[الجولة القادمة]
محمد بن شاكر الشريف
تغيرات سريعة متلاحقة تحدث في سنوات قلائل، وربما في أشهر، كانت لا تحدث فيما مضى إلا في عشرات السنين، وهذه سمة من سمات العصر الذي نحياه؛ وقد أدى إلى ذلك عاملان:
١ ـ أولهما وأخطرهما على العالم: تفرد دولة ظالمة باغية بامتلاك وسيلة القوة التي لا تُجارى؛ فانهار بذلك التوازن الذي كان يحكم تصرفات الأنداد والنظراء.
٢ ـ الثاني: النقلة، أو القفزة بل الطفرة التقنية التي باعدت كثيراً بين الدول المتقدمة تقنياً والدول المتخلفة في ذلك المضمار، فَقبْل التطور الهائل في التقنية الحديثة لم يكن مرور الزمن يكاد يُحدث تغييراً يذكر في موازين القوى، وأما اليوم فإن السنة الزمنية ربما باعدت تقنياً بين فئة الدول المتقدمة وبين فئة الدول المتخلفة ما يعادل خمسين سنة زمنية أو يزيد.
وفي ظل هذين العاملين وقع العالم العربي والإسلامي ـ وهو ينتمي في جملته إلى العالم المتخلف ـ تحت تأثير أو في دائرة جذب المعسكر الصليبي المتفوق تقنياً واقتصادياً، وهو يتعرض اليوم إلى محنة شديدة تكونت من تشابك ثلاث زوايا:
الأولى: كره الصليبيين لدين الإسلام والمسلمين، ورغبتهم في القضاء عليه والثأر منه؛ إذ إن كثيراً من دوله كانت قبل مجيء الإسلام ممالك نصرانية، ثم استطاع الإسلام بنقائه أن يجذبهم إليه، وينقلهم إلى صفه حتى فقدت أصلها القديم، وصارت دولاً إسلامية. ويدل على ذلك الكره كثرة كاثرة من أقوال الصليبيين، لا فرق في ذلك بين الساسة أو المفكرين والمثقفين أو العسكريين أو حتى العامة الدهماء، وهذا الموقف ليس نتيجة لما يروجه بعضهم بما يعرف بـ «أحداث الحادي عشر من سبتمبر» ؛ فإن موقف الصليبيين من الإسلام موقف قديم ضارب بأطنابه في أعماق التاريخ لبداية ظهور الإسلام، ثم امتد عبر ما يعرف بالحروب الصليبية في القرون الوسطى مدة قرنين من الزمان، ثم إلى يومنا هذا، ولهم في ذلك كلمات مشهورة مدونة في وثائقهم التي لم تعد اليوم شيئاً مستوراً. وفي العصر الحديث توالت الحملات الصليبية على الدول الإسلامية والعربية منها خاصة لاحتلالها؛ فقد احتلت فرنسا في نهاية القرن الثامن عشر مصر حتى اضطرتها الحرب مع إنجلترا للجلاء عنها، ثم أعيد احتلال مصر في الربع الأخير من القرن التاسع عشر من قِبَل إنجلترا، ثم توالى احتلال الدول الصليبية للدول العربية، فاحتلت إنجلترا العراق والسودان وفلسطين واليمن الجنوبي، واحتلت فرنسا سوريا ولبنان والجزائر والمغرب وتونس، واحتلت إيطاليا ليبيا، كما احتلت هولندا أندونيسيا، وغير ذلك من الدول التي وقعت تحت الاحتلال الصليبي. لقد قامت تلك الدول بسرقة خيرات البلاد في الوقت الذي حاولوا فيه بكل ما وسعتهم الطاقة القضاء على الإسلام، والعمل على تحريفه؛ فما الذي حملهم على ذلك؟ هل كانوا حملة رسالة يودون إبلاغها غير كراهيتهم للمسلمين والرغبة في القضاء على دينهم؟
الثانية: تمتع كثير من الدول العربية والإسلامية بثروات ضخمة متعددة، وخاصة النفط، إضافة إلى الأراضي الزراعية الخصبة، والتي تلهب حماس الطامعين في نهب خيرات البلاد.
الثالثة: عدم كفاءة كثير من قيادات البلاد العربية والإسلامية لقيادة تلك الفترة الحرجة من حياة الأمة، وبعدهم عن الالتزام والتقيد بالإسلام وشريعته، مما أوقعهم في ضعف شديد وتخاذل كبير أمام القوى الصليبية الباغية.
فباجتماع تلك الزوايا الثلاث في ظل العاملين السابقين تصبح الصورة واضحة جداً؛ بحيث لا تخطئها العين المبصرة، وإن لم تكن كاملة الإبصار، وهو أن هناك جولة قادمة تهجم فيها الدول الصليبية (التحالف الصليبي بقيادة أميركا وبريطانيا) على الدول العربية والإسلامية؛ وذلك لتحقيق عدة أهداف:
أولاً: لالتهامها والقضاء على إسلامها سعياً للتمكين للصليب ونشر الصليبية، وضمان أمن واستقرار اليهود، وتحقيق أحلامهم في تكوين دولتهم من النيل إلى الفرات.
وثانياً: لسرقة خيراتها وثرواتها.
وثالثاً: لتحويل أهلها خدماً وعبيداً عند الصليبيين؛ فالهجمة قادمة قادمة لا شك في ذلك، والدلائل كلها تشير إلى ذلك إلا أن يشاء ربي الذي يدبر الأمر في السموات والأرض شيئاً غير ذلك، وقد قال كبير التحالف الصليبي: «سنشنها حرباً صليبية» ، كما قالوا: إن الحرب على الإرهاب (وهو الاسم الذي يحلو للصليبيين أن يسموا به المتمسكين بالإسلام، الرافضين لهيمنة الدول الصليبية على بلادهم) ستطاول ستين دولة، وقد تستمر لأكثر من عشر سنوات، والستون دولة المرادة هي الدول العربية والإسلامية؛ فإن عددها ثمانٍ وخمسون دولة.
إن القوم لفرط ثقتهم في قوتهم وآلتهم العسكرية في مقابل الضعف الشديد للطرف المقابل، جعلهم يتحدثون عن خطط الحرب التي يعتزمون شنها قبل ذلك بكثير، ويقومون بعمل التجهيزات والتحضيرات الميدانية في وضح النهار، ولم يعد ذلك سراً تحرص تلك الدول على إخفائه وعدم إفشائه؛ وذلك أنها ترى أنه لا مفر لهذه الدول من بطشها، وأنه مهما أخذت من استعدادات واحتياطات فلن تكون بقادرة على التصدي لقواتها التي يمكنها أن تطلق نيرانها على أهدافها من مسافات تبعد مئات الكيلو مترات، وهي بعد لم تدخل أرض العدو، أو تقع في مرمى نيرانه، ومهما حاولت أن أصف أو أصور قوة العدو فقد تكون قوتهم أكثر بكثير مما أقول، وليس في هذا الكلام أي قدر من المبالغة أو التهويل (١) ، ولن تكون الدول الإسلامية ـ في نظر الصليبيين ـ بمأمن من بطش الكفار وانتقامهم، إلا بالاستسلام التام والخضوع الكامل لسيطرة التحالف الصليبي، وهذا الإعلان المسبق عن الحرب وخطتها لا يترتب عليه ضرر يلحق بأمن تلك القوة الطاغية، من أي رد فعل قد يقوم به المستهدفون بتلك الحرب، لكن يكون له عندهم في الوقت نفسه نتائج إيجابية كثيرة يحرصون عليها؛ فمن ذلك: إلقاء الرعب والفزع في قلوب الناس جميعاً حكاماً ومحكومين، وقد بدأ يُتَداوَل في وسائل الإعلام الحديث عمّا يسمى بـ (ضربة الصدمة والفزع) ، ومن ذلك: حمل الدول على الاستسلام بمجرد هذا التهديد، والتخويف من غير احتياج إلى خوض معركة حقيقية قد تكلفهم الكثير، وعندنا مثال واقعي من ذلك وهو استسلام نظام عربي، والقيام بتحطيم أسلحته بيده وتسليم أسرارها للعدو الذي كان يظهر العداوة له عدة عقود، وإن كنت أرجح أنه لو وجدت دولة تظهر الاستسلام، فإن هذا لن يمنع من دخولها في مظاهرة مسلحة إمعاناً في الإذلال والقهر ولو بعد حين، ومن ذلك: حمل كثير من ضعاف النفوس على المسارعة فيهم ليضمنوا لأنفسهم الأمان، فيكونوا لهم أعواناً وجواسيس، حتى إذا ما رفضت قيادة الدولة الاستسلام، أو أظهرت بعض الإباء والامتناع، كانت هذه الصفوف تعمل على سقوط الدولة، وانهيارها وعدم قدرتها على الصمود، وهناك من المحللين من يفسر الانهيار السريع غير المتوقع، وسقوط بغداد في غزو التحالف الصليبي للعراق بذلك.
لقد أعلن أعداؤنا بوضوح شديد لا لبس فيه، وبصفاقة شديدة لا أثر للمجاملة فيها، أنهم عازمون على تغيير ديننا، أو تغيير مفهومنا للدين، وأنهم سوف يسلكون لتحقيق ذلك كل سبيل بما في ذلك الإكراه بالقوة المسلحة، ولم يعد يهمهم اليوم أن يقدموا مسوغات حقيقية لعدوانهم غير رفع شعار محاربة الإرهاب، أو الحرب الاستباقية التي بمقتضاها يضربون من شاؤوا وقتما شاؤوا، وبدؤوا يطالبوننا بتغيير مناهجنا الدراسية، وحذف كل ما لا يتوافق مع تصوراتهم، أو يكون حجر عثرة في سبيل طموحاتهم في السيطرة على العالم التي لم يعودوا يخفونها عن أحد، كما بدؤوا يطالبوننا بإغلاق مدارسنا ومعاهدنا الشرعية بدعوى أن تلك المعاهد والمدارس تخرج إرهابيين، لأنها تدرس الدين الإسلامي الذي يعد ديناً إرهابياً في نظر الصليبيين، وصارت مؤسساتنا الخيرية غير مرغوب فيها، وليس لها من ذنب عندهم سوى أنها تقف في وجه التنصير في بلاد المسلمين، وتعين الناس على شدة الحياة وقسوتها، وقد بدأت بعض الأنظمة في الاستجابة لذلك، وقامت بإغلاق الآلاف من تلك المعاهد، وإني لأظن لو أن الدول العربية، أو بعضها طالبت أمريكا بتوقيع معاهدة عدم اعتداء بين الجانبين فلن تستجيب لذلك؛ لأن مثل هذه المعاهدة تعيق المخطط التوسعي الذي يسعى إلى تكوين إمبراطورية عالمية، وهم قد بدؤوا جولتهم بأفغانستان، ثم العراق، ثم ... ، ثم ...
فما نحن فاعلون؟ من حقي ومن حق كل مسلم أن يفكر لمصلحة أمته، وفيما يدفع عنها البلاء والشدة، ويسعى في ذلك بجهده ما استطاع، بل هذا مما يجب على كل امرئ حسب مكانته وإمكاناته، وهذه نفثات صدر مكلوم، وهو يرى ما يدبر لأمته، والكثيرون لاهون عابثون؛ فهو كالرائد الذي يحذر قومه مما قد يفجؤهم و «الرائد ـ كما قالوا ـ لا يكذب أهله» ، والمشوار العظيم إنما يبدأ بخطوات يسيرة، وأول ما نبدأ به مشوارنا:
١ ـ أن نوقن يقيناً تاماً، وأن نجزم جزماً أكيداً، أن أعداءنا عازمون على غزو بلادنا لاحتلالها، أو لجعلها في حكم المحتلة؛ حيث يولُّون علينا بعد غزونا مَنْ تكون قلوبهم معهم ممن يتكلم بألسنتنا، وإنما ينفذ من ذلك ما تسمح الأحوال بتنفيذه وفق الخطط المعدة، وكل شيء عندهم له وقته المناسب، وإنما يبدؤون بما يكون من البلاد أسهل عليهم وأنسب: إما لعزلته عن العام العربي بمشاكله مع جيرانه وتخويفه لهم، فيفرط العرب فيه كما حصل مع العراق، وإما لضعفه خاصة من الناحية العسكرية، وإما للاستفادة والاستعانة بثرواته على تمويل الحرب، وإما لأن سقوطه يضعف غيره ويسهل استسلامه؛ فإذا تساقطت الدول دولة بعد دولة، أمكن أن يتساقط الباقي بدون قتال، ومن هذا التصور فإني أرى أن آخر دولتين يمكن غزوهما في هذا المسلسل الذي يرسمه الشيطان، هما السعودية لمكانتها الدينية في نفوس المسلمين جميعاً، لاشتمالها على مكة (التي فيها بيت الله الحرام) والمدينة (التي فيها قبر الرسول -صلى الله عليه وسلم -) أقدس البقاع عند المسلمين، وأن المسلمين لا يمكنهم التهاون، أو التفريط في تلك البقاع؛ لأن ذلك يقرب من التفريط في الإسلام نفسه، وأنه لذلك لا يمكن أن يفكر التحالف الصليبي في غزوها إلا بعد الإضعاف والإنهاك الشديد للأمة الإسلامية، أو أن الخطة قد تعتمد على تقسيمها إلى جزأين: جزء يشمل مكة والمدينة وهذا يترك للمسلمين يحكمونه حتى لا يثيروا حفيظتهم، وجزء يشتمل على الأماكن الغنية بالنفط، وهذا يتم احتلاله المباشر من قِبَلهم، أو احتلاله بالواسطة أي بواسطة أوليائهم، وأتباعهم الذين ينتشرون في كل بلادنا العربية والإسلامية {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: ٣٠] ، والثانية مصر لكثافتها العددية، ولتدرب أكثر شبابها على استخدام الأسلحة المتنوعة، لقضائهم فترة إلزامية من عمرهم في الجيش، ولذلك يُعمل الآن على تحديد النسل كإجراء مؤقت، كما يتم السماح للمحترفين العسكريين بالتقاعد المبكر نظير مكافآت مالية كبيرة، وليس ببعيد عن هذه الخطة ما يجري من تطويق مصر من ناحية إضعاف السودان، وافتعال المشاكل بين مصر وبين دول حوض النيل حول تقاسم مياه النيل، لكنهما مدرجتان على الخطة إذا لم يسقطا من تلقاء نفسيهما، بعد الإنهاك الشديد الذي تتعرض له الأمة العربية والإسلامية، وخاصة بعد تدخل الأمم المتحدة في خصوصيات الدول العربية، وفيما يعد من قبيل السيادة القومية، وفرضها عليهم لأمور لم تستطع أن تفرضها، أو تفرض جزءاً منها على من يحتلون بلاد العرب والمسلمين.
وهناك سيناريوهات كثيرة عند الأشرار لتحقيق ذلك، وقد بدأت دعوات كثيرة عند الأمريكيين تظهر بين كل فترة وأخرى تدعو إلى احتلال منابع النفط في السعودية، وإلى تقسيم مصر وتمكين النصارى فيها، وقد تناقلت كثير من المواقع الإخبارية مفاهيم وتصريحات أمريكية بالنسبة للاستراتيجية الأمريكية في الشرق الأوسط تدور حول «أن العراق الهدف التكتيكي، والسعودية الهدف الاستراتيجي، ومصر الجائزة الكبرى» . إن الأمر جد لا هزل فيه، وإن من أكبر الأخطاء التي يمكن أن نقع فيها الركون والانخداع ببعض الكلام الذي قد يردده الأعداء أو العملاء، بأنه لا خوف من الحرب؛ لأن أمريكا لا تشن الحرب على أصدقائها، أو أنها لا تشن الحرب إلا بمسوغات مقبولة، أو أنها لا تخالف الشرعية الدولية التي تمنع الاعتداء على الآخرين، ونحو ذلك الكلام الأجوف الذي لا مصداقية له؛ فإن مما هو معروف إلى درجة تبلغ اليقين أن هذه الدولة، أو تلك التي تملك من القوة ما تتمكن به من تحقيق ما تريد، إذا لم يكن لها دين صحيح يقودها؛ فإنها تتصرف بمقتضى الهوى، ولا يوقفها عن ذلك إلا القوة المضادة التي تجبرها إجباراً على مراعاة الآخرين. أما ما يدعى من حقوق الإنسان، والسلام العالمي، ونشر الحرية فذلك مجرد كلام لا رصيد له من الواقع، والشرعية الدولية التي يزعمونها ليست إلا وسيلة لإمضاء إرادة الدول القوية على الدول الضعيفة، في شكل يحفظ ماء وجه الحكام الضعاف عند شعوبهم، وهذه جملة لا يحتاج المرء فيها إلى إقامة الدليل؛ إذ يكفي النظر إلى أحوال العالم اليوم ليظهر الدليل على ذلك بلا خفاء.
لقد تبين للعالم أجمع أن كل المسوغات التي زعموها لشن الحرب على العراق كانت كذباً في كذب، ولست أشك أن أمريكا كانت على يقين كامل، وهي تشن الحرب على العراق، وتستنفر دول العالم في حملتها الظالمة بأن العراق لا يمتلك شيئاً من هذه الأسلحة المدعاة، ولو كانت أمريكا تشك مجرد شك أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل صالحة للعمل، لم تقدم على دخول الحرب بهذه الصورة التي لم يظهر فيها على الجنود أو المعدات أي أثر للاحتياطات التي ينبغي اتخاذها في مثل تلك الحالات، تحسباً لاستخدام تلك الأسلحة؛ فلما حدث الغزو، وانتهى كل شيء، وبدا لهم أنهم حققوا أو قاربوا ما أرادوا، لم يهمهم أن يعلنوا على العالم أنهم لم يعثروا على أسلحة الدمار الشامل التي كانت مسوغاً للغزو، وأنهم قد لا يعثرون عليها مستقبلاً، حتى اعترف المسؤولون فيهم بعد ذلك بكل برود أن ملف أسلحة الدمار الشامل في العراق قد جرى التلاعب فيه من قِبَل المخابرات عن قصد وعمد، ولنا أن نتساءل: هل جرى التلاعب فعلاً من المخابرات، أم أنه قد طلب ذلك منهم؟ والشيء الغريب أنهم بعد فضيحتهم في ذلك يقولون: لكننا وإن لم نجد الأسلحة، فإن العراق كان في نيته أن ينتج هذه الأسلحة، وهو منطق معوج وهو نفس منطق الذئب مع الحمل المعروف في التراث الشعبي. وبغض النظر عن الحديث بأنه لا حق لهم في منع أحد من امتلاك أسلحة هم أنفسهم يملكونها، بل هم أول من استخدمها فقتلوا بها مئات الآلاف من المدنيين اليابانيين من الرجال والنساء والأطفال غير أضعاف ذلك العدد من المصابين، مع تخريب الأرض والتربة في تلك الأماكن لأكثر من خمسين سنة؛ حيث جرى ضرب مدينتي نجازاكي وهيروشيما اليابانيتين في الحرب العالمية الثانية، وذلك في لحظات من دون أية دواعٍ عسكرية تدعو لذلك؛ حيث إن هاتين المدينتين لم تكونا من المدن العسكرية، وإنما فُعل ذلك فقط من أجل إلقاء الرعب والفزع في قلوب الشعب، والقيادة، وفرض شروط الاستسلام؛ فلأجل تحقيق ذلك جرى ضرب اليابان بكل قسوة، دون التحلي بأي قدر من المسؤولية الأخلاقية في ذلك؛ فمن يستطيع الآن بعد التيقن من كذب هذه المسوغات، واعترافهم أنفسهم بذلك أن يعوض الشعب العراقي عما حدث له نتيجة كذب المخابرات أو خطئها؟ وأين الشرعية الدولية التي يزعمونها؟ وماذا قدمت لشعب العراق المسكين سوى إسباغ الشرعية على الاحتلال؟ لكني لا أنظر إلى ما تم في ذلك على أنه خطأ مخابراتي؛ فإن النظر إليه على هذا النحو هو نوع من البلاهة، بل هو أمر مقصود رُتب له بعناية على مدى سنوات متطاولة.
٢ ـ إن من أكبر الأخطاء الفادحة أن نروِّج في وسائل إعلامنا، أو أن نقبل أن يروج أحد بيننا أن أمريكا بلد الحرية والعدل والمحافظة على حقوق الإنسان وكرامته؛ فإن هذا مما يسهل عليها غزونا فكرياً واحتلالنا عسكرياً. ألم يقتل في الحرب الأمريكية على العراق أكثر من مائة ألف نفس؟ فأي شيء يسوّغ لأمريكا قتل هذه النفوس، أو التسبب في قتلها؟ إن العراقيين لم يهاجموا أمريكا ولم يبدؤوها بقتال، بل الأمريكان وحلفاؤهم هم الذين جاؤوا من وراء البحار، ومن على بعد آلاف الكيلو مترات، فنزلوا أرضهم، وقتلوا رجالهم ونساءهم وأطفالهم، وسجنوا شبابهم، وعذبوهم بطرق وأساليب يندى لها الجبين خزياً وعاراً وشناراً، وتدل على همجية قلَّ أن يعرف التاريخ لها نظيراً. وهل كانت أمريكا تعرف معاني الحرية والعدل وحقوق الإنسان وكرامته، وهي تقدم الدعم غير المحدود لعصابات اليهود التي قامت بالاستيلاء على فلسطين بعد أن مكنتهم بريطانيا من ذلك؟ هل عرف التاريخ مثل هذه المأساة؟ قوم يأتون من بلاد بعيدة متفرقة فينزلون أرضاً فيقتلون أهلها ويشردون من بقي منهم، ويستولون على أراضيهم وممتلكاتهم، ثم يجدون من يدافع عنهم ويؤيدهم ويناصرهم، بل يعدون أهل الأرض وأصحابها الذين يدافعون عن أرضهم، وأموالهم من الساعين في الأرض بالفساد، الذين يجب سحقهم والقضاء عليهم؟ لكننا ما لنا نذهب بعيداً، أليست أمريكا نفسها قامت على المبدأ نفسه؟ ألم يستولِ أجداد الأمريكان على الأرض من أهلها الأصليين الهنود الحمر؟ ألم يقوموا بعملية إبادة منظمة لهم؟ أليس من الكذب والتضليل الذي يقوم به بعض من هم من بني جلدتنا أن يقال: إن أمريكا تعرف معاني الحرية والعدل وحقوق الإنسان، وأنها في تصرفاتها تعمل على تحقيق ما تعرف من تلك المعاني؟
٣ ـ خذوا حذركم! لقد أمرنا الله ـ تعالى ـ بذلك، وإن أوْلى ما يستدعى فيه الأخذ بالحذر هي الأوضاع التي نحن فيها؛ ففي ظل تفرد دولة بالقوة الباطشة وأحلامها غير المحدودة في التوسع والتمدد، وبسط سلطانها، ونفوذها، وفرض ثقافتها ودينها على العالم، ومحاربة ما يخالف ذلك من ثقافات وعقائد، ما يجعلنا موقنين أن المعركة بين جند الرحمن وبين عبيد الشيطان قادمة لا مفر منها؛ إذ هما نقيضان لا يلتقيان، ونحن نخوضها في هذا الظرف بصفتها معركة مفروضة علينا، ولسنا نحن الذين فرضناها، ونحن ندخلها حين ندخلها في هذا الوقت كارهين مرغمين، ومثلنا في ذلك مثل القائل:
إذا لم تكن غير الأسنة مركباً فما حيلة المضطر إلا ركوبها
وليس سوى ذلك إلا الذل والهوان، وتسليم أمرنا للصليبيين: يقتلون من شاؤوا، ويستعبدون من شاؤوا، ويشردون من شاؤوا، ولن يقبل الصليبيون من المسلمين أقلّ من ذلك، وتاريخهم معنا معروف في القديم وفي الحديث؛ فرغم عقيرتهم التي ترتفع صباح مساء مطالبة الدول العربية بالإصلاح، فإنهم لا يقبلون الإصلاح الحقيقي؛ لأن الإصلاح الحقيقي إنما ينحصر في اتباع شرع الله ـ تعالى ـ وعدم الخروج عليه كما قال نبي الله شعيب ـ عليه السلام ـ: {إنْ أُرِيدُ إلاَّ الإصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ} [هود: ٨٨] فسوف يمانع الصليبيون في أية خطة حقيقية للإصلاح، وسوف يسعون في تخريبها؛ لأنها تهدد مصالحهم، وتقضي على أطماعهم، وهم يسعون لإقرار خطط الفساد تحت اسم خطط الإصلاح تزويراً وكذباً؛ لأن الإصلاح الذي يسعون إليه هو الإصلاح من وجهة نظرهم، وهو الذي يحقق مصالحهم، حتى وإن أضر بمصالح البلاد والعباد. إن النظر إلى المشروعات الصليبية على أنها خطط للإفساد ليس نابعاً فقط من الرؤية الدينية، بل هي إفساد حتى من المنظور القومي أو الوطني؛ فالقومي أو الوطني الحقيقي الذي يحرص على مصالح قومه ووطنه ويسعى في سبيلها حتى ولو لم يكن إسلامياً، سوف يرى بكل وضوح أن الإصلاح الأمريكي ضد القوم والوطن؛ لأنه في النهاية إذابة للقوم والوطن في مسلاخ الأمركة؛ فالجري أمام الصليبيين وقبول ما يأتون به، والاستسلام لهم ليس طريقاً لأمن شرهم، بل هو طريق الهلاك والدمار؛ وإنْ وعد الشيطان ومنّى بغير ذلك؛ فلا ينبغي أن نفعل معهم كما فعل بعض المسلمين من قبلُ مع التتار؛ حيث كان التتري يخرج على جماعة من المسلمين، وليس معه ما يقتلهم به، فيقول لهم: مكانكم حتى آتي بالسيف فأقتلكم! فما يستطيع أحد أن يغادر مكانه، ويظلون واقفين في مكانهم لا يبرحونه إلى أن يأتي التتري بالسيف فيذبحهم به ذبح الشياه؛ وهذا ما لا يرضاه مسلم لنفسه، ولا لأمته التي شرفها الله ـ تعالى ـ وجعلها خير أمة أخرجت للناس، تلك الأمة الحاملة للرسالة الخاتمة، والتي كانت تحرص على الموت في سبيل الله، كما يحرص أعداؤنا على الحياة، بل علينا أن نقف وقفة الأسد عندما يُهاجَم عرينه، ولسان حالنا قول الشاعر:
ولست بمبتاع الحياة بسبة ولا مرتق من خشية الموت سلما
تأخرت استبقي الحياة فلم أجد لنفسي حياة مثل أن أتقدما
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ولكن على أقدامنا تقطر الدما
فلا مناص لنا أن نوقن بحتمية المواجهة وبقرب ساعة النزال، فنستعد لذلك ونتجهز ونأخذ الأهبة ونعد العدة المستطاعة، امتثالاً لقوله ـ تعالى ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: ٦٠] وإني والله لموقن من نصر الله للمسلمين ومن هزيمة الكافرين، رغم ما عندهم من القوة وفراغ أيدينا من كثير من أدواتها ووسائلها؛ فإن القوم علاوة على كفرهم قد طغوا وبغوا وأكثروا في الأرض الفساد، وأتوا بكل أسباب الخذلان لهم من الله، فاستحقوا بذلك أن يكتب الله عليهم الهزيمة والخزي.
ولم يبق لتحقيق ذلك في عالم الواقع إلا أن يحقق المسلمون شروط النصر، حتى يحقق الله لهم ما وعدهم به؛ فإن الله لا يخلف وعده، وإن سنته لا تتبدل.
- شروط النصر:
ومن شروط النصر: أن ننصر الله. قال الله ـ تعالى ـ: {إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: ٧] ونصر الله هو نصر دينه وكتابه وسنة نبيه، فأعظم مخزون استراتيجي عند الأمة هو دينها الذي أعزها الله به، وهو أعظم سلاح تمسكت به، وبتحقيقها له وتمسكها بأحكامه حققت النصر في المعارك الصعبة، وإننا لو فتشنا حياة العرب كلها على مدى تاريخهم القديم والحديث، لم نكد نجد لهم من نقطة مضيئة إلا يوم أن آمنوا بالله ورسوله، وعضّوا على ذلك بالنواجذ، ولولا الإسلام لما راح العرب ولا جاؤوا، ولذلك لا يمكننا الحديث عن النصر الكامل، أو النصر المستقر ـ لا مجرد نصر زائف أو نصر خاطف مؤقت ـ إلا مع الالتزام بالإسلام، والتمسك به، والرجوع إليه.
ونحن بحاجة إلى جهود مخلصة مع عزمات الرجال الأشداء لنحقق نصر الله، حتى ينصرنا الله ـ تعالى ـ كما وعد من ينصره بنصرٍ من عنده، ولا مجال هنا للتفاصيل، ويكفي كل دولة من دول المسلمين أن تستعين بمجموعة من العلماء البارزين المخلصين ـ وهم كُثر بحمد الله ـ تعالى ـ وهم قادرون بإذن الله ـ تعالى ـ على وضع الخطط الجيدة، والسريعة، والقابلة للتنفيذ في عالم الواقع، للعودة بالأمة إلى دينها في جميع المجالات: السياسية، والاقتصادية، والقضائية، والتربوية، والجهادية، والإعلامية. وينبغي على الدولة المسلمة أن تعتمد هذا الاتجاه؛ فتذلل أمام العلماء الصعوبات التي تعترضهم، وتمدهم بما يحتاجون إليه من رجال أو مال أو دعم؛ أي يكون هذا المشروع مشروع دولة لا مشروع فئة من الناس صغرت أو كبرت؛ فإن الخطر الداهم هو خطر بحجم الأمة كلها. وينبغي أن يكون التحدي المقابل بالحجم نفسه.
ومن شروط النصر: الاتحاد؛ فالاختلاف والتنازع سبب للهزيمة والجبن والضعف، وإفساد الخطط وضياع الأهداف. والوقت الآن ليس وقت حروب داخلية، أو نزاعات بين أقلية وأكثرية، أو بين حكومة ومعارضة، أو بين عدة اتجاهات سياسية، والوقت يمر بأسرع مما نتصور، والإعداد الجيد يتطلب وقتاً مكافئاً، وخاصة في مثل الأوضاع التي نعيشها في ظل البعد عن الفهم والالتزام الحقيقي بالدين؛ فالحرب القادمة تستهدف الجميع، ولا تعتد بهذه التفاريق والاختلافات التي بين المسلمين، أو بين الحكام والمحكومين؛ فالجميع أعداء بالنسبة للصليبيين، وما يظهرونه من اعتداد ببعض الفرق، أو الجماعات، أو الحكومات فإنما على اعتبار أنها مرحلة تكتيكية تخدم مخططهم الكبير؛ فهي إذا ناصرت بعضاً وأظهرت لهم المعاونة والتأييد فإنما ذلك لتحقيق أهداف خاصة بهم، كأن تناصر فريقاً وتمده بالعون ليقضي على الفريق الآخر، وفي ذلك إضعاف للجميع، أو تناصر المجاهدين للقضاء على عدو مشترك كما حدث في الحرب الأفغانية الأولى؛ فقد ناصرهم الصليبيون (وإن كان ذلك حدث بطريق غير مباشر عبر الأبواب الخلفية) من أجل القضاء على الشيوعيين؛ فلما تم لهم ذلك قلبوا للمجاهدين ظهر المجن، والدروس في التاريخ كثيرة، والواقع ماثل مشاهد للعيان، ومن لا يعتبر فإنه يجني ثمار ذلك علقماً وحنظلاً، يجنيه على نفسه وعلى قبيله، فلا مسوغ للاختلاف بين المخلصين الذين يرجون رحمة الله، ويحرصون على مصالح دار الإسلام؛ فالعدو يستهدف الجميع، ونصر دين الله هو عمل الجميع، وقد قال ـ تعالى ـ محذراً من التنازع والاختلاف: {وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: ٤٦] ويعظم التنازع، ويكثر الاختلاف عندما يكون الأعداء على مشارف البلاد، وهذا أمر لا بد أن يدركه الجميع، وليس المطلوب أن يدركه فريق بينما بقية الفرقاء يغطون في نوم عميق: لا يهمهم ولا يعنيهم غير تحقيق مصلحة حزبهم أو جماعتهم، بمنظارهم الضيق، تلك المصلحة الحزبية أو الفئوية التي لا يمكن أن تستوعب مصلحة الأمة كلها.
ومن شروط النصر: إعداد المستطاع من القوة، وقد تعددت وسائل القوة، واختلفت صورتها من جيل إلى جيل، والمطلوب أن يعد المسلمون ما استطاعوا من القوة المناسبة لعصرهم، كما جاء الأمر بذلك في كتاب الله ـ عز وجل ـ فقال ـ عز من قائل ـ: {وَأَعِدُّوا لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ} [الأنفال: ٦٠] . إن من فوائد إعداد العدة أنها تقوم بوسيلة الدفاع من حيث لا يدري المسلمون؛ فاستعداد المسلمين وتحصنهم بالآلات والوسائل القتالية المناسبة لعصرهم، تلقي في قلوب الأعداء الذين لا نعلمهم أو لا نعلم بعداوتهم الرعب والخوف، فلا يجرؤون على العدوان علينا، ولذلك جاء قوله ـ تعالى ـ بعد الحديث عن إعداد القوة فقال: {تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ} [الأنفال: ٦٠] فأَمْر الله ـ تعالى ـ بإعداد ما يستطاع من القوة، يعني أن المسلمين مكلفون بذلك، وأن التهاون أو التفريط فيه يعرضهم لعقاب الله تعالى، بل عليهم أن يبذلوا جهدهم ما استطاعوا وأن يستفرغوا وسعهم، ثم بعد ذلك يقال: «لا يكلف الله نفساً إلا وسعها» أي لا يكلفها ما تعجز عنه، أو ما لا يمكنها فعله إلا بمشقة شديدة، تخرج عن حد الوسع والطاقة، وغير ذلك فإنما هو التهاون والتخاذل.
وفي واقعنا المعاصر يمكننا أن نحدد أربع مجالات من مجالات إعداد القوة:
أولاً: المجال التربوي: فإن المجتمعات تقاس قوتها اليوم بما لديها من نظم تربوية وتعليمية قادرة على إعداد الأجيال وتهيئتها، وفق عقيدة المجتمع وثقافته. وعلينا نحن في هذا المجال أن نعتني بالتربية في الجانب الشرعي التي تحفظ علينا ديننا، كما نعتني بالتعليم في الجانب التقني الذي يمكننا من مواكبة العصر وعدم التخلف عنه، من غير أن ينفي أحدهما الآخر؛ إذ لا تعارض بين الأمرين؛ فإن تعلم المعارف الدنيوية التي تحتاج إليها المجتمعات من فروض الكفايات، كما بيّن ذلك أهل العلم، ونصوا عليه في مصنفاتهم، والإنسان ينبغي له أن يتخصص في جانب بعد أن يكون قد حصل الأمور الأساس في بقية الجوانب، كما أن ما عرف بـ «سياسة تجفيف المنابع» أي منابع التدين في المجتمعات الإسلامية والتي اعتمدتها بعض المؤسسات الحاكمة، لا تكون إلا معولاً من معاول الهدم في يد الأعداء، كي يهدموا بنياننا، ويقوِّضوا صروحنا، ويستولوا على ديارنا وثرواتنا. إنّ فهم الدين الفهم الصحيح، والعمل به، والدعوة إليه على بصيرة، وإزالة كل ما يعارضه ويخالفه: هو صِمَام الأمان للمجتمعات في داخلها وخارجها. إن الدين هو الذي يُنشئ مجاهدين أقوياء شجعاناً ومقاومين، لهم بأس شديد أمام عدو الإسلام والمسلمين، وإن العناية بالتعليم في الجانب التقني تجعل أبناءنا يحوزون خبرات ومعارف العصر، حتى يمكن لنا أن نقيم مصانعنا بأيدينا، وننتج ما نحتاج إليه، فلا نكون عالة على غيرنا، حتى نستورد منهم أتفه الأشياء في بعض الأحيان، بحجة رخص ثمنها وجودة صناعتها، ومتى يمكن لنا أن نتقدم في هذا المجال إذا ظللنا نعتمد سياسة الاستيراد، إنّ من أهم ما ينبغي أن نحرص عليه في مجال التقنية أن تكون بلادنا قادرة على إنتاج سلاحها الذي تحمي به نفسها ورعاياها، فتحمي بذلك البلاد والعباد من بأس الكافرين وظلمهم، وليس من المعقول أو المقبول أن تنتج كثير من الدول على اختلاف مللها النصرانية، واليهودية، والبوذية، وعباد البقر والوثن، كثيراً من أسلحتها التي تحتاج إليها لتحقيق أهدافها ولحماية أراضيها، بينما يقف المسلمون وحدهم يتسولون السلاح.
ثانياً: المجال التثقيفي: وهذا دور وسائل الإعلام الملتزمة بعقيدة بلدها وثقافة أمتها؛ حيث تقوم بتثقيف العباد وتبصيرهم؛ ببيان الحقائق، وكشف مخططات الأعداء وأساليبهم، ومن يجاريهم ويسير في دربهم وعلى مناهجهم، حتى تتكون لدى عامة المسلمين ثقافة المناعة والامتناع أمام الغزو الفكري، لا أن تكون تلك الوسائل هي رأس الحربة، والجسر الذي تعبر عليه كل الفلسفات الباطلة، والأخلاق الهادمة؛ فالإعلام لا بد أن يعد نفسه هو رأس الحربة والجسر الذي يعبر عليه المسلمون لفهم واقعهم على الوجه الصحيح، وفهم أعدائهم وخططهم وطرقهم، وأن يحصنهم ضد كثير من أفكارهم التي تتناثر عبر الفضائيات وشبكات الإنترنت تناثر الهوام؛ لأن تنويم الشعوب، وإشعارها بالطمأنينة الكاذبة، وعدم إطلاعها على حقيقة تربص الأعداء بها، لا يصب إلا في مصلحة العدو، بل يعد ذلك نوعاً من مشاركة العدو في استهدافهم لبلادنا. ولو أردنا أن نحدد للإعلام أهدافاً يجول من خلالها، وهو يقوم بدوره الإعلامي لقلنا: إن على الإعلام أن يعمل على بيان الحقائق وتوضيحها، وخاصة المتعلقة بعلاقة الغرب بالإسلام والمسلمين، وتوحيد قوى الأمة كافة، وإزالة ما بينها من فرقة واختلاف، أو شحناء، وإشاعة التراحم بين الناس، وحثهم على التعاون والتكامل، وشحذ الهمم نحو البذل والعطاء، والجهاد في سبيل الله؛ فمن خلال العمل على تحقيق هذه الأهداف يقوم الإعلام برسالته الإعلامية.
ثالثاً: المجال الاقتصادي: صار الاقتصاد اليوم من أهم عناصر القوة، لذلك كانت تقوية الاقتصاد في بلاد المسلمين تقوية للأمة في معركتها المفروضة عليها من أعدائها، وأول خطوة في تقوية الاقتصاد هو اجتناب الربا اجتناباً كاملاً تاماً؛ لأن أصحاب الربا مخذولون غير منصورين؛ إذ الربا والخذلان قرينان، وقد آذنهم الله بالحرب فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * فَإن لَّمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [البقرة: ٢٧٨ - ٢٧٩] ... الآيات؛ فمتى يُنصر من يحاربه الله ورسوله؟ وقد بيّن الله ـ تعالى ـ أن الربا لا فائدة فيه، وأن عاقبته إلى قُلٍّ وإن كثر؛ كما قال ـ تعالى ـ: {يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا} [البقرة: ٢٧٦] . ومن ذلك أيضاً نشر ثقافة الاستهلاك الرشيدة التي تهدف إلى الحصول على الاحتياجات من غير إسراف، أو توسع في الكماليات، وزيادة الإنتاج، وتجويده وتنويعه، حتى يغطي أكثر احتياجات السوق المحلية؛ مما يحفظ قوة العملة، وقدرتها في الأسواق المالية، والاستغناء عن الاستيراد في كثير من الأمور إلا ما لا بد منه، والعمل على أن يكون لدينا فائض من إنتاجنا، نصدره لضمان قوة اقتصادنا؛ وهذه بلا شك أمور لا تتم بالأماني والرغبات، بل هي في حاجة إلى تخطيط جيد من عدة نواحٍ، وليس في هذا مشكلة؛ إذ المخططون الأكفاء موجودون، والمطلوب الآن الاستعانة بهم، وعدم تهميشهم، والعمل بما يشيرون به في هذا المجال، وقد جربت أمتنا كثيراً من الخطط الاقتصادية، سواء ما ينتمي إلى الفكر الغربي الرأسمالي، أو الفكر الشرقي الشيوعي أو الاشتراكي، ولم تجن من وراء ذلك تقدماً أو تحسناً، بل الأوضاع الاقتصادية تزداد سوءاً بمرور الأيام؛ فهذه الديون على الدول قد زادت زيادات غير معقولة، حتى إنها لو وزعت على أفراد بعض الدول ذات التعداد الكبير لكانت كل نفس فيها (حتى الأطفال الرضع) مدينة بعدة آلاف من الدولارات، ولم يبق للدول إن أرادت الخير إلا أن تبحث عن الخطط التي تنطلق من الفهم الإسلامي للاقتصاد، وهم مدعوون إلى ذلك من منطلق الدين أولاً: لأن هذا هو الفرض عليهم، ومدعوون إليه ثانياً: من قِبَل الدنيا؛ لأنه هو الكفيل بتحقيق الحياة السعيدة بعيداً عن الحياة التعيسة البئيسة.
رابعاً: المجال العسكري: وهو أشهر مظاهر القوة وأصرحها، وعليه يقع عبء كبير، لكنه إذا لم تسانده المجالات المتقدمة؛ فإن فعاليته تكون ضعيفة، والناس تنقسم في هذا المجال إلى عسكريين ومدنيين، لكن هذا التقسيم إنما ينظر إليه عند جهاد الطلب، أما عند الدفاع عن الحرمات والحريم، والعيال والديار؛ فإن الجميع من عسكريين ومدنيين يطالبون بذلك، ولا أثر لذلك التفريق على توجه الطلب للجميع. واستعداداً للجولة القادمة التي يفرضها علينا أعداؤنا في تلك الظروف، وحالات الضعف التي تمر بها الأمة، فإنه ينبغي علينا أن نقوم بتدريب الجيوش تدريبياً حسناً، وأن نمدها بالأسلحة الحديثة المتقدمة المتطورة، مع إجراء المناورات المتعددة واختبار القدرات، وربط ذلك كله بالجانب العقدي في المحافظة على الدين، وحماية دار الإسلام، وشحن العسكر شحناً إيمانياً عن طريق جهاز التوجيه الديني المعاون للجيوش. وإذا كانت الجيوش بما لديها من أسلحة قديمة وغير متطورة، لا تستطيع بعد بذلها لما يمكن بذله من النفوس أن تحقق التفوق والتغلب على أسلحة الأعداء؛ فإن هناك من أنواع الخطط العسكرية (التكتيك) التي يمكن اتباعها، والتي يمكن أن توقع بالعدو خسائر جسيمة لا يستطيع تحملها مع طول أمد المعركة، وهذه الخطط تعتمد على حرمان العدو من القدرة على استعمال السلاح الأكثر تطوراً، والذي لا يملكه أحد غيره سوى حلفائهم؛ فإذا أمكن تحييد هذه الأسلحة بالطرق المعروفة في الفنون العسكرية، صارت المعركة بيننا وبين أعدائنا تعتمد في أغلب جوانبها على السلاح التقليدي الذي يمكننا صناعته، أو الحصول عليه بطرق كثيرة من خلال المنافذ المتعددة. وهنا يظهر تأثير الجندي القوي المؤمن بقضيته وحقه، بل واجبه في الدفاع عن دينه وأمته ووطنه، ومع الإعداد الإيماني لجنودنا، إضافة إلى الإعداد العسكري الجيد، فإن النصر في صفنا بإذن الله، ولن نخسر المعركة أبداً من قِبَل نقص السلاح والعتاد، وإنما تأتي الخسارة من قِبَل ضعف العزيمة والوهن الذي يصيب النفوس، برغبتها في الحياة، وتغليب العيش الذليل على عز الجهاد والاستشهاد، وقد أثبتت الخبرة المكتسبة من عدة حروب، من آخرها الحرب الدائرة في العراق الآن بين المحتل الصليبي وبين أهل البلد المقاومين؛ أن الأسلحة التقليدية قادرة ـ بإذن الله ـ على فعل الأعاجيب، وإيقاع الخسائر البالغة بأصحاب القوة العظمى، وهذا يستلزم من دول المسلمين، وهي تخشى على نفسها من عدوان العدو الغادر الذي لا يقيم وزناً لأي شيء إلا ما وافق مصلحته الذاتية، أن تقوم بتدريب فئة قوية من الشعب (تتراوح أعمارها غالباً بين العشرين والأربعين) على مختلف الأسلحة إلى حد الإتقان، مع تكديس الكثير من هذه الأسلحة وذخيرتها في مخازن عدة متفرقة في أماكن مختلفة على طول البلاد وعرضها، بالإضافة إلى تمكين الشعوب من الحصول على ذلك السلاح عند قرب اقتحام الأعداء لحدود البلاد، مع تنظيم تلك المجموعات الشعبية، وترتيبها وتعويدها العمل الجماعي المنضبط، مع ما يتبع ذلك من تأمين وسائل اتصال جيدة بين تلك المجموعات، وغير ذلك مما يُحتاج إليه في ذلك، وهو ما يعرفه العسكريون بصورة أكمل وأشمل، وينبغي أن نجهز ذلك من الآن قبل أن يدهمنا العدو، فلا نملك التجهيز والإعداد إلا والعدو فوق رؤوسنا؛ فإن الأمر أعجل مما نتصور بكثير، وليس يمنع أعداؤنا من هذه الخطوة إلا عدم قدرتهم العسكرية على إشعال أكثر من حرب في أماكن متعددة، وخاصة بعد الصمود غير المتوقع من المقاومين العراقيين، ولو أن العراقيين سلَّموا من أول أمرهم، ولم يقاوموا بل استقبلوا ذلك بالتسليم والتاييد لتغير التاريخ والجغرافيا في منطقة الشرق الأوسط بأكملها.
إن المستقرئ للأحداث يدرك أن أحداث الحادي عشر من سبتمبر ليست هي المحرك الوحيد لما تلاها من أحداث، وإن حاول الصليبيون أن يروجوا ذلك، ولكنها كانت الظرف الأفضل الذي يمكن من خلاله عمل ما جرى التخطيط له منذ زمن. إن أمريكا بعد انهيار توازن الرعب بانهيار الاتحاد السوفييتي اشرأب عنقها نحو السيطرة الفعلية على العالم، وإن هذا قد جرى التخطيط له منذ فترة رئاسة (ريجان) ، بل قبل ذلك، ولكننا نحن الذين لم نتفطن لذلك ولم ننتبه له، وكان ينبغي علينا أن نحسب لهذه الأيام حسابها، وأن نعد لها العدة، فإن الذي يبدأ بالضربة الأولى هو الذي يملك زمام الأمر لفترة تطول أو تقصر بحسب قوته، واستعداده، وبحسب قوة الخصم، واستعداده لاستيعاب الضربة الأولى، ولا شك أن الذي يكون في وضع الدفاع يفقد جزءاً من قوته مع الضربة الأولى، وتتوقف استعادته لتوازنه على قدرته وتدريبه على مثل تلك المواقف، وكيفية مواجهتها ووضع الخطط المناسبة لها، ونحن وإنْ كنا لن نضرب الضربة الأولى لعدم استطاعتنا لذلك، بل سنظل ننتظر الضربة التي تقع علينا؛ فما زال في الوقت فسحة ولو قصيرة للمخلصين للتخطيط لتلقي الضربة الأولى، وكيفية العمل على إفسادها، ومن ثم العمل على إيقاف تلك الهجمة التي لو قدر لها أن تنجح فلن تبقي ولن تذر، وسيتحول المسلمون الطاهرون عندها إلى رعاة خنازير عند عباد الصليب. وبعدُ فنحن هنا لسنا دعاة حرب، بل في حالة دفاع عن الدين والنفس والمال والعرض، وكلها من الضروريات، ولسنا في حالة هجوم؛ فنحن لا نخطط للذهاب إلى بلادهم وديارهم ومهاجمتهم، وإنما ندعو أمتنا للتخطيط من أجل الحفاظ على ديننا وديارنا وأهلينا وثرواتنا، وليس في هذا عدوان على أحد، وإنما هو محاولة لرد العدوان، ومحاولة لزجر من تسول له نفسه أن يقترب من حياضنا؛ حتى يعلم أننا لسنا لقمة سائغة يسهل ابتلاعها وهضمها، بل يدرك أننا لقمة مُرَّة يصعب ابتلاعها، وأنه لن يشعر بالسعادة أبداً إذا حاول ابتلاعها، بل سيجدها أشواكاً ضخمة في حلقه مثل الكلاليب تسد حلقه، حتى تقضي عليه، {لِلَّهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَن يَشَاءُ} [الروم: ٤ - ٥] . وإني أرى أن تقوم الآن في كل دولة مسلمة هيئة هدفها العام إعداد الدولة للمواجهة والجولة القادمة، وهي هيئة حكومية أو مدعومة من الحكومة تتعاون فيها وزارات الدفاع، والدعوة، أو الأوقاف، والتعليم مع مجموعة من الكفاءات الشعبية، ومن أول ما ينبغي القيام به من هذه الهيئة أن تطلع الشعوب على ما يراد بهم؛ فإن عدونا لم يعد اليوم يخشى من التصريح بما يريد فعله في ديار المسلمين، فألفاظهم صريحة محددة، ومباشرة ليس فيها تورية؛ فلا بد من إطلاع أمتنا على ذلك، حتى تكون لديهم البصيرة بما يراد بهم، وماذا يريد هؤلاء منهم، وحتى لا ينخدعوا ببعض ما قد تبثه وسائل الإعلام التابعة، أو الموالية لهم، ولست أتمنى أن يأتي اليوم الذي يقف فيه الإنسان، كما وقف الشاعر العربي قديماً بعدما نصح قومه بالاستعداد للعدو فأهملوا نصحه، حتى فجأهم العدو ضحى على حين غرة، فحصل لهم ما حصل من الهزيمة والخسران؛ فوقف الشاعر وقال:
أمرتُهُمُ أمري بمُنعَرَج اللِّوى فلم يستبينوا النصح إلا ضحى الغدِ
أسأل الله ـ تعالى ـ أن يوفقنا وأمتنا، وأن يحفظ علينا ديننا وأمننا، وأن يرد كيد عدونا في نحره.