[التغيير ابدأ بنفسك]
د. محمد بن عبد العزيز الشريم
يستسلم كثير من الناس عندما تواجههم مشكلات أو ظروف صعبة يعجزون عن التغلب عليها، فيقفون مكتوفي الأيدي حيالها. الأمر الأخطر من ذلك الموقف السلبي أن يظن الشخص أن هذا الاستسلام يعني تسليمه لقضاء الله وقدره، مع أن بين الأمرين اختلافاً كبيراً جداً؛ إذ إن الاستسلام يعني التوقف عن العمل وترك الأخذ بالأسباب الكونية التي جعلها الله ـ تعالى ـ علاجاً لمواجهة مثل هذه المشكلات. وأحياناً يعني الاستسلام عندهم عدم البحث عن تلك الأسباب. أما التسليم فيعني الرضا بما كتبه الله ـ تعالى ـ بعد استنفاد الوسع وبذل الجهد في البحث عن أسباب المشكلة وطرق علاجها، ومن ثم العمل بها على الوجه الصحيح.
يقول الله ـ تعالى ـ في كتابه العزيز: {إنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد: ١١] . وهذه الآية الكريمة مليئة بالفوائد التي لا غنى عنها في صناعة التغيير. ومن أهم تلك الفوائد أن يراجع الإنسان نفسه وعلاقته مع خالقه، ويبتعد عن أسباب محق البركة. إلا أن هناك فائدة يمكن استنباطها من تلك الآية، ألا وهي أن أحوالنا اليومية لن تتغير أو تتحسن حتى نبادر نحن بتغيير أنفسنا. ومن أهم نقاط التغيير المثمر أن يغيّر الإنسان نظرته السلبية إلى واقعه حتى يمكنه التعامل معه بإيجابية تمكنه من مواجهة مشكلاته والتغلب عليها.
لقد نظمت الخنساء ـ رضي الله عنها ـ قصائد من أجمل ما قيل في الرثاء بعد مقتل أخيها صخر في الجاهلية، ولكنها بعد أن أسلمت لم تقل بيتاً واحداً في رثاء أحد من أبنائها الأربعة عندما أتاها نبأ مقتلهم جميعاً، بل احتسبت شهادتهم عند الله. ومعلوم أن الولد أعز من الأخ، خاصة بعدما كبرت الخنساء في السن وضعفت وازدادت حاجتها لمساندة أبنائها. فما الذي تغير؟! لقد علّم الإسلام الخنساء معنى آخر للموت والحياة، ومعنى آخر للفقد والكسب؛ ولذلك فإن نظرتها الجديدة لموت المقربين لها ساعدتها على التعامل مع الموقف نفسه بإيجابية عالية، بدلاً من السلبية التي أظهرتها زمن الجاهلية في رثاء صخر بلا فائدة.
- النظرة الإيجابية:
في كثير من الأحيان تواجهنا مشكلات عويصة بالفعل أو أوضاع صعبة جداً، ولكننا يجب علينا ألا نجعل من تلك المشكلات التي لا نستطيع حلها عوائق (نفسية أو مادية) تمنعنا من النظر بإيجابية لواقعنا. فأحياناً يكون حل المشكلة أمام أعيننا ولكننا بحاجة للالتفات يمنة أو يسرة حتى نضع أبصارنا عليه ونراه حلاً للمشكلة التي تشغل أذهاننا.
تلقَّى أحد الفنادق العريقة شكاوى متعددة من النزلاء بأن المصاعد تستغرق وقتاً طويلاً جداً حتى تصل إلى النزيل بعد طلبها. أحال المسؤولون في الفندق هذه المشكلة إلى شركة هندسية متخصصة لإعداد تقييم لأداء المصاعد وتقديم مقترح لعلاج مشكلة بطء وصولها. جاء في تقرير مهندسي الشركة أن المصاعد قديمة ولم تعد مناسبة للعمل بشكل يتوافق مع معايير الأداء في مثل هذا المبنى، ولذلك يجب تغييرها لتجاوز مشكلة الشكاوى المتكررة من النزلاء. بلغ تقدير التكلفة الأولى لإزالة المصاعد القديمة وتركيب أخرى حديثة مئات الألوف من الدولارات، ولذلك ترددت إدارة الفندق في اعتماد التغيير.
عُرِض الأمر على أحد المتخصصين في حل المشكلات الإدارية واتخاذ القرارات الاستراتيجية، فقدم مقترحاً لحل المشكلة لم تتجاوز كلفته بضع مئات من الدولارات. لم ينظر الخبير إلى المشكلة من الزاوية نفسها التي نقلها إليه المسؤولون في الفندق، وهي بطء وصول المصاعد إلى النزلاء عندما يطلبونها، ولكنه نظر إليها من زاوية مختلفة، ألا وهي تقدير الوقت في أذهان النزلاء؛ ولذلك فكر في حيلة يقضي بها على شعورهم بطول وقت الانتظار. ولذلك كان الحل الذي اقترحه الخبير في غاية البساطة، ألا وهو تركيب مرآة بطول الإنسان أمام بهو المصاعد في كل دور. قامت إدارة الفندق فعلاً بتركيب تلك المرايا وتناقصت الشكاوى بشكل ملحوظ بعد ذلك؛ لأن النزلاء كانوا يمضون وقت الانتظار بين طلب المصعد ووصوله إليهم في الاعتناء بمظهرهم وتعديل هندامهم، فلا يشعرون بطول الوقت حتى يكون المصعد قد وصل إليهم.
وكان (إيرل ديكسن) يعمل في شركة جونسون آند جونسون (أكبر مُصنِّع للأشرطة الطبية اللاصقة في أمريكا) ، وكانت زوجته كثيراً ما تجرح يدها أثناء عملها في المطبخ، وكان يباشر علاجها بنفسه، وذلك بوضع قطعة من الشاش على مكان الجرح ويمسكها حتى يتمكن من تثبيتها باللاصق الطبي فوقها. فكر ديكسن في طريقة يمكن لزوجته أن تضع الضمادة على الجرح بنفسها في غيابه. أخذ قطعة من الشاش ووضعها في وسط اللاصق، ولكنه خشي إن تركها أن تجف ولا يمكن لصقها. بحث (ديكسن) حتى وجد قماشاً أملس يمكن لصق الضمادة الجديدة عليه؛ بحيث يسهل على زوجته نزعها عند الحاجة ووضعها على الجرح بمفردها. عرض (ديكسن) فكرته على شركته فأعجب المسؤولون بها وتبنوا تصنيعها على نطاق تجاري كما نرى اليوم؛ حيث لا يكاد يخلو منزل في العالم من تلك اللواصق.
- لماذا لا نغير نظرتنا للمشكلة؟
كثيراً ما يفيد النظر إلى المشكلة من زاوية مختلفة في تقديم حلول مبتكرة وسهلة واقتصادية، لكن العقل البشري يميل إلى مقاومة البحث عن أسباب أخرى يفسر بها المشكلة التي تواجهه؛ وذلك بسبب الانغماس في المشكلة وعدم القدرة على النظر إليها من زوايا متعددة يحتمل أن يكون الحل في إحداها. بل إن بعض المشكلات ـ في ظاهرها ـ ليست مشكلات في الحقيقة لو نظرنا إليها من زاوية مختلفة. وأحياناً قد ينظر أحدنا إلى أمر ما على أنه فشل، ولكنه في حقيقته يحمل بذور النجاح، ولكن بشكل مختلف. ولعل هذا يتوافق مع قوله ـ تعالى ـ: {فَعَسَى أَن تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا} . [النساء: ١٩]
يعاني كثير من الناس من أزمة الاستغراق في المشكلات التي تواجههم. بعضهم لا يجيد سوى التذمر والشكوى، وآخرون يواجهون مشكلاتهم بإلقاء اللوم على الآخرين. هذان الأسلوبان، وغيرهما كثير، يبدوان للنفس مخارج هروب بدلاً من مواجهة المشكلة، ولذلك قد يشعر الشخص أحياناً بشيء من الارتياح عندما يتصرف بإحدى الطريقتين. السبب في ذلك أن الشخص عند لجوئه لهذه المخارج الانهزامية يبرر لنفسه تقاعسها عن مواجهة المشكلة. هذا الارتياح الجزئي يعمل مثل المخدر الذي يعوق الدافعية نحو حل المشكلة.
في كثير من الأحيان تكون المشكلة وحلها معتمدين على النظرة التي يحملها الشخص تجاه تلك المشكلة؛ فإذا نجح في تكوين صورة متكاملة وواضحة عن المشكلة أمكنه بعون الله حلها. ومن ذلك ما تقدم به أحد العاملين في شركة تصنيع مواد لاصقة (مثل الغراء والصمغ) ، فعندما جرب أحد منتجاتها على الورق كان لا يلتصق بدرجة كافية؛ لأنه لا يجف، بل كان سهل النزع، وعندما يعاد الضغط عليه يلتصق ولكنه يسهل نزعه مرة أخرى. كانت المشكلة ـ وفق النظرة الأولى ـ أن هذا اللاصق الجديد منتج فاشل؛ حيث إن المتوقع من أي مادة لاصقة أنها تثبت ولا يمكن نزعها بسهولة بعد جفافها. وبدلاً من أن يرى هذا الشخص أن ضعف الالتصاق فشل، نظر إليه من زاوية مختلفة، وقدم لذلك المنتج الفاشل استخداماً لم يكن يخطر في بال أحد من الذين يعملون في المصنع حينئذ، ألا وهو المذكرات التي تلصق بالأوراق دون الحاجة إلى تثبيتها بدبابيس أو مشابك ورق، إضافة إلى أنها لا تترك أثراً على الأوراق الأصلية، ويمكن نزعها بسهولة. وهذه هي الأوراق الصفراء المعروفة في السوق باسم Post-it)) التي لا يستغنى عنها أثناء القيام بالأعمال المكتبية.
- كيف نغير نظرتنا للمشكلة؟
تغيير النظرة للمشكلة بنجاح يتضمن ثلاثة أمور: أولها: فهم حقيقة المشكلة نفسها، والثاني: القدرة على التخلص من القيود التي تمنع العقل من النظر من زوايا مختلفة. والثالث: اقتناص حل لمشكلة لم تكن حاضرة في الذهن.
في كثير من الأحيان يكون فهمنا للمشكلة سطحياً أو ناقصاً؛ ولذلك ينبغي على الشخص الذي يريد حل مشكلة ما أن يستكمل فهم جوانبها المختلفة، ولا يستصغر منها شيئاً؛ لأنه قد يكون مفتاحاً للحل. فبعض المشكلات يكون فهم الشخص لها محدوداً بإطار سائد. في مثال مصاعد الفندق تغير تعريف المشكلة من: كيف نزيد سرعة المصاعد إلى كيف نقلل شعور النزلاء بطول وقت الانتظار؟ وبذلك نجحت إدارة الفندق في تقليل التكلفة بشكل ملحوظ دون تقليل درجة رضا المستخدمين.
ومن ذلك أيضاً جهاز تسجيل الحضور والانصراف الآلي؛ فقد كانت فكرة الجهاز تنطلق من أنه ليس من الضرورة أن يتولى شخص مسؤولية متابعة الموظفين لتسجيل حضورهم وانصرافهم بتوقيت دقيق، ولذلك جاءت فكرة جهاز البطاقات التي يختمها الموظف عند حضوره وانصرافه. ولكن المشكلة أن أحد الموظفين يستطيع تسجيل حضور زميله إن لم يكن هناك مراقب. ولذلك فكر المخترعون في طريقة للتغلب على هذه النقطة. كان الحل يكمن في جعل الموظف يسجل بنفسه مستخدماً بصمته؛ فلا يمكن لموظف آخر أن يتلاعب في تسجيل حضوره أو انصرافه.
أحياناً يصعب على الشخص الذي تواجهه مشكلة ما أن يتخلص من القيود التي تمنع عقله من النظر إلى المشكلة من زوايا مختلفة. في مثال اللواصق الطبية نجح (ديكسن) في تحرير ذهنه من الاعتقاد السائد أنه لا بد من وجود شخص آخر يضع الشاش أولاً ثم اللاصق على الجرح. نظرته للمشكلة من زاوية أخرى، بأن وضْع الجزأين معاً ممكن، ساهم في حل المشكلة بشكل أيسر بعد أن تخلص من تلك القيود التي كثيراً ما تمنع القدرات العقلية من الانطلاق نحو حلول مبتكرة. وكذلك الحال بالنسبة للتعامل مع السيارات المخالفة بالوقوف في مكان خاطئ؛ ففي السابق كان لا بد من سحب تلك السيارة برافعة خاصة مما يعني تكلفة عالية وتعريض السيارة المسحوبة للضرر. أما الآن فيمكن وضع قيد معدني على أحد الإطارات فلا يستطيع صاحبها التحرك إلا بعد أن يراجع هو بنفسه الجهة المسؤولة ويدفع قيمة المخالفة؛ فبدلاً من أن يقع العبء على الجهة المنظمة وتسحب السيارة لحجزها، جعلوا صاحب السيارة هو الذي يطلبهم لفك أداة صغيرة الحجم ورخيصة الثمن وتؤدي الغرض نفسه، ما لم تكن السيارة واقفة في مكان يعيق حركة السيارات الأخرى.
ومن الأشياء التي يمكن أن تساهم في حل المشكلات التي نمر بها أن يكون الذهن متفتحاً وفاحصاً لما يمر أمامه من ملحوظات أو تعقيبات أو حتى استخدامات قد لا تخطر للبال. ومن ذلك ما فعله توماس ساليفان (أحد موردي الشاي والقهوة في نيويورك) الذي كان يرسل عينات من أنواع مختلفة من الشاي إلى زبائنه ليجربوها ويختاروا ما يروق لهم منها. كانت أسعار العلب المعدنية التي يرسل فيها تلك العينات تتزايد، ولذلك فكر في طريقة يعبئ فيها الشاي بكميات أصغر وبسعر أرخص دون أن يظهر للزبائن أنه بخيل. قرر أن يستخدم أكياساً من الحرير الصيني مغلقة بخياطة يدوية. أرسل العينات إلى زبائنه ولكنه فوجئ بهم يطلبون كميات من الشاي في تلك الأكياس؛ لأنهم ظنوا أن هذه طريقة جديدة للحفاظ على نكهة الشاي. وهكذا نجح ساليفان في اختراع أكياس الشاي دون قصد منه. واستمر في عمله ذلك مستفيداً من اقتناصه لتلك الفرصة التي واتته دون أن يخطط لها. ولذلك نجد كثيراً من الشركات تقوم بعمليات تقويم لمنتجاتها معتمدة على آراء زبائنها لتطوير هذه المنتجات.
(*) رئيس تحرير مجلة الأسرة.