للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

الجزائر:

الحوار بعد خراب الديار

د. عبد الله عمر سلطان

وأخيراً وبعد ثلاث سنوات من القمع والمعالجة الأمنية والنظرة الأحادية التي

لا ينقصها قصر النظر الحاد، استجابت المجموعة العسكرية في الجزائر لنداء

المنطق والعقل، وأيضاً لنداءات الأصدقاء الأجانب وقررت أن تجلس مع ممثلي

الشعب الجزائري الحقيقيين وقادة الأمة الذين غُيبوا في غياهب السجون بعد اجراء

أول اختبار حقيقي في عالمنا العربي انتهى بالنتيجة المتوقعة: هزيمة ساحقة

للمترهلين من قادة التحرير وصعود ملفت للنظر للدعاة المصابرين.

لقد قام الرئيس الجزائري الأمين زروال بخطوته هذه بعد وصول الأوضاع

في الجزائر إلى حافة الهاوية في ظل رفض الجنرالات المتشددين الحل السلمي

وإصرارهم على تصفية المقاومة الشعبية حتى آخر نفس جزائرية حرة لقد حاول

الأمين زروال في بداية وصوله إلى السلطة أن يبدأ حواراً حقيقياً يعيد الاستقرار إلى

البلاد، وجاءت خطواته المتمثلة باتفاق مبدئي مع شيوخ الإنقاذ حينها على

التحضير لجولة حوار يبدأ بإطلاق الشيخين بوخمخم وجدي ثم الإفراج عن بقية

قيادة الجبهة والدخول في حوار ينهي المأزق الجزائري الراهن، لكن أنّى لفرنسا

وقطيعها المربوط بها بحبل سري أن يرضوا بحل كهذا يعيد الأوضاع إلى أطرها

الطبيعية ويعيد المياه إلى مجاريها؟ !

لقد شن علي كافي (هل لازلتم تذكرون هذا النكرة؟) وكان رئيساً للوزراء

ويمثل التيس المستعار الذي كان يختبئ وراءه جنرالات فرنسا حملة ضد رئيسه،

وحذر من الحوار، وطالب بدلاً من ذلك بحماية العلمانية الجزائرية وحرية

الإنفاصليين البربر وحفنة الشيوعيين المحنطين، لأن هذا الخليط الممزوج بالتوابل

الفرنسية يمثل النخبة التي لا ترى بأساً من وصول الحرب الأهلية في الجزائر إلى

تدمير الحاضر والمستقبل..!

وأخذ العسكر المتشددون المبادرة وراحوا يضيقون الخناق على دعاة الحوار

داخل أجهزة الدولة بصورة تشبه أعراض مرضى التوحد، وإن المصابين بهذا

المرض الخطير لا يعانون من انفصام الشخصية، حيث تظهر لهم شخصية سوية

وأخرى مجنونة، لأن هؤلاء لا يعرفون سوى شخصية واحدة هي شخصية تعيش

في عالم منفصل عن عالم بني البشر و (الأوادم) ، وتنسحب من خضم الحياة

اليومية، وتقطع كل اتصال لها به، وتوجد عالماً خاصاً بها لا يصيخ السمع لأحد،

ولا يرد النداء حتى لأبسط النداءات وأكثرها إخلاصاً وقرباً.

وجنرالات التصعيد الأمني كانوا يعيشون عالم التوحد الأمني الذي يمنى

المصابون به بقرب تطهير الجزائر من آخر مظهر إسلامي، بل حتى عروبي

ليصدح الفرانكفونيون بأناشيدهم الفرنسية المخلوطة باللغة الأماغيزية!

لكن هل نجح منطق الجنرالات المختبئين وراء قناع السلاحف والذين أسالوا

دماء الشعب الجزائري أنهاراً؟

وكيل وزير الخارجية الأمريكية زار باريس في بداية هذا الصيف واجتمع

بمندوبي الصحافة والمحللين للوضع الجزائري، وأشار إلى أن الجيش الجزائري

أصبح من الضعف بمكان بحيث أن المستقبل يحمل بالنسبة لإدارته حلين لا ثالث

لهما: إما الوصول إلى وضع كالوضع في يوغسلافيا حيث ستوجد ثلاث دول

متناحرة على الأقل، أو أن يصل الإسلاميون إلى السلطة بقوة السلاح، وقد كان

هذا التصريح بمثابة استكمال للصراع العلني بين واشنطن وباريس، واشنطن التي

ترى أن تتعامل مع الواقع وتنظر إلى موطئ قدم جديد في الجزائر التي عافت

التدخل الفرنسي المستفز، وفرنسا المثقلة بالحقد الصليبي وثارات معركة الجزائر،

وانحسار رموزها ورجالاتها وثقافتها في ساحة الصراع الحر العلني الذي أكد

الجزائريون أن خيارهم فيه هو الإسلام.

ولم تكن أمريكا وحدها تقف هذا الموقف، بل إن إيطاليا وألمانيا وحتى الأسد

الإستعماري (بريطانيا) رفضت الوصاية الفرنسية على تعاطيها ومعالجاتها للملف

الجزائري، وأكدت أن الحل هو عودة الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى الواجهة لأنها

(رغم كل الحقد والمشاعر السلبية) وحدها القادرة على أن تعيد الاستقرار والأمن

المطلوبين لهذه البقعة المضطربة.

لقد أخرجت مجلة الإكنومست ملفاً في بداية شهر أغسطس الماضي تتحدث فيه

عن معركة يمكن تجنبها بين الإسلام والغرب، وكان سبب إخراج هذا الملف إلى

النور كما يقول المحرر توقع استلام الإسلاميين السلطة في الجزائر، مما يعني أن

على الغرب أن يعيد النظر في تعاطيه وتعامله مع هذه الحركة السنية التي أعادت

الإسلام إلى الواجهة عقيدة وحيدة في عالم اليوم تعطي منهجية متكاملة للإنسان في

حياته اليومية، ومنافساً وحيداً للحضارة الغربية وإفرازاتها.

إن هذه الخطوة المتوقعة منذ زمن قد تكون الفرصة الأخيرة أمام الحكم

الجزائري لإنقاذ البلاد من الأزمة الراهنة، وإن استجابة قادة الإنقاذ وشروطهم

العادلة التي حملتها رسالة الشيخين مدني وبلحاج تدلان على حرص الإسلاميين على

إنقاذ الوضع والخروج بحل يكفل إنهاء الأزمة، لكن ما لم يقترن هذا الإفراج

المؤقت بتغيير في أسلوب وعقلية السلطة خلف القناع العسكري، فإن جولات

الحوار قد لا تكون سوى سراب وبخاصة، إذا صدق توقع المسؤول الأمريكي أو

نفذ المتشددون في السلطة بعض ماضيهم التسلطي تجاه قيادات الجبهة لتصفية

رموزها، وعندها يمكن أن نقول إن الحوار هو ستار لخراب الديار.. وإحلال

الدمار الذي لازال ينهش التراب الجزائري..! !