للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

منتدى القراء

الاعتذار من العلم! !

جمال الحوشبي

مع كل يوم تشرق شمسه.. تقذف المطابع بالآف الكتب والرسائل العلمية التي

تُعنى بقضية (الردود) بين العلماء، أو قضية (النقد) للأطروحات أو المطبوعات،

طمعاً في التعديل أو التبديل.

كل ذلك أضحى سمة من سمات العصر اكتسحت الساحة الإسلامية كغيرها من

القضايا، وأخذت هذه الردود بالفعل (حيزاً) لابأس به من المكتبة الإسلامية الخاصة

لدى كثير من الأفراد.

لم تعد وسائل نشر تلك الردود هي الأوراق، فقد تعدت ذلك النطاق إلى

وسائل أخرى مسموعة ومرئية، وحتى نتبين حقيقة الأمر علينا أن نرجع قليلاً إلى

الوراء!

لقد مر على الأمة الإسلامية حقبة من الزمن ليست بالبعيدة كان الفقه فيها

أحكاماً بلا أدلة، والفقيه راوية بلا اجتهاد، والنحوي حافظاً بلا ملكة، كل ذلك

يسير في رتابة عجيبة لم تتبدل، وعلى طريقة شوهت صفاء الشريعة ونقائها ولما

أراد الله أن تعود للشريعة مكانتها، ويعود الفقه الإسلامي دفاقاً زاخراً متحرراً من

ربقة (التعصب) المذهبي والجمود الذي قضى على روح البحث والاجتهاد يُسرَ

سبيل مثل تلك الردود العلمية المجرّدة من الهوى، ومثل ذلك النقد الهادف بين

العلماء. إن التجّرد (للحق) لا للأشخاص والدعوة إلى نبع الكتاب والسنة ونبذ ما

خالفهما هي السمة التي يجب أن تُصبغ بها تلك الردود.

واليوم وفي غمرة انشغال بعضهم بمثل هذه الردود التي أخذت تطفو على

السطح أكثر من أي وقت مضى، تبقى الحاجة ماسة إلى التذكير بضوابط مثل تلك

الردود والانتقادات.

إن من أهم تلك الضوابط وأولاها بالطّرْق والتذكير قضية التأدب مع العلماء

المجتهدين والدعاة المخلصين من أهل السنة في شتى بقاع الأرض وتتأكد أهمية تلك

القضية إذا علمنا أن بعض القضايا قد يتصدى لها من لا يحسنها، كما أن الأمر قد

يوسد أحياناً إلى غير أهله! ! وقبل هذا وذاك الحذر من خطرات النفس والهوى

وتزيين الشيطان وحزبه، فإنهما يؤديان إلى تزييف الحقائق، وإلى اتهام النوايا

بغير برهان!

لقد زاد من غربة العمل الإسلامي اليوم فئام من الناس مادت بهم سفينة العمل

الإسلامي، وهم مع من يدّعون الإصلاح: يقولون ما لا يعملون ويعملون ما لا

يحسنون، يرصدون الزلة، ولا يبصرون شوامخ الصواب ويتتبعون الهفوة، ولا

يرجون لمجتهد ثواباً! ؟

إنه وإن ولى زمان كان يُستحى فيه من الجهل، فقد أطل زمان احتاج فيه

علماؤه ودعاته إلى أن يعتذروا مما عندهم من العلم إذا قاموا بحقه واجتهدوا في

نشره وتبليغه للناس، كل ذلك حتى لا تتهم النوايا، ولا تحمل على غير محاملها

الطوايا! وكأني بهم يرددون مقالة عبد الله بن مسلم بن قتيبة لمّا أخرج كتاباً استدرك

فيه على (أستاذه) أبي عبيد القاسم بن سلام أسماه (إصلاح الغلط في غريب الحديث

لأبي عبيد) ، فقال رحمه الله بعد أن كثر عاذلوه وتصدى له شانئوه ومبغضوه من

جملة ما قاله:

« ... وقد كنا زماناً نعتذر من الجهل، فقد صرنا الآن نحتاج إلى الاعتذار

من العلم، وكنا نؤمل شكر الناس بالتنبيه والدلالة، فصرنا نرضى بالسلامة،

وليس هذا بعجيب مع انقلاب الأحوال، ولا ينكر مع تغير الزمان وفي الله خلف

وهو المستعان» ، إنه لسان حال كثير من دعاة الإسلام وعلمائه في ظل تكالب

الأعداء، وكيد الحساد، وظلم ذوي القربى، وتواطؤ السواد على الصمت والرضى

بالسلامة، ونقل الأخبار من غير توثيق أو تمحيص.

أناس أمِنّاهم فبثوا حديثنا ... فلما قصرنا السير عنهم تقوّلوا