وقفات
[نحن والغرب]
أحمد بن عبد الرحمن الصويان
علاقة الأمة الإسلامية بالحضارة الغربية المعاصرة لها جذور تاريخية عريقة
ممتدة منذ فجر الإسلام، وقد أخذ الصراع بين الأمتين في هذا العصر مناحي
ومجالات متعددة.
وتواجه الأمة الإسلامية تحدياً حضارياً وعقدياً كبيراً؛ فالحضارة الغربية
امتدت بأذرعها المختلفة ساعية لابتلاع الأمم والحضارات الأخرى، وتدمير كافة
البنى الثقافية والفكرية والاجتماعية، وانطلقت بطوفان جارف من التغريب يتخطف
كافة الشعوب والأمم التي أصبح كثير منها يركع إثر انهيار مقاومته الفكرية..!
ولكن هل استطعنا أن نفهم الغرب حقاً وندرك كيف يفكر؟ ! وكيف ينظر
إلينا؟ وهل استطعنا أن نفهم الواقع الغربي فهماً حقيقياً، ونحلل مواطن القوة
والضعف فيه؟ !
إن الشجب والذم المطلق هو الأسلوب الوحيد والدائم عند طائفة من الناس في
فهم الغرب والتفاهم معه؛ فهم لا ينظرون إلى الواقع الغربي مثلاً إلا من خلال
التصدع الاجتماعي وغياب دور الأسرة، وانتشار المخدرات، والشذوذ والإيدز
والأمراض الجنسية!
وحتى في هذا الجانب ربما تطغى السطحية في تلمُّس السلبيات والأمراض
التي يعاني منها الغرب؛ فقد يغفل الكثيرون عن الطبقية الاقتصادية الضاربة
بأطنابها في أعماق الغرب، والتي ولَّدت الظلم الاجتماعي، واستغلال الرأسماليين
لحقوق العامة والطبقات المستضعفة، وقد يغفل الكثيرون عن الديون الهائلة التي
تُثقل كاهل الخزانة الأمريكية والبالغة أكثر من ثلاثة تريليونات دولار. كما يغفل
بعضنا عن التنافر العرقي الذي يطغى على التركيبة السكانية في الولايات المتحدة
الأمريكية مثلاً، وينذر بانفجار يصدِّع أركانها. ويغفل آخرون عن الهُلامية
الديمقراطية التي يغلِّف الغرب بها نفسه بأغلفة برَّاقة، وفي داخلها من التصدُّع ما
الله به عليم؛ فصُنَّاع الرأي وأباطرة الإعلام هم الذين يشكِّلون العقول، ويصنعون
القناعات والمواقف، ويوجهون الرأي العام من حيث يشعر أو لا يشعر ... إلى
أمثلة كثيرة من الأمراض الغربية التي تنخر بناءه الحضاري من الداخل.
وفي المقابل فإن الاغترار والإعجاب المطلق هو الأسلوب الوحيد عند طائفة
أخرى من الناس في فَهْم الغرب ودراسة حضارته؛ فهُم لا يرون في الغرب إلا
تقدُّمَه التقني والتجريبي في كافة العلوم التطبيقية، ويغفلون عن جوانب أخرى
إيجابية تستحق الرصد والمتابعة لاستثمارها والاستفادة منها، مثل: تأسيس قواعده
الحضارية من حيث الجملة على أسس علمية بعيدة عن المحاباة أو المجاملة،
والتزامه بالعقلية المؤسسية التي لا ترتبط ارتباطاً تاماً بالأفراد؛ بل تعتمد على
الأنظمة والسياسات العامة، ومثل: سيادة الدستور والقانون بغضِّ النظر عن صحة
ذلك القانون أو الدستور على كافة الجوانب الحياتية، والتزام كافة الطبقات السياسية
والفكرية والاجتماعية به، ومثل: الالتزام بالقواعد الإدارية والأصول التنظيمية
التي تحكم كافة المناشط الحياتية ... إلى جوانب أخرى عديدة من جوانب التقدم
والتفوق.
وهذان الأسلوبان السطحيان المتباينان سيؤديان حتماً إلى خلل وقصور
واضطراب في الفهم؛ لأن كلتا الطائفتين ستبقيان مطوقتين بهذه الرؤية الجزئية
المحدودة.
إن فهم الواقع الغربي ورؤيته برؤية عميقة ناضجة من الداخل باب رئيس من
أبواب المواجهة القادمة معه، بل من أبواب التغيير في واقعنا إذا أخذنا في الاعتبار
تأثر كثير من المتنفذين في بلادنا الإسلامية بالغرب. ولن نستطيع مدافعة الغرب
ومنازلته ثم اختراقه ما لم نقرأ واقعه قراءة شاملة ودقيقة وأمينة، وما لم نتعرف
عليه التعرف الصحيح الذي يضع الأمور في نصابها وحجمها الصحيح؛ وإنه لمن
الخطر البالغ أن ننظر إلى الواقع الغربي ببدائية تفتقر إلى أيسر الأسس العلمية في
المواجهة والمدافعة، ونحن نقرأ قول الله تعالى: [وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ
سَبِيلُ المُجْرِمِينَ] (الأنعام: ٥٥) .
وإصلاح الوضع الداخلي للأمة الإسلامية لن يكون بمعزل عن تفهُّم الواقع
العالمي بكل أبعاده؛ فقد تداخلت الحضارات، وتشابكت الأمم، وأصبحنا نعيش
وضعاً كونياً جديداً لم يمر مثله على الناس في العقود الماضية.
وتفهُّم الواقع الغربي خصوصاً، والواقع العالمي عموماً لن يحيط به رجل
واحد من خلال زيارة عابرة لبعض الدول، بل يتطلب رصداً دقيقا لمنطلقات الغرب
وأهدافه والمؤثرات عليه، ويتطلب رصداً لتطور كافة الوقائع والمتغيرات، وهذا
بالطبع لن يكون إلا من خلال جهود متكاملة لعدد من المهتمين والمتخصصين،
للتحليل والدراسة واستشراف آفاق المستقبل، وتوظيف شبكات الاتصال
والمعلومات في تحقيق المصالح الإسلامية.
إننا في حاجة إلى مراكز علمية متخصصة في هذا الشأن، لكن المشكلة أن
كثيراً من الناس حتى من بعض النخب الدعوية ربما لا تحفل بمثل هذا العمل؛
لأنهم تعوَّدوا على العناية بالنشاط العاطفي، والتقليل من شأن النشاط الفكري،
وغلَّبوا النظر إلى النتائج العاجلة القريبة على النتائج الآجلة البعيدة؛ على الرغم من
التلازم الوثيق بين الأمرين.