للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[الدرس الوحيد.. وفقه الانتصار]

خالد الخليوي

هل تذكرونَ ـ أيُّها الأحبابُ ـ تلك القصّةَ العظيمةَ التي حَكاها الله ـ سبحانهُ وتعالى ـ في كتابه العزيز عن أصحابِ الأخدود، وقامَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بذِكرِها مفصّلةً للصحابة ـ رضيَ الله عنهم ـ ولأمّته من بعده؟ (١) .

إنَّها خبرُ حقّ، وآياتُ صِدق.

دعاةٌ يواجهونَ الطُّغاة، ومؤمنون تبيّن لهم الحقُّ فاتّبعوه، ورأوا صِدقَ داعيه فأحبّوه.

في أوّلِ يومهم في رحابِ الإيمان، وفي آخره في أخاديد النيران.

وفي الجانبِ الآخر ظالمون ومُشركون، أُسلوبُ حوارِهم القتلُ والإجرام، ومُنتهى آمالهم استعبادُ الأنام.

قصّةٌ مليئةٌ بالعِبَرِ والدروس، ومشاهِدُ تحكي قِدَم تلك الحربِ الضروس. ومع ذلك فإنّي سأكتفي منها بدرسٍ وحيدٍ، ومعنىً ليسَ على الكثير بالجديد، لكنّي أحسبُ أنَّهُ من الأهمّية بمكانٍ أن نستحضرهُ في هذه الأيّام.

تذكّروا معي؛ ما الذي حصلَ للغُلامِ المؤمن وللنّاسِ بعد إيمانهم بربِّ ذاكَ الغُلام؟

إنَّهُ التعذيبُ المُوجع، ومن ثمَّ القتلُ لهم أجمع.

أمّا الغُلام فقد صُلِبَ على جِذعٍ ثمَّ رُمِيَ بالسِّهام حتّى قضى نحبَه، وأتمَّ عهدَه.

وأمَّا المؤمنون فقد شُقّت لهمُ الأخاديد، ثمَّ أُشعلت فيها النيران، ثمَّ قُذِفوا فيها جميعاً.

ليسَ الرجالُ فحسب، بل معهم النّساء.

وليس الكبارُ فحسب، بل معهم الأطفال.

وهنا يأتي سؤالُنا المباشر ليقول:

ألم يكُن الغلامُ ومن معه على الحقّ؟!

ألم يُضحّوا بأنفُسهم ويلتزموا طريقَ العدلِ والصّدق؟

ألم يُعلنوا إيمانَهم، ويصدعوا بتوحيدِهم جِدارَ الشركِ والكُفر؟!

ألم يُقرّروا قرارهم الشُّجاع، ويثبتوا على دينهم رَغم مُحاولاتِ الرّدِّ والقَهر؟!

والجوابُ: بلى؛ قد كانوا كذلك.

إذاً؛ فلماذا لم ينصرهم الله تعالى؟!

لماذا لم يُنْزلِ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ مطراً يُطفئ تلك النّارَ كرامةً لأوليائه؟!

لماذا لم يقل للنّارِ كما قالَ لنارِ إبراهيمَ ـ عليهِ السّلام ـ: {يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إبْرَاهِيمَ} [الأنبياء: ٦٩] ؟! أو يُرسلَ جُنداً من جنوده؛ ليُهلِكوا الظّالمين، ويجعلوهم عبرةً للمعتبرين؟!

وللإجابة عن هذه الأسئلة يُقالُ ما يلي:

أولاً: إنَّ الله ـ سبحانه وتعالى ـ لا يُسالُ عمَّا يَفْعَلُ، والخلقُ يُسألون.

ثانياً: إنَّ المؤمن ليعتقد في قلبه أنَّ ربّهُ ـ عزَّ وجلَّ ـ حكيمٌ حكمةً مطلقةً، والخيرُ كلُّ الخير في يديه، والشّرُّ كلُّ الشرِّ ليس إليه.

وكم هيَ المظاهرُ التي كُنَّا نحسبها شرّاً فبعثَ الله فيها من الخيرِ ما لم يكُن في الحُسبان، وما لم يخطُر في خَلَدِ الإنسان.

ثالثاً: إنَّهُ ليجب علينا أن نستحضرَ حديثَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- وهو يقول: «عجباً لأمر المؤمن، إنَّ أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سرّاء شكر، فكان خيراً له، وإن أصابته ضرّاء صبر، فكان خيراً له» . أخرجه مسلم.

فاختيارُ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ أرحمُ وأسعدُ للعبدِ المؤمن، {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص: ٦٨] .

رابعاً: ينبغي لنا أن نُحرّر مفهوم النّصر بمعناه الشّاملِ، ودلالتِه في الميزانِ الرَّباني، لا في ميزانِ البشر.

فلم يكن معنى النّصر في الشرع قطّ هو الغلبةُ على الأعداءِ في كلِّ معركة تدورُ بينهم، بل الحربُ سِجالٌ، والعاقبةُ للمتقين.

ولم يكُن معنى النّصر كذلك هو السّلامة من كلّ أذىً وألمٍ ومُصيبة.

وما زالَ في ذاكرتنا حديثُ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- حينما سُئل: أَيُّ النَّاسِ أَشَدُّ بَلاَءً؟ فقال: «الأنْبِيَاءُ ثُمَّ الأمْثَلُ فالأمْثَلُ» ، أخرجه أحمد والترمذي، وقال: حديثٌ حسنٌ صحيح.

وليسَ معنى النّصرِ دائماً هو أن تقرّ عينُ المرءِ وهو يرى النّاس يدخلونَ في دينِ الله أفواجاً.

وينظرُ إلى التّائبينَ وهم يسألونَ الدُّعاةَ توجيهاً وعِلاجاً.

وقد حدّثنا رسولنا -صلى الله عليه وسلم- فيما أخرجه البخاري ومسلم عن بعضِ الأنبياء، أنَّهُ يأتي يوم القيامة ولم يُؤمن به أحد (١) .

ولم يكُن ـ أيضاً ـ معنى النّصر هو البقاءُ طويلاً في الحياةِ حتّى يرى الإنسان ثمرات بذله وعطائه ودعوته. وكم هي المُبشّراتُ والفتوحاتُ التي أشارَ إليها النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ولم تقع إلاّ بعد وفاته -صلى الله عليه وسلم-. هذا كلّه مع مَنْ بذلَ أسبابَ النّصرِ والتمكين، وكانَ على الجادّة التي رسمها الله له.

إنَّ نصرَ الله ـ تعالى ـ لأوليائه ليسَ صورةً واحدةً أو مثالاً فريداً، بل هو أوسعُ وأشملُ ممّا نتصوّرهُ في كثيرٍ من الأحايين.

فحين يتبيّنُ المرءُ الحقَّ، ويتمسّكُ به، ويثبتُ عليه، ويموتُ من أجلهِ، وفي سبيله، فإنَّ هذا من أعظمِ صورِ النّصرِ الربَّاني لعبادهِ المؤمنين.

وفي قصّة أصحابِ الأُخدودِ هذه نقول:

ما كانَ لأولئك المؤمنين الضُّعفاء أن يختاروا القتلَ والإحراق، من أجلِ رضاءِ ربّهمُ الخلاّق، وهم يرونَ الابتلاءَ ماثلاً أمامهم جِدّاً وليس بالهزل، ما كانَ لهم ذلك لولا إعانةُ الله، واصطفاؤهُ لهم.

ثمَّ من أدرانا أنَّهم لمّا قُذِفوا في النّار شَعُرُوا بحرِّها وأليمِ عذابها.

بل هل ندري عن الذي لَقُوهُ من ربّهمُ الكريم بمجرّدِ إلقائهم في النّار، خاصّةً أن الله ـ تعالى ـ ذيّل قصّتهم في سورة البروج بقوله: {إنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج: ١١] . ولم يَصِف الله ـ تعالى ـ الفوزَ بـ (الكبير) إلاّ في هذا الموضع في القرآن كلّه، فأيُّ فوزٍ هذا الفوز، ونهايتهم هي إحراقهم في النّار؟!

نعم؛ والله إنَّهُ لفوزٌ كبير، وفلاحٌ عظيم.

فوزٌ حينَ آمنوا بربّهم في ظلِّ دولةٍ كافرةٍ تقومُ على الشّركِ والسّحرِ والخُرافات.

فوزٌ حينَ ثبتوا على الحقِّ وضحّوا من أجلِهِ بأهليهم وأنفُسهم ـ وهي أغلى ما يملكون ـ، ولسانُ حال الواحدِ منهم يقول:

أجودُ بالنفسِ إنْ ظنَّ البخيلُ بها

والجودُ بالنفسِ أعلى غاية الجودِ

فوزٌ حينَ ذَكَرهم الله ـ عزَّ وجل ـ في كتابه الكريم يُتلى إلى قيامِ السّاعة في سياقِ المدحِ والثّناء، وقد عَلِمَ ـ سبحانه ـ ما في قلوبهم.

فوزٌ حينَ يقابلونَ ربّهم وهو راضٍ عنهم فيكسوهم حُللَ الذهبِ والفضّة، ويُسعدهم بأجلِّ نعيم وأعظمِ عطاء، وهو النَّظرُ إلى وجههِ الكريم.

فوزٌ بصُوَرٍ متعدّدةٍ تحصلُ لهم في عالمِ الغيب، لا تُدركهُ أبصارُنا ولا تحتويهِ عقولُنا.

وها نحنُ الآن نُصبِحُ على أخبارٍ مُزعجة، ومآسٍ موجعة، ونمسي على مثلها عن إخواننا المسلمين في كُلِّ مكان.

جُرحٌ في فلسطين، وفي العراقِ آلام.

كارِثةٌ في الشيشان، وفي كشمير إجرام.

تسلّطٌ رهيبٌ على المنطقة من قِبَلِ يهود.

واستكبارٌ وغطرسَةٌ من قِبَلِ أمريكا بلا حُدود.

والضحيّةُ في الغالب هم المسلمون. وإن شئتَ فقُل: إنَّ الأكثر في هذه الضحيّة من أهلِ السُنّة مع اختلافِ أطيافهم وطوائفهم.

قتلٌ للأبرياء، وتصفيةٌ للدُّعاةِ والصُّلحاء.

نهبٌ للأموالِ والخيرات، وإفسادٌ لئيمٌ لأخلاقِ الشبابِ والفتيات.

وعُملاءُ من الدّاخلِ يقومونَ بأبشعِ الخيانات.

وإذا قطعتَ الرأسَ من حيّاته

لا تنسَ أذناباً بكلِّ بلادي

هدمٌ من الدّاخلِ على يدِ كثيرٍ من مُلاّكِ القنواتِ وصانعي الإعلام.

وحربٌ من الخارجِ تسيرُ على خُطىً مدروسة كَتَبَتْهَا أيدي اللِّئام.

في بعضِ الدُّول العربيّة لا تملك المرأة المُسلمة أن تخرُج إلى السّوقِ بحجابها.

ولا يملك الشّابُّ أن يُكرّر حضوره للمسجد ليكونَ من أهلِ الجنّةِ وطُلاّبها.

فيأتي السؤالُ المباشر نفسُه:

أينَ نصرُ الله لنا، وفينا صادقونَ وباذلونَ، ومعنا دُعاةٌ وناصحون؟!

نعم أيُّها الأحباب؛ إنَّ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ مُطّلعٌ على كُلِّ ما في الكونِ، ولا يخفى عليهِ شيءٌ في الأرضِ ولا في السّماء، وإنَّ نصرَ الله لا يتخلّف أبداً، إلاّ إذا تخلّفت أسبابُه، وتأمّل إذا شئتَ تلك الجُملة الشرطيّة في قوله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: ٧] .

إنَّ أعظمَ النّصر هو أن تسيرَ على منهجِ الله ـ عزَّ وجلَّ ـ ما استطعت، وأن تعملَ في واقعكَ بما تقتضيهِ سيرةُ نبيّكَ -صلى الله عليه وسلم- وسنّتُه.

ليسَ الخوفُ من أن يهزمنا الأعداء ونحنُ سائرونَ على الدّرب، وباذلونَ للجُهد، فسيبقى ما فعلوهُ مجرّد هزيمةٍ لنا، لا استسلاماً منّا، وفرقٌ بين الهزيمة والاستسلام. وإنّما الخوف من أن نُخفق في التمسُّك بديننا حتّى وإن انتصرنا في ساحة الحرب على أعدائنا.

ورضيَ الله عن البطل «حرامُ بن ملحان» ذاكَ الصحابي الجليل الذي قالَ بعدما طُعن غدراً ورأى الدمَ يسيلُ من جوفه: «فُزتُ وربِّ الكعبة» . نعم؛ واللهِ العظيمِ لقد فاز، فازَ حينَ عاشَ على الطريقِ القويم، وماتَ عليه.

إنَّ هذا البطل ليُعطينا درساً في فقهِ النّصرِ وحقيقة الفوز.

وفي غزوةِ مُؤتة، تلكَ الغزوة التي قابلَ فيها المسلمون ـ وهم ثلاثةُ آلاف ـ جيشاً عظيماً من النّصارى وكفّارِ العربِ وهم مئتا ألف، وبعدَ أن قُتِلَ الأُمراءُ الثّلاثة: زيدٌ، فجعفرُ، فابنُ رواحة، أُمِّرَ عليهم خالد بن الوليد رضيَ الله عنهم أجمعين، فانحازَ بالجيشِ بطريقةٍ ذكيّة، وأُسلوبٍ رائع، فاعتبرَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ذلك فتحاً ونصراً للمؤمنين، معَ أنَّ الجيشَ الإسلامي فَقَدَ أُمراءهُ الثلاثة.

وفي صُلحِ الحُدَيْبية كَرِهَ بعضُ الصّحابة بعضَ بنودِ الصُّلح، وحاوروا النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- وأبا بكرٍ ـ رضيَ الله عنه ـ في ذلك، ورأوا أنَّ هذا الصُّلح بهذهِ الشُّروط يُعتبرُ دنيّة لدينِ الإسلامِ وأهله.

ومعَ ذلك يُنزلُ الله على نبيّهِ -صلى الله عليه وسلم- بعد هذا الصُّلح «سورة الفتح» : {إنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا} [الفتح: ١] . فيسألُ عمر بن الخطّاب ـ رضيَ الله عنهُ ـ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم-: أَفتْحٌ هو يا رسولَ الله؟ فيقول: «نعم؛ والذي نفسي بيده إنَّهُ لفتح» . وكان البراء بن عازب ـ رضيَ الله عنه ـ يقول: (إنّكم لتعدُّونَ الفتحَ فتحَ مكّة، أمّا نحن فكُنّا نعدُّ الفتحَ صُلحَ الحُديبية) .

وأمّا موسى ـ عليهِ السّلام ـ فقد كانَ من إعانةِ الله له أن خلّصهُ ونجّاهُ من القومِ الظّالمين، واعتُبِرَ هذا التخليص نصراً من الله له. واقرأ ـ إن شئتَ ـ قوله ـ تعالى ـ: {وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} [الأنبياء: ٧٧] . ألا فلنَفْقَه حقيقةَ النّصر الربَّاني، وشمولَه، وأسبابه الحقيقيّة، وإيّانا والتخاذُل عن البذلِ والعطاء، وأن يكونَ قُصارى ما نملكه هو التنادي بالصبرِ فقط، وأن نقعد منتظرينَ ذاكَ القائد الربَّانيَّ الذي يبعثهُ الله في نهاية الزمن، فيملأ الأرضَ عدلاً كما مُلئت جَوراً وظُلماً، أو نُقلّب وجوهنا في السّماء نترقّب نزول النبيِّ المُبارك عيسى ـ عليهِ السّلام ـ ليقتُلَ اليهود ويضعَ الجزية ويقضي على الخنزير ويكسر الصليب.

إنَّ تحقيقَ النّصرِ مشروعُ أمّة، وإنَّه مُفتقِرٌ إلى جدٍّ وصدقٍ وهمّة.

ولنَعِ أنَّ أساسَ الداء فينا، وبدايةَ العِلاج منّا، وتلكَ قاعدةٌ قرّرها الله ـ تعالى ـ في سورة الرّعد وسورة الأنفال، فقالَ في الأولى: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: ١١] . وقالَ في الثّانية: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الأنفال: ٥٣] .

فإلى المُراجَعةِ والتصحيحِ الشّامل، وإلى التوبةِ النّصوح، والعملِ المُتكامل.

وليعلمِ الجميع أنَّ على كُلّ فردٍ قدراً من المسؤوليّة، وأنَّ لهُ دوراً ينبغي أن يبحثَ عنه ويقومَ به. ولنُدرك كذلك أنَّ السّاحةَ تَسَعُ كلَّ صادقٍ يُريدُ العمل، وتتضمّن كلّ مُشمِّرٍ طَرَدَ عن نفسهِ الخمولَ والكسل.

فليَعُدِ الشّارِدُ إلى ربّه، وليرجعِ العاقُّ إلى برِّه.

وليُطهّر الحسودُ قلبَه، وليُنمِّ المُحبُّ الصادِقُ حبّه.

إذا الحِمْلُ الثقيلُ توازعته

أكفُّ القومِ خفَّ على الرِّقابِ

توحيدٌ لله يجبُ أن يُعظَّمَ وأن يُصان، وشركٌ مع الخالِقِ يجبُ أن يُفضحَ وأن يُهان.

على الرّاعي أن يعدِلَ وأن يرحم، وعليهِ ـ أيضاً ـ أن يُقَرِّبَ وزراءَ الخير، وللعلماءِ فليُكرم، وعليهِ ـ أيضاً ـ أن يَبذُلَ أسبابَ النّهضةِ الشّاملة، وعلى الخيرِ فليعزم.

ولينطلق بالأمّة ـ مُستحضراً واقِعَها ـ إلى برِّ الأمان.

وليمشِ مع وزرائِهِ وأعوانِهِ على خُطىً تستشرِفُ قادمَ الأزمان.

وليعلم أنَّ نجاحهُ في تجربته الرئاسيّة لا تفتقرُ بالضرورةِ إلى زمنٍ طويل، وتجديدٍ مُتتابعٍ لرئاسته. فها هو العجيب عمرُ بن عبد العزيز ـ رضيَ الله عنه ـ حَكَمَ المُسلمين لمدّة سنتين وخمسةَ أشهرٍ وأيّاماً فقط، إنّها مُدّةٌ لعلّها لا تَصِلُ إلى عُشْرِ مدّة حُكمِ كثيرٍ من الحُكّامِ الآن، ومعَ ذلك فقد أرغمَ التّاريخ إرغاماً أن يكتُبَ سيرته بمدادٍ من ذهب، وعباراتٍ من قَصب، حتّى أصبحَ العدلُ لا يُذكرُ إلاّ ويُذكرُ معهُ عمرُ بن عبد العزيز، ألا فحيّا الله هذه السيرة العطرة، وتِلكَ السّحابة المُمطرة، وأسكنَ صاحِبها جِناناً نَضِرة.

وأمّا الرعيّة فليتوبوا إلى ربّهم وخالقهم، وليُحسنوا الظنَّ ببارئهم ورازقهم.

ولا يَحسُنُ إحسَانُ الظنِّ إلا مع العملِ وبذلِ المُستطاع، ولا يصدقُ عزمٌ إلاّ بتغييرِ كثيرٍ من الصّفات والطّباع، فإنّا إن تقرّبنا إلى ربِّنا بشبرٍ تقرّبَ إلينا بذراعٍ ثمَّ باع.

ولنترُك تلكَ الفلسفة التي يعتمِدُ عليها البعضُ فيقول:

(أنا واحِدٌ في هذه الأمّة، أيُمكنُ أن يؤثّرَ تقصيري وذنبي في استجلابِ عقابِ الله ـ تعالى ـ وتسلُّطِ الأعداء؟!) . فنقولُ: نعم؛ فإنَّ لك مُشابهاً ثانياً يقولُ نفسَ مقالتك، وسيأتي الثالِثُ كذلك لينهجَ نفسَ المنهج، فتجتمِعُ تلك المعاصي وذلك التقصير ليكون سبباً في هواننا على الله ـ تعالى ـ، ومن ثمَّ هواننا على الأعداء.

وكذلك تماماً. لنترك تلكَ الذريعة التي يعتمدُ عليها البعضُ في إعذارِ نفسه وإسقاطِ مسؤوليّاته، فيقول أحدهم: (أنا واحِدٌ في هذه الأمّة الجريحة، أيُمكن أن أُقدّم شيئاً أمامَ هذه الإخفاقاتِ العظيمة في كثيرٍ من مجالاتِ الحياة؟!) . فنقولُ له أيضاً: نعم؛ يمكن أن تقدّم شيئاً، وإنَّ من أوّل ما عليك أن تقدّمه هو أن تنسلِخَ من هذه النفسيّة المُحطّمة، وتلكَ الرّوحِ اليائِسة، فإنَّ من صَدَقَ مع الله صَدَقَ الله معه، ولن يتخلّف وعدُ الله ـ تعالى ـ الذي حكاهُ في آخرِ سورة العنكبوت فقال: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} [العنكبوت: ٦٩] .

فإلى البذلِ والبِناء أيُّها المسلمون!

لِيَعمل الأفرادُ والجماعات، ولتبذُل المُؤسّساتُ والهيئات.

وليذهب كلٌّ إلى ما يُتقنُهُ ويُبْدِعُ فيه.

وليكُن القاسِمُ المُشترك بيننا هو خِدمةُ هذا الدين، ومحبّةُ النفعِ للعالمين.

ولنتعاون فيما بيننا ما دُمنا منطلقينَ من أُصولٍ واحدة. وصادرينَ عن مرجعيّةٍ شرعيّةٍ ثابتة، ومتفقينَ على خُطوطٍ واضِحةٍ لا لبسَ فيها ولا غُموض.

ومن لا يملكُ مدَّ يدِ العون فليكُفّ يدَ الهدم.

ومن لا يُتقِنُ التشجيعَ والتَّصويب فليَقْصُر عن بغيضِ التشويهِ والتثريب.


(١) أخرج تلك القصة الإمام مُسلم في صحيحه: كتاب الزُّهد، رقم (٧٤٣٦) .
(١) أخرجه البخاري في صحيحه: كتاب الطّب، رقم (٥٧٠٥) . وأخرجه مُسلم في صحيحه: كتاب الإيمان، رقم (٥٢٦) .