئذ تنقلب الدعوة إلى وسيلة لتغيير الأصول والمناهج، وتصبح أداة لنبذ الأحكام أو تغييرها بحجة التجديد وما هو بتجديد؛ ولذا وجب التفريق بين هذين المنهجين، ويغدو التجديد في هذه الحالة عائقاً أمام التقارب الفكري والثقافي؛ إذ لا يلتقي المنهجان على أمور مشتركة أو ثوابت وضوابط متفق عليها بين الطرفين؛ وذلك بعكس التعامل مع مصطلح التجديد بضوابطه الشرعية؛ فإن ذلك يكون مدعاة للتعاون واللقاء.
وأما الشيخ سليمان أبو نارو فيتكلم عن أصحاب منهج التجديد المعاصر: كلام من خَبَر أصحابَه واكتوى بنارهم فيقول هذا المصطلح (التجديد) بمفهومه المعاصر هو من قبيل المنظومة سالفة الذكر (الآخر) ، والحديث عن التجديد تروِّج له المدرسة العصرانية والتي تربى رجالها في كنف رجال الاستشراق وأدعياء الحداثة والمعاصرة. وسعي هذه المدرسة بين الناس على هذا النمط يزيد من صعوبة التقارب والاجتماع، ويجعل الحوار (حوار طرشان) كما يقولون؛ حيث لا ثوابت ولا أرضية مشتركة، بل إلغاء للثوابت وتحريف للمفاهيم وتشكيك في المسلَّمات، وقد كان لتساهل بعض التيارات وتعاطف بعض عناصرها مع هذا (الطابور الخامس) لاعتبارات تقديرية أعظم أسباب القوة والقبول لدى بعض الطيبين من العامة بل والخاصة، وقد تحولت أطروحات هذه المدرسة إلى الجسر الذي يتحرك فوقه اليوم الأعداء من يساريين وعلمانيين، بل وجماعات تقارب الأديان وتعايشها؛ وينبغي اعتبار هذه المدرسة في قائمة أكثر قوة الهدم في ساحتنا الإسلامية.
ويبدو الأستاذ جمال سلطان حذراً من استعمال مصطلح التجديد، فيقول: يسري على مصطلح التجديد ما يسري على مصطلح الآخر؛ فهو مصطلح ليس له أصل علمي في تراثنا العربي الإسلامي (١) ، ومن ثم لم يخضع للضبط العلمي والمنهجي؛ بعكس مصطلح الاجتهاد، الذي صار له دلالة محددة وقواعد ومحددات شرعية وعلمية وموضوعية يمكن أن نتفهمها، أما مصطلح التجديد فعلى من يطلق لفظ المجدد؟ وما مواصفاته؟ وما التجديد؟ وهل هو وفق شرعية لا يخرج عنها؟ وكل هذه الأشياء تثير التساؤلات، ولذلك أنا دائماً حذر في بعض المصطلحات الجديدة؛ وأعتقد أنَّ الغموض فيها يتيح لكل سيئ نية أن يوظفها كيفما أراد دون أن يكون لها قيمة في حد ذاتها.
ويقول الدكتور محمد العبدة: قضية التجديد مطروحة في كل عصر فإنه مما يحث عليه الدين، وقد بشر به الرسول -صلى الله عليه وسلم -، ولكن التجديد أو أي مشروع أو مفهوم لا يمكن أن يكون دون ضوابط وأسس صالحة. إنَّ ما يسمونه التجديد الذي شاع في هذه الأيام هو من النوع (المنفلت) من أي قيد والذي تتحكم فيه الأهواء ولكنهم يحيطونه باسم جديد هو (التجديد) ومثل هذه الأمور لا تساعد أبداً على التقارب الفكري أو الحوار البناء.
ويوضح الدكتور عمر الأشقر معنى التجديد المشروع فيقول: التجديد ليس هو لأمر مفقود يحتاج على إيجاد، ولكنه أمر موجود يحتاج على إعادة تأصيل وبيان. إن التجديد يعني فقه الإسلام في ضوء الحياة الإسلامية التي كان يحياها الرسول -صلى الله عليه وسلم - وأصحابه، وليس هو باكتشاف منهج جديد لم يكن في الإسلام. إن التجديد يعني العودة إلى الإسلام في صفائه ونقائه بعيداً عن التحريف والتشديد والتطرف والمغالاة وليس بدعوة جديدة ومنهج جديد نحتاج أن يكشف عنه أصحاب العقول فيبتدع كل واحد منهجاً، ونصبح أمام تلال وجبال من المناهج والتصورات فنقع في الضلال.
ويبين الشيخ تيسير عمران بوضوح أن الحديث عن التجديد في الدين وأثره في التقارب الفكري لا يعني مطلقاً إعمال يد التغيير بالحذف أو الزيادة فيه، ولا يعني التنازل عن قيمه ومبادئه تحت دعوى العقلانية أو التعددية أو غيرها، وإنما يعني كما هو ثابت بالنص الصحيح: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» إنه تجديد لفكر الأمة بالاجتهاد، وإيمانها بالتربية، وفضائلها بالعمل، ومعالم شخصيتها بالعلم والمعرفة، ولا شك أنَّ لهذا التجديد؛ إذا ما تحقق، أثره البالغ في إنجاح الحوار الإسلامي الإسلامي.
ويؤكد الدكتور صلاح الخالدي على أهمية الضوابط في التجديد فيقول: التجديد ليس منفتحاً مطلقاً، وإنَّما هو تجديد منضبط بضوابط، حتى لا يتحوَّل إلى تخريب وإفساد، ونحن نعيش حمَّى الدعوة إلى التجديد المطلق، وهذه الدعوة تأتينا من أعدائنا، وقد يرددها بعض المغرضين أو المخدوعين في بلاد المسلمين، ومن أهمِّ الضوابط للتجديد:
أ - التجديد ليس في الأسس والقواعد والثوابت والمقاصد؛ فهذه حدَّدها الإسلام وأثبتها، ومنع التغيير فيها والتبديل، وعد تغييرها إحداثاً وتحريفاً مردوداً، ينطبق عليه حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» .
ب - التجديد يكون في الأدوات والأساليب والوسائل، ويقوم على تحسينها وتجويدها؛ فالتجديد لا يكون في المضمون.
ج - الاستعلاء على ضغوط الآخرين بتغيير الخطاب، والاحتكام إلى المرجعية العالمية الدولية، المتمثلة بمجلس الأمن أو قرارات الأمم المتحدة أو غير ذلك، وعدم الاستجابة لتلك الضغوط والدعوات المشبوهة، والتعامل معها على أساس قول الله ـ عزَّ وجل ـ: {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إلَيْكَ} [المائدة: ٤٩] .
ويرى الشيخ عبد الله الغنيمان أن دعوة التجديد الحداثية ينبغي أن تكون من الدوافع التي توجب على أهل الحق الاتفاق ونسيان الخلافات الجانبية أو الفروعية، وتقوية أنفسهم وتحصين شبابهم من تلك الدعوات التي يراد منها تمييع الدين وجعله مسايراً للديانات المحرفة.
- من يحمل هم الحوار والتقارب الإسلامي:
البيان: كلما تجاوب المجتمع مع دعوة من الدعوات كان ذلك أنجح لها وأدعى إلى الاستفادة منها، وفي المجتمع قوى علمية فاعلة كثيرة مثل الجامعات ومراكز الأبحاث والمؤسسات العلمية ودور النشر ووسائل الإعلام؛ فما طبيعة الدور المرتقب من تلك القوى، وكيف تكون مساهمتها فيه، وهل يمكن أن تساعد تلك المؤسسات في الحوار المطلوب، أم أن ذلك سوف يظل قَدَر الحركات الإسلامية وحدها؟
- المشاركون:
يرى الشيخ سليمان أبو نارو أنَّ بعض هذه المؤسسات لم تقم في الأصل لخدمة الإسلام وإحيائه، ولا لجمع العاملين له وتقوية صفهم، بل في غالب أمرها قامت لهدم الدين ومحاربته وتشويه صورته وتلبيس أمره، وصرف الناس عنه في عقائده وقيمه ومفاهيمه، والتشكيك في مسالمته وخاصة أنها أسست على أيدي الأعداء ووكلائهم؛ وقد قيل: (إنك لا تجني من الشوك العنب) ، لكنه يستثني ويقول: هذا في الأصل؛ فإذا كانت هناك استثناءات تخرج عن هذا التعميم، أو كان في الإمكان تأسيس مثل هذه المؤسسات على التقوى من أول يوم؛ فذلك من أعظم الواجبات اليوم، وربما يرى بعضٌ أن هناك إمكانية لخدمة الإسلام والتوفيق بين أهله من خلالها من غير أن يمس ذلك نقاء الدين وسلامة منهجه، ويبدي الشيخ وجهة نظره في ذلك بقوله: إنَّ التجارب والوقائع في جملتها لا تدل على ذلك، ولكلٍّ فيما يحاول مذهب.
ويتفق الشيخ حامد البيتاوي مع الرأي المتقدم فيقول: هذه الوسائل: الجامعات ووسائل الإعلام ممكن أن تلعب دوراً، ولكن هي غير معنية بهذا وخصوصاً أنَّ رؤساء الجامعات لهم عقول كبيرة ومفكرة، ولكن قناعاتهم في غير هذا الاتجاه، وفي رأيي أنهم إذا أرادوا ذلك فإنهم يستطيعون ويكون لهم دور فاعل لامتلاكهم القدرات.
وينظر الدكتور منير محمد الغضبان بواقعية لحال هذه المؤسسات، فيرى أن العمل على التقارب هو قدر الحركات الإسلامية، ويوضح ذلك بقوله: في رأيي أن المشكلة تشمل قوى المجتمع نفسها؛ فكثير منها لا يخضع لتوجيهات العاملين للإسلام ويحمل اتجاهاتهم، وقلَّما توجد الجامعات ومراكز الأبحاث والمؤسسات العلمية المستقلة، لكنها مع ذلك تمثل الطبقة المتقدمة في الأمة، وحاجتنا فيها إلى المنهج العلمي القائم على الأرقام والإحصاءات والاستبانات، ودور النشر تقذف كل يوم بالآلاف من الصفحات، وحيث إنها لا تكون قائمة على المنهجية فقد تكون عبئاً على عملية التقارب أكثر مما تكون عوناً له؛ فالجامعات والكتب والمؤسسات الموجهة تفرز فكراً أحادياً يؤصل للخلاف أكثر مما يؤصل للتقارب، وتبقى المسؤولية الكبرى في عملية التقارب في أعناق الواعين لأهميته وفي أعناق القيادات لهذه الحركات. إن الدعاة إلى الله ـ تعالى ـ حين يختلفون وينشرون خلافاتهم على الملأ إنما ينقلبون دعاة ضد الإسلام أمام الحائرين الباحثين عن الحقيقة مهما كان إخلاصهم لله تعالى، وإن اتفاقهم على ضعفهم وعجزهم خير من تفرقهم وتطرفهم؛ فالتفرق يلتقي مع الكفر تحت راية واحدة {وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [آل عمران: ١٠٥] .
ويربط الدكتور عثمان جمعة ضميرية بين دور هذه المؤسسات وبين استقلاليتها، فيقول: عندما تتحرر هذه المؤسسات من الضغوط الخارجية والاستغلال يمكن أن يكون لها تأثير في الدعوة إلى الحوار والتعاون بما تقدمه من دراسات، وبما تجمع بين جنباتها من خبرات.
ويباين الشيخ حسن يوسف الآراء المتقدمة بقوله: ما من شك في أنَّ الجامعات ومؤسسات السلام الاجتماعي أو ما يسمى بمؤسسات المجتمع المدني لها دور كبير؛ فهذه المؤسسات باستطاعتها أن يكون لها دور فاعل ومؤثر في تقريب وجهات النظر بين أطراف الحركات الإسلامية بعضها مع بعض وخاصة إذا سلطت الأضواء على المخاطر المحدقة بالأمة، وإذا ما سلطت على وجوب تلاحم المسلمين بعضهم مع بعض بجهود لا تبغي إلاَّ مرضاة الله، ولأنه في التوحد خير وفيه بركة، والله ـ سبحانه ـ حذرنا من التفرقة وقال: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: ٤٦] .
ويتفق الدكتور همَّام سعيد مع الشيخ حسن يوسف فيقول عن قوى المجتمع: لها دور فاعل في التقارب بأن تفتح أبوابها للجميع والتركيز على المصالح أكثر من الوسائل، والاهتمام بالأصول أكثر من الفروع، وإشراك الجميع في عمليات الدفع والممانعة، وبناء المشروع الفكري الذي يلتقي على هذه الأصول والمصالح. وبنحو مما تقدم يقول الشيخ تيسير عمران أيضاً.
ويبين الدكتور خالد الخالدي الآليات التي يمكن من خلالها أن تؤدي تلك المؤسسات دورها فيقول: ينبغي لهذه المؤسسات أن تلعب الدور الأكبر في تحقيق أهداف التقارب، ويمكن ذلك من خلال:
١ - عقد المؤتمرات التي تدعو إلى الحوار والتقارب بين المسلمين، واستدعاء الطاقات الإسلامية ونشر الأبحاث خلال هذه المؤتمرات مما يؤدي إلى خلق رأي عام تجاه قضايا التقارب، ويشجع على تكرار هذه التجارب.
٢ - دعوة أساتذة الجامعات إلى توضيح أهمية التقارب والوحدة باستمرار، حيث يقف يومياً آلاف الطلبة المسلمين المتحزبين كل إلى جماعته وكل يدعو إلى فرقته، ويمكن استغلال تجمعاتهم وبث روح الوحدة والقوة فيهم، والتشديد على مساوئ التحزب لجماعة إسلامية دون الأخرى.
٣ - منع أساتذة الجامعات من مهاجمة الجماعات الإسلامية؛ لأن هذا يباعد من التقارب ويحقق الاختلال.
٤ - نشر الكتب والأبحاث، واستكتاب الكتاب والمفكرين حول مواضيع التقارب والوحدة.
٥ - إبراز ما حل بالأمة من دمار نتيجة الاختلاف والنزاع، وأن الأوطان لن تتحرر إلا بالوحدة والتكاتف والابتعاد عن الفرقة.
٦ - تخصيص البرامج التلفزيونية والإذاعية التي تسعى إلى التقريب، ومنع نشر كل ما يبث الفرقة بين المسلمين أو الجماعات الإسلامية.
٧ - التحذير من البرامج التي تبثها بعض القنوات الفضائية العربية والتي تسعى إلى إظهار سلبيات الحركات الإسلامية التي تقف بوجه الحكومات.
ويرى الأستاذ جمال سلطان أن هذه المؤسسات مختلفة في اتجاهاتها، لكن ينبغي لخيارات العمل الإسلامي أن تهتم بآليات التأثير في العصر الحديث، والاستفادة من هذه الأدوات والآليات من أجل تحقيق الإصلاح المنشود، فلا ينبغي إهمال هذه المؤسسات وخاصة المؤسسات الدينية العريقة بسبب بعض فترات الضعف التي تمر بها، بل يجب علينا أن نعمل على إصلاحها وإحياء دورها.
ويخص الشيخ أحمد فريد المؤسسات الإسلامية بهذا الدور، فيقول: أرى أن من وظيفة المؤسسات الإسلامية كالجامعات الإسلامية ومراكز البحث والمؤسسات العلمية أن تهتم بقضية الحوار؛ فعندها وقت وجهد وباحثون، فتدرس ما يمكن قبوله من أفكار الجماعات وما لا يمكن قبوله، وتحدد من يمكن دعوته لمائدة الحوار ومن لا يمكن، إضافة إلى إعداد جداول للعمل على تقريب هذه الجماعات.
وللأستاذ خالد حسن نظرة متعمقة حيث يدعو إلى إنشاء المؤسسات التي نحتاج إليها؛ فهذه هي التي يعوَّل عليها في تحقيق المراد، ويشرح فكرته بقوله: إن صناعة الوعي تستحق التفرغ وبناء المشروعات والمؤسسات، وهناك مستوى آخر لا يقل أهمية وهو تجميع الفاعلين والمؤثرين في الأمة أو من تجاوب منهم مع أصل الفكرة والمبادرة في إطار مناهض لتوجهات الهيمنة والسيطرة والنهب، يرصد الخطط ويرسم استراتيجية المواجهة الشاملة ويقود الطاقات الجماهيرية ويوجه القوى الحية في ظل هذا التربص بالأمة ومقدراتها؛ فهل يعقل أن أمة بطولها وعرضها ومخزونها لا تملك مؤسسة مستقلة أو منتدى حراً أو مجمعاً للدراسات والاستراتيجيات يجمع أهل الخبرة والمفكرين سواء في أمريكا أو غيرها من دول الغرب لرصد خطط الهيمنة ووضع التصورات المستقبلية؟ وأمام الفتوحات الأمريكية للقارات والتحكم في مناطق الضخ يبرز مجال أوسع وأعمق في مهمة المفكرين والمصلحين والكتاب والفاعلين والقوى الحية في الأمة، وهو رفع مستوى التحدي. ومواجهة استراتيجيات الهيمنة والسيطرة ليس ببث الوعي المجرد والأعزل فقط، ولكن أن نؤسس لوعينا ولتصوراتنا مؤسسات ومنتديات تتابع الخطط وتكشفها، وتميط اللثام عن الاستراتيجيات، وترسم خطوط المواجهة الشاملة للأمة. إن أوقاتنا الراهنة لا يكفي فيها تسجيل موقف والتوقيع على بيان إبراء للذمة وإعذاراً إلى الله ـ تعالى ـ وبعدها يرجع كل منا إلى عرينه يستأنف مسيرة الوعي المجرد.
وينظر الدكتور كسَّال عبد السلام إلى أهمية التخصص وقدرة المؤسسات على القيام به فيقول: إن البناء المراد إنجازه في المجتمع يتكون من شقين:
الأول: يخص الفكرة والتنظيم الذي يمثِّلها في أرض الواقع.
والشق الثاني: يخص جانب الأعمال الذي لم يعد في الوقت الحاضر بتلك البساطة التي كان عليها قديماً، وباتساع هذا المجال صار الاختصاص في كل شيء ضرورة، وهذا الذي تقوم به مؤسسات المجتمع كلها، ولقد صار كل شق يستلزم تثمين الشق الآخر له. إن التزام جانب الدعوة المجرد يعني إبقاء الإسلام على هامش الحياة، ولذلك لا بد من الالتفات إلى هذه المؤسسات، وجعلها عوامل تقوية ودفع لدعوة التمكين للدين، وهو يمدها بأسباب القوة والنجاح وهي تدعمه بوسائل التمكين.
ويضيف الدكتور عبد الرزاق مقري: إن قوى المجتمع لا يسيِّرها الخطاب العام الذي كان له الفضل الكبير في إنشاء الوعي والصحوة؛ فلا بد من الاهتمام بالمؤسسات المجتمعية في مختلف المجالات فهي التي تثبت ولاء الجماهير، وهي التي تطور المشروع الإسلامي، وهي التي تحمي الدعوة، وهي التي توظف الطاقات وتؤهل القيادات، وهي التي تحقق الإنجازات وتفتح سبل النجاح بإذن الله تعالى.
نسأل الله أن يأخذ بيد الجميع لكل خير، والحمد لله الذي بنعمته تتمُّ الصالحات.