للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

العمل الفردي سيبقى مُلِحاً

فيصل بن علي البعداني

العمل الخيري (المؤسسي) أحد ركائز قوة الأمة التي حفلت النصوص الكريمة آمرة به وحاثة عليه. قال ـ تعالى ـ: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} [المائدة:٢] ، وقال ـ سبحانه ـ: {وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [آل عمران:١٠٤] . وقال -صلى الله عليه وسلم-: «المؤمن للمؤمن كالبنيان، يشد بعضه بعضاً» ثم شبك بين أصابعه (١) ، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «يد الله مع الجماعة، وإن الشيطان مع من فارق الجماعة يرتكض» (٢) ، وقال -صلى الله عليه وسلم-: «عليك بالجماعة؛ فإنما يأكل الذئب القاصية» (٣) .

ولا غرو؛ فالعمل المؤسسي يستثمر الجهود ويوحدها، وهو أكثر ثباتاً ونضجاً واستقراراً وقابلية للنجاح، ولا نزاع حول أهميته وأولويته، بل الظن أن عامة شباب صحوتنا المباركة قد تجاوزوا هذا الجانب منذ مدة ليست بالقصيرة.

غير أن الذي يسترعي النظر والدراسة هو مدى كفاءة المؤسسات القائمة وقدرتها على استيعاب الطاقات الكثيرة والناضجة من الدعاة إلى الله تعالى؛ إذ مِنَ المُشاهَدِ محدوديةُ عدد المؤسسات القائمة مقارنةً باحتياج الواقع الفعلي، وبالأعداد الكثيفة من شباب الصحوة ـ ذكوراً وإناثاً ـ ممن يمكن توجيههم وتوجههم لإسقاط كثير من الواجبات الكفائية الملقاة على كاهل الأمة، فضلاً عن عامة الأمة ذوي الطاقات المجهولة والمخبوءة، والتي لا تقل أهميةً عن ما يقوم به الدعاة إلى الله تعالى في خدمة الأمة وتفعيل البرامج النافعة داخلها.

أضف إلى ذلك أن كثيراً من المؤسسات القائمة تعاني من أمراض مزمنة، بل إن كثيراً منها لا يكاد يخرج عن كونه جهداً فردياً يفتقد روح العمل المؤسسي، وإن كان لا يفتر دوماً عن التزين بارتداء كثير من الأثواب والحلي المؤسسية.

وأمام هذا الواقع الصعب فإن من أعظم أولويات العمل الدعوي المبادرة إلى الارتقاء بالمؤسسات القائمة وإنشاء الكثير الكثير منها.

ولا شك أن ذلك لن يتحقق بين عشية وضحاها، بل ـ على افتراض الإحساس بالمشكلة وامتلاك الرغبة والقدرات البشرية والمادية اللازمة ـ سيحتاج ذلك إلى أُطُر زمنية كافية، وهي مسؤولية ضخمة يقع واجب تحقيقها على كاهل كل قادر من أبناء الأمة على الإسهام في معالجتها.

وإلى أن تنتقل الأمة ـ وبخاصة في جانبها الدعوي والخيري ـ إلى واقع مؤسسي حقيقي يغطي الاحتياج، فسيبقى للعمل الفردي ـ مهما أحاط به من عوامل ضعف ـ مساحته المفتوحة، ومكانته السامقة، ودوره الضروري للقيام بكثير من الأعمال المنسية أو المضيعة تحت عباءة بعض المؤسسات عديمة التخطيط والمتابعة، أو ضعيفة الجهد قليلة الإنتاجية، أو في كليهما.

ولذا فالمطلوب من القيادات العلمية ودوائر التوجيه الدعوي التوازن والتعامل باعتدال وواقعية حين الثناء الدائم والتبني شبه المطلق للعمل المؤسسي القائم، والذم شبه المستمر للعمل الفردي وبيان عواره؛ مما تسبب في تفتير الكثير من الكفاءات المتميزة عن الإقدام على الكثير من البرامج والأنشطة خوفاً من التلبُّس بأردية العمل الفردي غير المرحَّب به كثيراً، ومن تجرأ منهم وأقدم على بعض المشاريع والأنشطة تجد كثيراً منهم يعاني من صراع داخلي بين الرغبة في العمل والظفر بالأجر والمثوبة، وبين مخافة الوصم بالفردية والفوضوية التي تورث ضعف إقدام ومحاصرة في الوقت ذاته.

ومع أن كلاً من العملين (الفردي والمؤسسي) مجرد وسائل تستثمر لتحقيق الغايات؛ فأيهما كان أكثر إثماراً والأهيأ للعبد فهو المطلوب أياً كان، وهذا أمر يعرفه المرء من نفسه، ومن استشارة أهل العلم والدعوة في بيئته.

على أن الأمة في الوقت الذي تضر بها الفردية الجامحة فإنها تحتاج إلى مؤسسات حقيقية قوية تتسم بالإثمار المتميز والناضج، وباستيعاب كثير من الشخصيات الجيدة في برامج عمل مناسبة، وإلا فإن النتيجة المتحتمة هي إضاعة كثير من الواجبات، وإهدار أعداد غفيرة من الكفاءات المنتجة تحت مبررات غير موجودة في عامة الأحيان.

وعلى عاتق الدعاة إلى الله تعالى ـ ذكوراً وإناثاً ـ يقع الجزء الأكبر من المسؤولية؛ فامتلاك قرارهم ومبادرتهم بأيديهم، وأداء الصلاة ـ التي هي أوجب فروض الأعيان بعد التوحيد ـ واجبة على الذكور جماعة في الوقت؛ فإن لم توجد جماعة أو شق أداؤها معها لم يسقط الفرض ووجب على العبد صلاتها منفرداً، وكذا الواجبات الكفائية المضيعة اليوم، إن تيسر القيام بها من خلال عمل مؤسسي جادٍّ يتضمن تعاوناً صادقاً على البر والتقوى كان غاية المطلوب، وإن تعذر ذلك فلا يجوز تضييع أدائها، بل لا بد من القيام بها بالصورة الفردية المتاحة، ولا يكلف الله ـ تعالى ـ نفساً إلا وسعها.

وليس من السائغ ولا الجائز أبداً التقاعس أو الفتور عن ذلك تحت حجة انتظار العمل المؤسسي؛ فذاك أمر ينكره الشرع ولا يقره العقل. والأمة في عصرنا ـ وهي تمر بحالة ضعف بَيِّن، وتعاني من ويلات مكر كُبَّار يحيط بها من كل جهة ـ أحوج ما تكون إلى كل عمل صائب دؤوب منطلق من فكرة ناضجة وتخطيط سليم، يخفف عنها بعض آلامها ويساعدها على النهوض من كبوتها، أياً كان مصدره والقائم به.

ويزيد الأمر إلحاحاً أن غالب نجاحات الأمة اليوم مردها إلى جهود ومبادرات فردية مباركة ـ بما في ذلك تأسيس عامة المؤسسات القائمة وتشغيلها ـ وأن عامة ما تستثمره المؤسسات الموجودة اليوم في الساحة من جهود أفرادها المنتمين إليها لا يتجاوز نسبة قليلة مما يمتلكونه من إمكانات، مما يبقي الجزء الأكبر من المسؤولية تجاه النهوض بواقع الأمة وإصلاح شأنها على الأفراد ومبادراتهم المتعددة هنا وهناك سواء أكان ذلك في إطار مؤسسي أو بصورة فردية؛ إذ المهم ـ مع أولوية العمل المؤسسي متى كان متاحاً ـ هو الشعور العالي بالمسؤولية الدعوية، والمبادرة الجادة إلى التنفيذ في ظل رغبة عارمة بإتقان العمل وتجويده، واستعداد كبير للانخراط في العمل المؤسسي المحقق للغاية المرادة.

فكيف إذا انضاف إلى ذلك عدم تكيف كثير من القدرات الفذة ـ التي سدت نقصاً ظاهراً وأسهمت في نجاح العديد من المشروعات المتميزة ـ على العمل من خلال المؤسسات القائمة، لاعتبارات مختلفة موضوعية أو غير موضوعية، وتوجه عامة مؤسساتنا اليوم نحو الانكفاء، وقيامها بتقليص الكثير من برامجها وأنشطتها نتيجة الحملة الأمريكية الشرسة على العمل الإسلامي المؤسسي، ليبقى عند ذلك العمل الفردي بانطلاقته الواسعة، وتكاليفه المحدودة، وأثره الكبير ضرورة ملحة لا بد من تقديم مزيد من الرعاية لها والاهتمام بها.

وختاماً: فكما أن الجميع مطالب ببذل الوسع في العمل للإسلام وتشجيع كل عامل له؛ فإن العمل المؤسسي لا يمكن أن ينهض إلى المستوى المؤمَّل إلا من خلال مبادرة القدرات ذات الكفاءة المتميزة إلى تطويره، وتحملهم الواجب نحو النهوض به.

فهل بلغت؟ اللهم فاشهد!

ربي الكريم المنان! أصلح حال أمتنا، وبارك في جهود الخيرين فيها مؤسسات وأفراداً، إنك على كل شيء قدير وبالإجابة جدير، وصلى الله وسلم على الرسول الأمين، وعلى آله وصحبه، ومن سار على نهجه واقتفى أثره إلى يوم الدين.


(١) البخاري (٦٠٢٦) .
(٢) ابن حبان (٤٥٧٧) ، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح، والمراد بـ: (يرتكض) : يضطرب ويفر.
(٣) النسائي (٨٤٧) ، وحسنه الألباني.