للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[خطاب مفتوح إلى البابا بنديكتوس السادس عشر]

د. زينب عبد العزيز

حضرة أسقف روما، والحبر الأعظم للكنيسة العالمية، وكبير أساقفة إيطاليا، والمطران الأسقفي للمقاطعة الرومية، ورئيس دولة مدينة الفاتيكان ـ ولم أذكر «بطريرك الغرب» لأنكم تنازلتم عنه.. كما لا يجوز لي إغفال لقب: رئيس مكتب عقيدة الإيمان (محاكم التفتيش سابقاً) والأستاذ المتفرغ بالجامعات الألمانية، البابا بنديكتوس السادس عشر:

السلام على من اتبع الهدى.

أبدأ بهمسة عتاب كزميلة في اللقب الجامعي ـ وهو المستوى الذي يدور في نطاقه هذا الخطاب ـ وكإنسانة مسلمة، نالها من الإهانة والمرارة والألم ما نال المسلمين في العالم أجمع مما ورد في المحاضرة التي ألقيتموها، في جامعة راتيسبون بألمانيا، تحت عنوان:

«العنف يتعارض مع طبيعة الله ومع طبيعة الروح»

فمن يحمل على كاهله أمانة ومسؤولية كل هذه الألقاب، عار عليه أن يتدنى إلى مستوى السب العلني لدين يتمسك به ويتّبعه أكثر من خُمْس سكان العالم.. وعار عليه أن يختار موقف التحدي الاستفزازي للنيْل من الإسلام والمسلمين، وهو موقف يندرج بلا شك ضمن مسلسل الإساءة والمحاصرة الذي بدأ منذ بداية انتشار الإسلام ويتواصل حتى يومنا هذا؛ إنه موقف وضعكم على أرض احتقار الآخر، والكذب، والجهل، باختياركم، وكلها تشبيهات لا تليق بمن في مثل منصبكم؛ فهو موقف يكشف عن مدى جهلكم بدينكم وبدين الآخرين من جهة، ومن جهة أخرى، هو موقف أشبه ما يكون بإطلاق العنان لحملات صليبية جديدة ما أغنانا جميعاً عنها.

وتؤكد جريدة «لاكروا» النصرانية الصادرة في ١٧ / ٩ / ٢٠٠٦، أن المحاضرة قد تم الإعداد لها طويلاً، وقرأها العديد من المحيطين بكم، مثلما يحدث مع كافة النصوص العامة على الأقل. كما تؤكد الجريدة أنه منذ يوم الإثنين (١١ / ٩) و «بينما لم يكن البابا قد نطق محاضرته بعدُ، صدرت الصحف الإيطالية بعناوين حول «بنديكت السادس عشر والإسلام» وهو الأمر الذي يؤكد ربط هذه المحاضرة في هذا التوقيت بمسرحية الحادي عشر من سبتمبر.. فما أصبح معروفاً يقيناً، رغم التمويه الشديد، أن الأيادي المدبرة أمريكية رفيعة المستوى. وكان هدف المحاضرة واضحاً في ربطه بين الإسلام والإرهاب والشر.. أي أنه موقف متعمّد.

ولقد جاء ردكم وتعبيركم عن «الحزن» الذي انتابكم من ردود الأفعال التي أثارتها محاضرتكم كعذر أقبح من ذنب؛ فالباحث الأكاديمي حينما يستشهد في بحثه، يكون ذلك لأحد أمرين: إما لتأييد موقفه، وإما لنقد ذلك الاستشهاد ـ ولا يوجد هناك ما يسمى باستشهاد لا يعبر عن رأي كاتبه بالمعنى الذي حاولتم التبرير به: فالكاتب هو الذي يستشهد. وقولكم إن هذه العبارات لا تعبر عن رأيكم الشخصي، في الوقت الذي يؤكد صُلب المحاضرة وسابق كتاباتكم؛ وخاصة أن خطاباتكم كلها كتابات تؤكد أنكم تعنونه، وذلك يضعكم في مصاف أولئك الباحثين الذين يضعون أفكارهم على لسان غيرهم حتى لا تحسب عليهم خشية عواقبها، وهو موقف علمي يوصف بالجبن ولا يليق بمن في مكانتكم.

وحتى التصريح الصادر عن المكتب الإعلامي للفاتيكان يوم السبت ١٦/ ٩/ ٢٠٠٦ والذي استشهد فيه المتحدث الرسمي بقرار وثيقة «في زماننا هذا» الصادرة عن مجمع الفاتيكان الثاني سنة ١٩٦٥، فهو أيضاً بمثابة عذر أقبح من ذنب، ويكشف عن الموقف الغريب والملتوي ـ لكي لا أقول ذا الوجهين للفاتيكان. فمن يطّلع على محاضر صياغة هذا النص تحديداً يصاب بالغثيان من كثرة ما جاهد كاتبوه لاستبعاد أن العرب من سلالة إسماعيل، الابن البكر لسيدنا إبراهيم، ولا ينتمون إليه، وإنما يتخذونه مثلاً، واستبعاد حتى إن الله قد خاطب المسلمين عن طريق الوحي إلى سيدنا محمد #. والمرجع صادر عن الفاتيكان بعنوان: «الكنيسة والديانات غير النصرانية» ، وبه محاضر الجلسات المخجلة؛ وهو الأمر الذي يوضح مدى تمسككم باستمرار ذلك الموقف غير الأمين تجاه الإسلام والمسلمين، لعدم الاعتراف به كديانة توحيدية. وسواء اعترفتم أو لم تعترفوا به؛ فالإسلام موجود ومعترف به من الجميع على أنه الرسالة التوحيدية الكبرى الثالثة المرسلة للبشر، ورفضه أو إنكاره لا يدين إلا شخصكم.

ولا يسع المجال هنا لتناول مختلف النقاط التي طرحتموها في تلك المحاضرة والتي تزيد عن العشرين موضوعاً، وسأكتفي بالرد على ما يخص الإسلام. وهما نقطتان أساسيتان: ما وصفتم به الله ـ عز وجل ـ في «المذهب الإسلامي» من أن التصعيد المطلق لله عبارة عن مفهوم لا يتفق ولا يتسق مع العقل والمنطق، ولا يمكن فهمه، وأن إرادته لا ترتبط بأي واحدة من فئاتكم المنطقية، ولا حتى فئة المعقول؛ وأن محمداً ـ عليه صلوات الله ـ لم يأت إلا بكل ما هو شر وغير إنساني، مثل أمره بنشر العقيدة التي يبشر بها بالسيف.

وأول ما يجب توضيحه هنا هو أن الإسلام ليس بمذهب، كما وصفتموه، وإنما هو دين توحيدي متكامل، شامل الأركان، ثابت وراسخ، وخاصة أنه شديد المنطق والوضوح وهو ما يجذب الناس إلىه. ومجرد إغفال مثل هذه الحقيقة يصم موقفكم بالإساءة المتعمدة، ويكشف عن مدى عدم الأمانة العلمية والموضوعية التي تتمسكون بها.

ولن أحدثكم هنا عن الإسلام الذي يمكنكم دراسته إن شئتم، لكنني سأسألكم عن الكتاب المقدس لديكم بعهديه، والذي ترون أنه بقسميه القديم والجديد يتفق مع العقل والمنطق بعكس القرآن، مشيرين في موضع آخر «أن العنف يتعارض مع طبيعة الله وطبيعة الروح، وأن الله لا يحب الدم؛ والتصرف بمنافاة العقل يعد ضد طبيعة الله» . وهنا لا يسعني إلا أن أسألكم عن كل ما هو وارد بالعهد القديم من أمرِ (الإله يَهْوَهْ) لأتباعه بإبادة كل القرى وحرقها وذبح الرجال والنساء والأطفال بحد السيف وأخذ الذهب والفضة ... وفي مكان آخر يطلب تعذيبهم وتقطيعهم وحرقهم في افران الطوب ... هل تتمشى مثل هذه الآيات مع العقل والمنطق في نظركم؟ وخاصة هل ترونها تخلو من الشر وغير الإنسانية؟! أم أن هذا هو التسامح الذي تقرونه؟

وما هو وارد في (سفر حزقيال) حين يأمره الرب أن يأكل خبزاً وعليه «خراء الإنسان» وحينما اشتكى النبي حزقيال أَمَرَهُ أن يضيف عليه روث البقر! هل يتمشى هذا مع العقل والمنطق في نظركم؟! وأخجل حقاًً من ذكر بعض الإباحيات الواردة بهذا النص وغيره رغم محاولة درئها بتغييرها أو تعديلها من طبعة لأخرى.. والنصوص والطبعات المتضمنة ذلك ما تزال موجودة ومتداولة.

أما في النصرانية التي تترأسون أعلى المناصب فيها، فأبدأ بسؤالكم عن (تأليه السيد المسيح) في مجمع نيقية الأول سنة ٣٢٥م، رغم وجود العديد من الآيات التي يقول فيها السيد المسيح إن «الرب إلهنا واحد» (مرقس ١٢: ٢٩) ، «ليس أحد صالحاً إلا واحد وهو الله» (مَتَّى ١٦: ١٩) ، «إني أصعد إلى أبي وأبيكم وإلهي وإلهكم» (يوحنا ٢٠: ١٧) ، «للرب إلهك تسجد، وإياه وحده تعبد» (مَتَّى ٤: ١٠) ، وما أكثر الآيات التي يوضح فيها أنه إنسان: «أنا إنسان قد كلمكم بالحق الذي سمعه من الله» (يوحنا ٨:٤٠) . كما أن هناك آيات تقول: «هذا يسوع النبي الذي من ناصرة الجليل» (٢١: ١١) ، و «قد قام فينا نبي عظيم» (لوقا ٧: ١٦) .. ورغم كل هذه التأكيدات التي لا تزال موجودة ولم ُتمْحَ بعدُ، قامت المؤسسة الكنسية بإعلان أن يسوع «إله حقيقي من إله حقيقي، مولود وليس مخلوق، ومشارك للأب في الجوهر» .. وبعد ذلك جعلت الله شخصاً؛ فهل تتمشى كل هذه المغالطات مع العقل والمنطق ـ رغم أنها أدت إلى تقسيم النصرانية وإلى مذابح بين أتباعها؟!

وفي مجمع القسطنطينية الأول تمت إضافة أن «الروح القدس مشارك للأب في الجوهر» ، مما أدى إلى انفصال آخر للكنائس. وفي مجمع أفسوس سنة ٤٣١ أقر المجمع بدعة «أن مريم أم الله» مما أدى إلى معارك وانفصالات اخرى.. وفي مجمع خلقيدونيا سنة ٤٥١ أقر «الطبيعة الثنائية ليسوع» .. وكلها عقائد وقرارات لا يذكر ولا يعرف عنها يسوع أي شيء؛ فهل هذا يتمشى مع العقل والمنطق؟!

والمعروف من إصداراتكم أنه لم يتم تقبُّل عقيدة التثليث لقرون طويلة بين الكنائس، بحيث نطالع في قرار مجمع فلورنسا المنعقد سنة ١٤٣٩، الذي راح يحدد لليعاقبة معنى الثالوث لفرضه بلا رجعة، وينص القرار على ما يلي: «إن العلاقة وحدها هي التي تفرق بين الأشخاص، لكن الأشخاص الثلاثة يكوّنون إلهاً واحداً وليس ثلاثة آلهة؛ لأنهم من جوهر واحد، وطبيعة واحدة، وألوهية واحدة، وضخامة واحدة، وخلود واحد، وأن ثلاثتهم واحد؛ حيث لا تمثل العلاقة أي تعارض» وعلى الذين لا يروقهم هذا الوضوح تجيب الكنيسة: إنه سرّ! فهل مثل هذا المنطق هو الذي ترونه يتمشى مع العقل السليم؟!

لقد اعتبرتم أن نصوص الكتاب المقدس بعهده القديم، القائم على الترجمة السبعينية، وأناجيله الأربعة وباقي الكتب المرفقة، هو الكتاب الذي يعتد به؛ فهو يحتوي على الإيمان الإنجيلي وتستعينون بفكره طوال محاضرتكم بعد استبعاد القرآن. والمعروف تاريخياً أن القديس جيروم هو الذي صاغه بأمر من البابا داماز، بعد توليفه من أكثر من خمسين إنجيلاً كانت منتشرة ومستخدمة حتى القرن الرابع، وعند الفراغ من مهمته كتب مقدمة للعهد الجديد موجهاً إياها للبابا داماز يقول فيها:

من جيروم إلى قداسة البابا داماز:

تحثني على أن أقوم بتحويل عمل قديم لأخرج منه بعمل جديد، وتريد مني أن أكون حَكَماً على نُسَخ كل تلك النصوص الإنجيلية المتناثرة في العالم، وأن أختار منها وأقرر ما هي تلك التي حادت أو تلك التي هي أقرب حقاًً من النص اليوناني؟ إنها مهمة ورعة، لكنها مغامرة خطرة؛ إذ سيتعيّن عليّ تغيير أسلوب العالم القديم وأعيده إلى الطفولة. وأن أقوم بالحكم على الآخرين وهو ما يعني في الوقت نفسه أنهم سيحكمون فيه على عملي. فمن من العلماء أو حتى من الجهلاء، حينما سيمسك بكتابي بين يديه ويلحظ التغيير الذي وقع فيه، بالنسبة للنص الذي اعتاد قراءته، ولن يصيح بالشتائم ضدي ويتهمني بأنني مزوّر ومدنس للمقدسات؛ لأنني تجرأت وأضفت، وغيّرت، وصححت في هذه الكتب القديمة؟

«وحيال هذه الفضيحة، هناك شيئان يخففان من روعي: الأمر الاول: أنك أنت الذي أمرتني بذلك؛ والأمر الثاني: أن ما هو ضلال لا يمكن أن يكون حقاًً. وهو ما تقره أقذع الألسنة شراسة. وإذا كان علينا أن نضفي بعض المصداقية على مخطوطات الترجمة اللاتينية، ليقول لنا أعداؤنا أيها أصوب؛ لأن هناك من الأناجيل بعدد الاختلاف بين نصوصها. ولماذا لا يروق لهم أن أقوم بالتصويب اعتماداً على المصادر اليونانية لتصويب الأجزاء التي أساء فهمها المترجمون الجهلاء، أو بدّلوها بسوء نيّة، أو حتى قام بعض الأدعياء بتعديلها؟

«وإذا كان علينا دمج المخطوطات؛ فما يمنع أن نرجع ببساطة إلى الأصول اليونانية ونبعد بذلك عن أخطاء الترجمات السيئة أو التعديلات غير الموفقة من جانب الذين تصوروا أنهم علماء، أو الإضافات التي أدخلها الكتبة النعسانون؟ إنني لا أتحدث هنا عن العهد القديم والترجمة السبعينية باللغة اليونانية التي لم تصلنا إلا بعد ثلاث ترجمات متتالية من العبرية إلى اليونانية ثم إلى اللاتينية. ولا أود أن أبحث هنا ما الذي سيقوله (أكويلا) أو (سيماك) ، أو لماذا آثر (تيودوسيان) الوسط بين المترجمين القدامى والمحدثين. لذلك سأعتمد على الترجمة التي يمكن أن يكون قد عرفها الحواريون.

«وأتحدث الآن عن العهد الجديد، المكتوب بلا شك باللغة اليونانية فيما عدا إنجيل مَتَّى الذي كان قد استعان أولاً بالعبرية لنشره في منطقة اليهودية. إن هذا الإنجيل يختلف يقيناً عن الذي بلغنا نظراً لتعدد المصادر التي استعانوا بها لتكوينه. وقد آثرت أن أرجع إلى نص أساسي، فلا أود الاستعانة بترجمات المدعوين (لوشيانوس) أو (هزيكيوس) التي يدافع عنها البعض بضراوة بغير وجه حق، اللذين لم يكن من حقهما مراجعة العهد القديم بعد ترجمة السبعينية، ولا أن يقوما بمراجعة النصوص الجديدة؛ فالنصوص الإنجيلية التي وصلتنا بلغات شعوب مختلفة توضح مدى الأخطاء والإضافات التي بها. وإذا كنت قد قمت بذلك بالنسبة للنسخ المكتوبة بلغتنا فلا بد أن أعترف بأنني لم استفد منها شيئاً» .

ذلك هو حال الكتاب الذي تعتبرونه مقدساً! وأكتفي بهذا القدر من الاستشهاد؛ لأن باقي النص متعلق بترتيب الأناجيل وتبويبها. وكان ذلك في القرن الرابع الميلادي. أي أنه حتى ذلك التاريخ لم تكن الأناجيل المعروفة حالياً قد استتب أمرها. واندلعت الخلافات بين الكنائس لمدة قرون طويلة، حتى قامت المؤسسة الكنسية الكبرى بفرض هذا الكتاب المقدس على الأتباع على أنه نص منزل و «أن مؤلفه هو الله» ، وذلك في المجمع التريدنتي سنة ١٥٤٧. ثم قام مجمع الفاتيكان الاول المنعقد في عامي ١٨٦٩ و ١٨٧٠ بإعلان أن الكتاب المقدس بعهديه «كتب بإلهام من الروح القدس، وأن مؤلفه هو الله، وأنها قد أُعطيت هكذا للكنيسة» .. أما مجمع الفاتيكان الثاني المنعقد بعد ذلك بحوالي تسعين عاماً، ظهرت خلالها من الدراسات والأبحاث التي أطاحت بمصداقية الكتاب المقدس، وهو ما جعله يعلن عن إصحاحات هذا الكتاب المقدس قائلاًً: «إن هذه الكتب وإن كانت تتضمن الناقص والباطل، فهي مع ذلك شهادات لعلم تربية إلهي حقيقي» !.. تُرى يا أيها البابا: هل هذا هو المنطق الذي ترونه حقاً ومفهوماً؟!

ولا تفوتنا هنا الإشارة إلى «ندوة عيسى» التي عقدت في الولايات المتحدة الأمريكية سنة ١٩٩٢، حيث إن أهم ما خرج به فريق العلماء المساهمين فيها، وهم حوالي ٢٠٠ باحث لاهوتي وأكاديمي، أن ٨٢ % من الأقوال المنسوبة إلى يسوع لم يتفوه بها وإنما صاغها كَتَبَةُ الأناجيل، وأن موت يسوع وبعثه حدث في المكان وبالكيفية التي أرادها كتبة الأناجيل.. (صفحة ٢٤ من مقدمة الكتاب الصادر عن الندوة) .. وما يأسف له هؤلاء العلماء هو الجهل الشديد لدى عامة النصارى بكتابهم المقدس وخاصة بالعهد الجديد، وهو مستوى يرون أنه يصل إلى درجة الأمية! اللهم لا تعليق على ما تعتبرونه مصدراً للعقل والمنطق والإلهام!!

تقولون في خطبتكم تلك إن سيدنا محمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ لم يأت إلا بأشياء شريرة وغير إنسانية، من قبيل أمره أن يتم نشر ما يبشر به بالسيف ... لعلكم لا تجهلون أن (البابا أوربان الثاني) هو الذي أعلن قيام الحروب الصليبية باسم الرب في (مجمع كليرمونت) قائلاً: «إن الله يريدها» ، وأنه أطلق على المساهمين فيها لقب «جند يسوع» وأمرهم بوضع علامة الصليب على ثيابهم وعتادهم، ووعد بغفران ذنوبهم وإعفائهم من الضرائب، وأغدق عليهم العطايا. ويصف ذلك المؤرخ المرافق للحملة والمعروف باسم «لانونيم» قائلاً: «تم طرد المدافعين عن المدينة (القدس) بقتلهم وبترهم بالسيوف أحياء، حتى معبد سليمان، وقد وقعت مجزرة لا مثيل لها بحيث إن جنودنا كانوا يغوصون بأقدامهم في الدماء حتى عراقيبهم» ، ثم يضيف بعد ذلك قائلاً: «لعل ما أدى إلى نجاح ذلك الهجوم وغيره الانقسام الذي كان سائداً آنذاك بين المسلمين» . وعندما سادت المجاعة أيام حصار عكا كان الصليبيون يسلقون أطفال المسلمين ويأكلونهم.. أذلك هو ما يندرج تحت مسمى العقل والأعمال الإنسانية وعدم الانتشار بالسيف؟!

كما تم إنشاء محاكم التفتيش لتواكب أعمالها ولتواصل ما أُطلق عليه عصر الظلمات الذي أمتد حوالي ألف عام، بمنع الأتباع من قراءة إنجيلهم ومنع التعليم إلا على رجال الدين. والمعروف أن الحروب الصليبية لم توجه ضد المسلمين وحدهم في الأراضي المقدسة، وإنما امتدت إلى إسبانيا لتعاون في اقتلاع الإسلام، كما امتدت إلى أوروبا وجنوب شرق فرنسا لاقتلاع شعوب الكاتار والبوجوميل والفودوَا؛ لأنهم حتى ذلك الوقت (وهم نصارى) كانوا رافضين لبدعة تأليه السيد المسيح. وما تذكره المراجع التاريخية والعلمية عن عمليات التعذيب التي تفننت فيها محاكم التفتيش من حرقها الناس أحياء أو طرق عيونهم أو انتزاع ألسنتهم وهم أحياء أو دهن أرجلهم بالزيت ووضعها فوق النار بعد ربطهم حتى لا يتحركوا من أماكنهم ليصيب القارئ بالغثيان. وما كتبه القس (بارتولوميه دي لاس كازاس) عن وحشية أعمال مبشريكم، ورجال الكنيسة وجنودها عند غزوهم شعوب امريكا الجنوبية يفوق الخيال في بشاعته.. ولم يُسمح بنشر مذكراته إلا في أواخر القرن العشرين. ولا يسع المجال هنا للتحدث عن الحروب الدينية بين النصارى أنفسهم، كحرب الخمسين عاماً، والمائة عام، والمجازر المميزة كمجزرة البروتستانت المعروفة باسم (سانت بارتليمي) ولا عن سرد كيفية فرض النصرانية بالسيف على أوروبا وما جاورها أو على عدد من شعوب العالم.

وإذا ما تم حصر أعداد كل الذين تم قتلهم بأمر من الكنيسة الكاثوليكية الرومية الرسولية فإنه سيصل إلى مئات الملايين من الأبرياء، وهو ما تزخر به المراجع. فمثل هذه الأعمال تندرج تحت أي منطق في نظركم؟ أم لعلكم تباركونها لبراءتها وتسامحها النصراني؟

أيها الباحث الكبير! إن كل ما تقدم وأكثر منه بكثير هو ثابت علمياً وتاريخياً ووثائقياً، بل أكثر منه جد كثير، ولا يسع المجال هنا لذكره.. إنها مجرد شذرات.

تقولون في الفقرة الثالثة من محاضرتكم: (إن الله لا يحب الدم) ومع ذلك تصرّون على استمرار العقيدة التي تفرض على الأتباع شرب دمه وأكل لحمه عند تناول (الإفخارستيا) ومن لا يؤمن بذلك إيماناً قاطعاً بأنه يشرب دم الرب فعلاً ويأكل لحمه فعلاً يكون كافراً وملعوناً!! ومن الواضح أن هناك العديد من الأتباع الذين ينفرون من مجرد هذه الفكرة. وتفاوتت حدة الصراعات الرافضة للإفخارستيا بالمعنى الكنسي، وكان من أشهر هؤلاء (جان فيكليف) الذي أدانه مجمع كونستانس ١٤١٨ لأنه نادى بأن الخبز والنبيذ لا يتبدلان في القربان ولا يتحولان، وأن المسيح لا يوجد فعلاً بلحمه ودمه في القربان، فأدان المجمع كل مؤلفاته واتهمه بالهرطقة، وبعد موته أمر المجمع بنبش قبره لإلقاء عظامه بعيداً عن المدافن الكنسية (المجامع المسكونية، ج٢ صفحة ٨٥٩) . ثم قام مجمع لاتران بإدخال هذا الطقس الدموي ضمن عقيدة الإيمان.

وكانت آخر محاولة مبذولة لدراسة كيفية فرض فكرة أكل لحم المسيح وشرب دمه فعلياً وحقيقياً، ذلك العام الذي كرسه (البابا يوحنا بولس الثاني) في أكتوبر ٢٠٠٤ والذي أنتهى (بانعقاد السينودس) الذي أقيم من ٢ إلى ٢٣ أكتوبر ٢٠٠٥، وحضره ٢٥٦ أسقفاً من ١١٨ بلداً حول موضوع: «الإفخارستيا في الحياة والرسالة الحالية للكنيسة» ، وقد قمتم بترؤسه لوفاة البابا السابق. وتم أختيار هذا التاريخ ٢٣ أكتوبر لإنهاء أعمال المؤتمر، ليتفق مع «اليوم العالمي للتنصير» ... وهو ما يكشف عن أن عقيدة الإفخارستيا تقف عقبة في طريق عمليات التبشير التي تخوضونها وتجاهدون لتدارس كيفية فرضها.

ومن الواضح أن الإصرار على فرض هذه العقيدة بمثل هذا التشبث، هي عملية تبرير لاستمرار ضرورة وجود طبقة القساوسة التي هي وحدها تمتلك سر تحويل الخبز والنبيذ «بقدرتهم السرّية» إلى لحم ودم المسيح الذي يتعيّن على الأتباع أكله وشربه وإلا فلا يمكنهم الحصول على الخلاص! ولا نملك إلا أن نتعجّب لما تعتبرونه معقولاً ومنطقياً ويتفهمه العقل والمنطق، ولعل ذلك هو ما دفع الكاتب الفرنسي (إميل زولا) أن يقول في إحدى رواياته: «إن الحضارة الإنسانية لن تتقدم إلا إذا سقط آخر حجر من آخر كنيسة على رأس آخر قسيس» !

أنتقل بعد ذلك إلى مجمع الفاتيكان الثاني وقراراته سنة ١٩٦٥ التي تمثل خروجاً سافراً على نصوص وتعاليم العهد الجديد، والتي تمثل جزءاً كبيراً من المشكلات التي تواجه العالم حالياً. فعلى الرغم من اتهامكم اليهود في قداس كل يوم أحد بأنهم قتلة الرب، وعلى الرغم من وجود أكثر من مائة آية صريحة الوضوح في اتهامها بالعهد الجديد، نص ذلك المجمع من ضمن ما نص عليه في نصوصه المتعددة، على:

تبرئة اليهود من دم المسيح.

اقتلاع اليسار في عقد الثمانينيات (من القرن العشرين) .

اقتلاع الإسلام في عقد التسعينيات حتى تبدأ الألفية الثالثة وقد تم تنصير العالم، وإن كانت هذه التوصية بدأت بعبارة هي «توصيل الإنجيل لكل البشر» .

إعادة تنصير العالم.

توحيد كافة الكنائس تحت لواء كاثوليكية روما.

فرض المساهمة في عملية التنصير على كافة المسيحيين الكنسيين منهم والمدنيين، وهي أول سابقة من نوعها.

استخدام الكنائس المحلية في عمليات التنصير، وهو الأمر الذي يضع الأقليات النصرانية في البلدان التي يعيشون فيها في موقف عدم الأمانة أو الخيانة الوطنية لصالح التعصب الكنسي.

فرض بدعة الحوار، كوسيلة لكسب الوقت حتى تتم عملية التنصير بلا مقاومة تذكر.

إنشاء لجنة الحوار.

إنشاء لجنة خاصة بتنصير العالم.

لن أطلب منكم تقييم قرارات هذا المجمع من حيث العقل والمنطق، أو من حيث الشرور وغير الإنسانية التي تمخضت عنها، فهي ليست بحاجة إلى تقييم، إنها تجأر بنفسها؛ لكنني سأضيف أن البابا يوحنا بولس الثاني كان قد وعد بتبديل وتغيير سبعين نصاً من نصوص الأناجيل لتتمشى مع مسلسل التنازلات التي تقدمونها للصهاينة. وللحق لا أعرف إن كان قد تمكن من إتمام ذلك قبل وفاته أم سيقع عليكم الوفاء بهذا الوعد.

ومن بين كل القرارات السابقة لن أعلق إلا على نقطة بدعة الحوار بين الأديان، لأستشهد ببعض النماذج الكاشفة من الوثائق الفاتيكانية:

أخطر ما يمكن أن يوقف الحوار: أن يكتشف من نحاوره نيتنا في تنصيره.

من أهم عقبات الحوار ما قمنا به في الماضي ضد الإسلام والمسلمين، وأخيراً، فقد أضيفت الآن (قضية إسرائيل) وموقف الغرب منها، ونحن كنصارى نعرف ما هي مسؤوليتنا حيال هذه القضبة.

ضرورة القيام بفصل المسيحية في حد ذاتها عن العالم الغربي ومواقفه المعادية والاستعمارية؛ فالمسلم لم ينس ذلك بعد.

إن الحوار الصحيح يرمي إلى تجديد كل فرد بالارتداد الباطني والتوبة، اعتماداً على الصبر والتأني والتقدم خطوة خطوة وفقاً لما تقتضيه أحوال الناس في عصرنا.

يتعيّن على النصارى أن يساعدوا مؤمني العقائد الأخرى على التطهر من تراثهم الديني لتقبل عملية الارتداد.

إن أعضاء الديانات الأخرى مأمورون بالدخول في الكنيسة من أجل الخلاص.

الحوار يعني فرض الارتداد والدخول في سر المسيح.

إن (الكرسي الرسولي) يسعى إلى التدخل لدى حكام الشعوب والمسؤولين عن مختلف المحافل الدولية، أو الانضمام إلىهم بإجراء الحوار أو حضهم على الحوار لمصلحة المصالحة وسط صراعات عديدة.

وأكتفي بهذا القدر القليل من غثاء جد كثير لأسأل غبطتكم: هل مثل هذا التعامل غير الأمين وغير الإنساني هو ما تعتبرونه مقبولاً من العقل والمنطق؟!

وهنا تجدر الإشارة إلى خطابكم الأول «الله محبة» ولا يسع المجال لتناوله بالتفصيل؛ فقد أفردتُ له مقالاً آنذاك بعنوان «تنازلات على نغمة المحبة» ! ومن أهم ما يجب الإشارة إلىه اعتباركم أن اليهود والنصارى وحدهم هم الذين يعبدون الله الحقيقي!! ثم قيامكم بالربط بين الإسلام والانتقام والكراهية والعنف باسم الله، وأن الكنيسة الكاثوليكية وحدها هي التي عليها أن تسود العالم، وكم من التنازلات الممجوجة التي قدمتمونها للصهاينة، وهو ما يؤكد أن استشهادكم في المحاضرة لم يكن من قبيل المصادفة وإنما تقصدونه؛ لأنه يمثل رأيكم الدائم.

ولا يسعني عند نهاية خطابي المفتوح هذا إلا أن أسألكم: يصر الفاتيكان على أن رسالته هي تنصير العالم، وهو يبذل قصارى جهده وبكافة الوسائل الصريحة والملتوية لتحقيق ذلك، بل لا يكف عن حث الكنائس الأخرى وتوحيدها لاستخدامها في عملية التنصير، ولقد تم فرض هذا الموقف على الأتباع وعلى الكنائس المحلية في كل مكان بزعم أن هذا هو الوسيلة الوحيدة للتصدي للمد الإسلامي، كما تم استصدار القوانين الأمريكية الترويعية لتنفيذ ذلك.. غير آخذين في الاعتبار أن ذلك تحديداً هو ما يشعل الفتن ويولد العنف دفاعاً عن الذات وعن الدين وعن الهوية؛ فما عساكم فاعلين بتلك الدويلة الدينية العنصرية التي ساعد الفاتيكان على تثبيتها ظلماً وعدواناً وانتزاع الأرض من أصحابها لقوم لا حق لهم فيها وفقاً للنصوص؟ بل ما عساه فاعلاً بهذه الدويلة العنصرية التي يعد إنشاؤها خروجاً سافراً على دينه وتعاليمه ـ وهناك من الأبحاث اللاهوتية ما تؤكد أنه لا حق لهم شرعاً في هذه الأرض، وذلك من قبيل رسالة (الأب لاندوزي) ؟ ولا نسخر حين نتساءل بكل مرارة وألم:

تُرى، هل سيقوم سيادة البابا بتنصير اليهود، أم أن الفاتيكان هو الذي سيتهوّد؟! أليست دعوتكم الظالمة هي تنصير العالم؟!

إن من يحمل على كاهله مثل هذا التاريخ الملطخ بالدماء، ومثل هذا التراث القائم على التزوير والتحريف، ويقوم بمثل هذه السقطة الاستفزازية وسب الإسلام والمسلمين عن عمد، فلا يجب عليه الاعتذار الواضح فحسب وإنما يجب عليه التنحي عن مثل هذا المنصب. وهو أقل ما يجب عليه أن يفعله إن كانت هناك أمانة علمية أو دينية.


(*) أستاذة الحضارة الفرنسية جامعة المنوفية ـ مصر.