مقال
في الصراع الفكري
ملاحظات على معركة حسن حنفي
وجبهة علماء الأزهر
بقلم: جمال سلطان
على طريقة المسلسلات التلفزيونية السمجة والمملة، ظهرت حلقة جديدة من
تمثيلية المفكرين الأحرار المضطهدين في مصر، من قِبَلِ الإسلاميين المتطرفين،
وكانت الحلقة الجديدة، هي تلك المتعلقة بحادثة الدكتور (حسن حنفي) ، أستاذ
الفلسفة في جامعة القاهرة. وحاصل (السيناريو) : أن الدكتور (يحيى إسماعيل) ،
الأستاذ بجامعة الأزهر، والأمين العام لجبهة علماء الأزهر نشر مقالاً سماه (بياناً)
يهاجم فيه أفكار الدكتور (حسن حنفي) ، ويصفها بأنها أفكار تدميرية، ولكن المقالة
التي سلمها للصحيفة التي قامت بنشرها، كانت مكتوبة على أوراق خاصة بجبهة
علماء الأزهر، وقد ختمها الرجل بوصفه الأمين العام لجبهة علماء الأزهر، وهنا
قامت الدنيا ولم تقعد بعد: هجوماً على الأزهر وجبهة علماء الأزهر، وعلى
الإسلاميين سلفاً وخلفاً، وتحدثت هذه الحملات عن دعوى (تكفير حسن حنفي) ،
وأن (جبهة علماء الأزهر) هي مجرد واجهة لتنظيمات إسلامية غير مشروعة،
ونحو ذلك من طلقات طائشة كثيرة، يصعب إحصاؤها، مما نشر في الصحافة
المصرية والعربية خارج (مصر) ، ولم يشفع للدكتور (يحيى إسماعيل) ما أعلنه
مراراً من أنه لا يكفر (حسن حنفي) وإنما هو يفضح ما يراه انحرافاً فكرياً في كتبه
ومقالاته، كما لم ينفع البيان الذي أصدره رئيس جبهة علماء الأزهر الشيخ (محمد
عبد المنعم البري) ، الذي أعلن فيه أن ما سمي ببيان من جبهة علماء الأزهر ضد
(حسن حنفي) ، ما هو إلا مقال للدكتور (يحيى إسماعيل) يعبر عن اجتهاده ورؤيته
ولا يعبر بالضرورة عن جبهة علماء الأزهر؛ وذلك أن هناك الآن في (مصر) وفي
بعض العواصم العربية ميليشيات ثقافية وإعلامية علمانية مدربة تدريباً عالياً على
صناعة الفتنة، وافتعال المعارك الثقافية، واصطناع وسائل التشويش والتشويه
للفكر الإسلامي ودعائمه ورموزه السياسية والثقافية والدينية، وما إن تصدر طلقة
الإعلان عن بدء الموقعة، حتى تجد هذه الميليشيات تتحرك بصخب واسع،
وتنسيق بديع، مما يحدث دوامة ثقافية وإعلامية تضيع فيها حقائق المواقف،
وتضل فيها العقول والأفهام، خاصة لمن لا يدري خلفيات الأمور وآليات عمل هذه
الميليشيات، وهذا ما حدث مع قضية (حسن حنفي) ، وما حدث من قبله مع
(نصر أبو زيد) ، وما سوف يقع غداً في تمثيلية جديدة آتية لا محالة.
ولكن واقعة الدكتور (حسن حنفي) تكشف لنا عن غفلة كبيرة في الساحة
الإسلامية في مقابل الوعي الكبير للعلمانيين بطبيعة المعركة التاريخية، والفاصلة
اليوم بين الإسلام والمناهج الوافدة؛ وذلك أن هناك قطاعاً من الدعاة لا ينتبه إلى
حساسيات الصراع الفكري ومستوياته وموازناته، وكذلك أولويات المواجهة،
وبالتالي؛ يحدث كثيراً أن يخسر الدعاة معارك مهمة كان بمقدورهم أن يكسبوها
بيسر بالغ، لو فهموا خلفيات المواقف الفكرية، ولم يتوقفوا عند السطح الظاهر،
ولو أدركوا تناقضات الأفكار والنفوس في المعسكر العلماني، وفي مشكلة (حسن
حنفي) تجلت هذه المسألة بشكل واضح؛ والحقيقة أن إثارة معركة مع (حسن حنفي)
في هذا الوقت، لم يكن له ما يسوِّغه أبداً، ومن أي وجه من الوجوه؛ فالأخطاء
العقدية والفكرية عند الرجل، قديمة، وليست جديدة، والكتب المشار إليها صدرت
قبل سنوات، ومرت دون أن يشعر بها أحد، كذلك فإن أسلوب (حسن حنفي)
المسهب والمطنب في التأليف يجعل القارئ غير المتخصص زاهداً في قراءته،
ولذلك لم يشعر أحد بأي خطر فكري لـ (حسن حنفي) يستحق هذه الضجة الكبرى،
إلا بعد البيان الذي نشره الدكتور (يحيى إسماعيل) ، وأنا شخصياً كتبت منذ سنوات
نقداً لبعض آراء (حسن حنفي) ، ونشرت ذلك النقد في بعض كتبي، ومرّ النقد كما
مرّ كلامه هو نفسه، دون أن يثير الكثير من الانتباه، ولو استقبلت من أمري ما
استدبرت لما فعلت ذلك، فلماذا إذن ننشط الآن لإحياء وترويج الفكر المنحرف
المهمل والمنسي ونجذب الانتباه إليه بدعوى الرد عليه؟ ! كذلك فإن الدكتور (حسن
حنفي) يمثل هذه الأيام شرخاً نفسياً عميقاً في معسكر العلمانية؛ وذلك أن حرصه
على أن يقدم نفسه بوصفه مفكراً إسلامياً متحرراً ومستنيراً ونصيراً للمستضعفين،
جعله يهاجم بقوة وجرأة الأقلام والرموز العلمانية المتحالفة مع الفساد، التي لا
تتوقف عن التخويف من الإسلاميين، وإغراء السلطة بهم، ويصف هذه الرموز
العلمانية من اليمين واليسار بالانتهازية والظلامية، وأنها مجرد واجهات للقمع
الثقافي والسياسي الذي تتعرض له الصحوة الإسلامية، في الوقت نفسه الذي
يتعاطف فيه بوضوح مع الحركات الإسلامية سياسياً ونفسياً وإن كان يختلف معها
بطبيعة الحال فكرياً، وقد شهدت بنفسي مواجهة مثيرة بين (حسن حنفي) وبعض
أقطاب العلمانية في (مصر) ، في إحدى ندوات معرض القاهرة الدولي للكتاب،
الذي انعقد في شهر يناير الماضي (كانون الثاني ١٩٩٧م) ، وقذف الرجل في
وجوههم اتهامات دامغة وخطيرة، ودافع عن الإسلاميين ووجودهم وحقهم المشروع
في الوجود الثقافي والسياسي، حتى إنني لما جاء دوري للكلام أثنيت على الرجل
وحييت شجاعته لدرجة أن الشاعر المصري (أحمد عبد المعطي حجازي) وهو من
رموز العلمانية قاطعني بتشنج واتهمني بمحاباة (حسن حنفي) لأنه يحابي الإسلاميين!
ولقد حرصت على مقابلة (حسن حنفي) وتحاورت معه، واستمعت إليه أكثر
مما تحدثت، حيث وجدته شخصية قلقة، ومترددة، ومتعاطفة إلى أبعد مدى مع
الإسلاميين، وكنت أدرك من خلال دراستي لبعض كتبه أن قناعات الرجل الفكرية
والاعتقادية في قضايا الدين بوجه عام مادية، والإيمان بالغيب عنده مسألة فيها نظر!، وهو متأثر كثيراً بالفيلسوف اليهودي الشهير (باروخ اسبينوزا) ، وبتجربة ما
يسمى (لاهوت التحرر) في نضال شعوب أمريكا اللاتينية، حيث تحالفت الكنيسة
مع الحركات الماركسية، وهو ينظر من هذه الناحية إلى الصحوة الإسلامية والفكر
الديني كمجرد أدوات للنضال الوطني، وحشد طاقات الشعوب، والماركسية هي
قاعدة التفكير عنده، ولذلك تجده يتحاشى المواجهات الفكرية مع المفكرين
الإسلاميين، ويتجنب طرح قضايا الاعتقاد في الندوات العامة، بل إن تأثير (حسن
حنفي) على طلابه في الجامعة محدود جداً ولايكاد يذكر، على غير عادة أمثاله من
أصحاب الأفكار اللادينية، وذلك أن مشروع (حسن حنفي) هو سياسي اجتماعي
بالدرجة الأولى والأساس، ولذلك تجنب ورفض حتى الآن قبول دعوة مناظرة
الدكتور (يحيى إسماعيل) ، وذلك أن أفكاره هي مما لا يصمد طويلاً في ساحة النقد
العلمي الإسلامي، وهذا ما يدركه هو نفسه قبل غيره.
وسط هذه الأجواء، وبهذه الخلفيات، يبدو لي أن إثارة معركة (عقائدية) مع
(حسن حنفي) دون غيره من عشرات العلمانيين الأكثر غلظة وبشاعة وسفاهة،
تمثل نوعاً من سوء التقدير غير المسوّغ، وغير المفهوم؛ والمثير للدهشة أن
هؤلاء العلمانيين الذين يكرهون (حسن حنفي) من صميم قلوبهم ويحاصرونه
ويحاربونه، هم الذين يتاجرون الآن بقضيته، ويتقدمون بوصفهم كتائب المدافعين
عنه ضد الأصوليين والمتطرفين!
إن الصراع الفكري، مثل الصراع السياسي أو العسكري، يحتاج إلى فنون
خاصة في إدارة معاركه، وليس يكفي أن تكون صاحب الحق حتى تنتصر، وإنما
يحتاج الحق إلى حكمة وتخطيط وذكاء ووعي بالواقع، واقع الناس وواقع الصراع
فيه، وبدون ذلك فإننا مهما أخلصنا نكون قد أسأنا إلى الحق وأهله.