في إشراقة آية
[أَصْلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ]
- ٢ -
د. عبد الكريم بكار
ب- رفض التعميم:
لقد تعقدت الحياة وكثرت التفاصيل فيها إلى درجة جعلت تعميم الأحكام في
أكثر الأحيان أمراً بعيداً عن الحقيقة؛ وصار التعميم في لغتنا في إحدى أهم الثغرات
التي ينفذ منها لهدم ما نقوله وتمييع القضايا التي نعرضها.
على أن التعميم مرفوض في المنهج الإسلامي بصورة عامة، ومن ثم كثرت
الآيات في الكتاب العزيز التي ترد فيها كلمة (أكثر) ، وكلمة (كثير) بمعنى أكثر،
كما أن في السنة ما ينسجم مع هذا من مثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: (إن
أعظم الناس فرية لرجلٌ هاجى رجلاً فهجا القبيلة بأسرها) [١] .
والمحدثون الذين يتسم عملهم بالدقة والإتقان كانت لهم تفريقات رائعة في
أبواب نقد الرجال والحكم على الأحاديث من مثل قول مالك - رحمه الله -: «إن
من شيوخي من أتبرك بدعائه، ولكن لا أقبل روايته» ، ومن مثل قولهم: فلان
صدوق إلا أنه غير ضابط..
فالتعبير بـ (الاتجاه العام، أو الانطباع العام، أو الأقرب أو الأكثر) هو
الأدنى من الحق والأكثر انسجاماً مع لغة العصر.
ج - النفور من الوعظ المباشر:
عكر النسيج الثقافي القائم اليوم الرؤية عند كثير من الناس، كما أفسد الكثير
من الفطر السليمة، كما أدى نمو الخصائص االفردية في صورة مرضية في بعض
الأحيان، كما أدى إلى تضخيم الخصوصيات لتنسحب على كثير من شؤون الحياة
العامة التي هي أقرب إلى العموميات، وقد أدى ذلك كلته إلى تكوين مزاج لا يرتاح
للوعظ المباشر، وصار ينظر إليه في بعض الأحيان على أنه خروج عن اللباقة
والآداب الاجتماعية المرعية، أضف إلى هذا أن انخفاض نوعية الدعاة -كما هو
شأن أكثر الأمة- في جانب الالتزام يجعل قبول الناس للموعظة أمراً غير سهل.
ومن ثم فلابد من الاعتماد على الإيحاء والتلميح وضرب الأمثال وغيرها
أسلوباً للخطاب وزكانة الداعية تفتح له في كل يوم آفاقاً جديدة في هذا.
د - الاختصار:
الناس اليوم في عجلة من أمرهم؛ حيث إن المستوى المادي الذي يطمحون
إليه جعل الوقت يضيق عن الشروح الطويلة وتكرار البديهيات واستخدام
المترادفات، مما يقتضي الإيجاز - غير المخل - في إيصال الأفكار والمعلومات إليهم، وصار الإطناب من فضول القول.
هـ - الضيق بالمبالغات:
مرت على أمتنا بعض الفترات التاريخية التي سادت فيها المحسنات البديعية،
وصار إطلاق الألقاب الفخمة يجري دون أي اعتبار أو تحاكم إلى الواقع، ويقف
المرء على هذا في مقدمات بعض الكتب، وما يطرز به أسماء مؤلفيها من الصفات
التي تبتعد عن الحقيقة قليلاً أو كثيراً؛ لأنها لا تستند إلى قاعدة من المعلومات
الصحيحة كما في قولهم:
البحر العلم المجدد جمال الدين فريد عصره ووحيد دهره الذي لم تقع العين
على مثله ... وتطلق هذه الأوصاف على عشرات من العلماء الذين يعيشون في
عصر واحد أو في بلد واحد في بعض الأحيان. وكانت هذه الإطلاقات مجافية لما
عرف عن سلف هذه الأمة، بل لما عرف عن منهجه - صلى الله عليه وسلم -
حيث أثنى على كثير من أصحابه، ووصفهم بصفات محددة، فواحد أعلمهم
بالقراءة، وآخر بالقضاء، وثالث بالصدق، وهكذا..
ولم تقتصر المبالغة على إطلاق الألقاب، بل تجاوزت ذلك إلى أن أصبحت
جزءا من الاعتبارات الذهنية والعلمية عند كثير من الناس، وقد عاد الأمر إلى
نصابه في لغة العصر، وصارت المبالغة مملولة ممجوجة.
و التجديد:
كان من خلق بني إسرائيل أنهم لا يصبرون على طعام واحد، وقد انسحب
هذا الخلق اليوم على كثير من جوانب الحياة في المسكن وترتيب أثاثه، والملابس
وأشكال تفصيلها، والمراكب وأنواعها، وشأنهم في القضايا المعنوية نحواً من ذلك، فهم تواقون إلى الجديد من المعاني والأفكار والأساليب، وصاروا يشعرون بجمود
من لا يواكبهم في ذلك وقصوره، وليس في التجديد ما يذم إذا تم مع المحافظة على
الأصول والثوابت، بل قد لا تتم المحافظة على الأصول إلا من خلال التجديد في
الوسائل والأساليب، حيث تعرض بأشكال تنسجم مع روح العصر.
ز- المعالجة العملية:
تقدم العلوم على الصعد العملية شكل حس الناس ومنطقهم العام، في الميل إلى
الواقعية والارتياح في الصيغ العملية، ونظام الخطوات المتتابعة، التي تسلم كل
واحدة منها إلى الأخرى في الوصول إلى هدف أو حل مشكلة، وصارت الحاجة
ملحة إلى (كيف) ، ولم يعد طرح المبادئ كافياً وحده، فما عاد كافياً الترديد لنحو:
لابد من رفع المستوى الخلقي لدى الفرد، أو لابد لنشر الدعوة بين الناس، بل أنت
مطالب بأكثر من هذا، مطالب ببيان الإمكانات المتاحة، ثم بيان المنهج والخطط
والأدوات التي يمكن استخدامها في الاستفادة من تلك الإمكانات؛ وذلك لأن تعقد
الأشياء وتشابكها يحتاج إلى نوع مكافئ من تعقد الفاعلية على مستوى الخطط
والأساليب والأدوات.
ح -عدم قبول تفسير الظواهر الإنسانية بعامل واحد:
الإنسان ذو أبعاد فسيحة وأغوار عميقة، وكل الظواهر التي تتصل به ...
على درجة عالية من التعقيد في الأفكار والمبادئ والمواقف والعادات، وفي ... الاجتماع والاقتصاد ... كل أولئك يتشكل ويتبلور نتيجة نسيج معقد من العوامل.
وإذا كان هذا هو الواقع فإن تفسير أية ظاهرة إنسانية وتعليلها بعلة مفردة غير
صحيح ولا دقيق؟ فلا يمكن أن يقال مثلاً إن الشعب الأفغاني صمد في وجه
المحتلين بسبب إيمانه أو بسبب صعوبة تضاريس أرضه من جبال وكهوف، أو
بسبب رصيد الفطرة لديه، أو بسبب العون الخارجي..
إنه لم ينفرد سبب واحد من هذه الأسباب بولادة ظاهرة الصمود، بل إنها
جميعاً مع أسباب أخرى أسهمت في إيجاد وضع متميز يستمد تميزه من خصوصية
شروطه وأسبابه. وهكذا ...
كيف نمتلك لغة العصر؟
في العالم اليوم ما يسمى بثورة المعلومات مما يفرض على المثقف المسلم أن
يرسم لنفسه خطة تثقيفية خاصة تناسب رغباته واختصاصه العلمي، والمهمة التي
ندب نفسه لها. والمشكلة الكبرى في عزوف كثير من الناس عن القراءة فأمة (اقرأ)
ما عادت تقرأ مما خلق نوعاً من الخلخلة الثقافية في ساحتنا الفكرية، وجعل كثيراً
من أهل الخير عاجزين عن فهم لغة العصر، وإذا عزم المرء على القراءة فلابد له
من القراءة الواسعة في شتى أنواع المطبوعات، وعليه أن يقرأ لكل المدارس حتى
لا يقع فريسة للانغلاق الفكري أو ضحية للأفكار الفقيرة التي تظهر في أساليب شتى.
ولابد لمن يريد أن يسير في طريق الانفتاح الثقافي من ثقافة شرعية أساسية
يتمكن بها من تحديد الثوابت التي أكبر فضائلها دوامها واستقرارها، حتى لا
ينجرف مع نتاج المدارس والتيارات التي يقرأ لها.
كما لابد له من محاولة امتلاك منهج في التفكير يستند إلى وعي صحيح
بأحداث الماضي، ووعي جيد لظروف الحاضر، حتى يتمكن من امتلاك رؤية
واضحة لكيفية عمل سنن الله في الأنفس والآفاق. إن الذي يملك شذرات من
المعلومات كمن يملك قطعاً من الذهب، أما الذي يملك منهجاً ذا نماذج خاصة، فإنه
يمتلك مفتاح منجم من الذهب، فإذا حصل على هذا وذاك فإن الانفتاح في الاطلاع
يكون خيراً كله، وحينئذ يتجاوز الداعية مرحلة السيطرة على اللغة ليصبح من
موجديها ومؤهليها، ولكن لابد قبل الانهماك في القراءة من اختيار ما نقرأ، فلنقرأ
للعباقرة، ولأولئك الذين يقدرون مسؤولية الكلمة، والذين لا يدفعون بكتابهم إلى
المطبعة إلا بعد الاعتقاد بأنه يشكل إضافة جديدة للفكر الإنساني.
٣ - دوام نفعها:
إن الشجرة الطيبة التي ضربها الله تعالى مثلاً للكلمة الطيبة دائمة الثمار،
وديمومة عطائها نابعة من تناسق الصفتين السابقتين: ثبات الجذور، وبسوق
فروعها في جو السماء، والكلمة التي لا جذور لها لا تستطيع أن تصنع شيئاً.
والأفكار التي تبثها قصيرة العمر كزهور الربيع؛ والكلمة التي لا تنسجم مع لغة
العصر لا تستطيع ملامسة أعماق الإنسان الذي تقرع سمعه، والذي وصفناه بأنه
بالغ التعقيد. وقد ملكتنا هذه الآيات الكريمة المقياس الذي نتعرف به على الكلمة
الطيبة، وهذا المقياس هو: [تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ] ، فنحن إذا أردنا من هذا
المنظور أن نقيس أداء خطب الجمعة في عالمنا الإسلامي وآثارها في ترقية فهم
الناس للإسلام والتزامهم به وجدنا أن أطناناً من الورق تكتب أسبوعياً دون أن تؤتي
الثمار التي تتناسب مع حجم ذلك الجهد المبذول، ونعني به خطأ الأسلوب.
إن مهمة المسلم أن يعيش عصره ويكون مؤثراً لا متأثراً، وأن يكون له دور
في صياغة لغة العصر.
(١) أخرجه ابن ماجه والبيهقي قال الهيثمي: رجاله ثقات وإسناده صحيح.