خواطر في الدعوة
أمراض القلوب
(٢)
محمد العبدة
من يتأمل النفس البشرية ويسبر غورها فسيجد العجب العجاب من مداخلها
ومساربها، فهي إذا كرهت تبعد صورة من تكره بألف حيلة وتشوهها بألف لون،
وإذا أحبت فمثل ذلك أن تلجم وتفطم عن مثل هذه المداخل.
حدثني أحد الأخوة عن لقاء عابر مع صديق له وهو من العاملين في حقل الدعوة الإسلامية، قال: فوجئت بهذا الصديق يغمز ويلمز بأحد الدعاة الذين حسبهم من أهل العلم والصدق - ولا نزكي على الله أحداً - وكان يغمز ويلمز بطريقة ذكية استعمل فيها التلميح دون التصريح. وتعجبت من تلميحاته وكرهه لهذا الداعية، وهو لم يلتق به من قرب ولم يقرأ له. فقلت لهذا الأخ: لا تعجب، إنه الحسد والمعاصرة، أليس هذان الاثنان من بلد واحد ومن منطقة واحدة؟ قال: بلى. قلت: إذن سأسمعك ما كتبه أبو بكر الرازي في هذا الموضوع - والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها فهو أحق بها -:
«إننا نرى الرجل الغريب حكماً في بلد ما، متحكماً في أهله، ومع ذلك فلا
يكادون يحسون نحوه بكراهية أما أن يحكمهم رجل من أهلهم فالأغلب أن تنصب
عليه الكراهية، مع أنه قد يكون أرأف بهم من الحاكم الغريب، وسر ذلك هو محبة
الإنسان ٠لنفسه، مما يجعله تواقاً إلى أن يكون سباقاً لسواه من أبناء قومه، فإذا
رأى الناس أن من كان بالأمس منهم قد أصبح اليوم سابقاً لهم، مقدماً عليهم،
اغتموا لذلك وصعب واشتد عليهم سبقه إياهم، أما المالك الغريب فمن أجل أنهم لم
يشاهدوا حالته الأولى لا يتصورون قصورهم في كمال سبقه لهم وفضله عليهم،
فيكون ذلك أقل لغمهم وأسفهم» [١] .
والرازي ضرب مثلاً للحاكم ونحن ننقل هذا المثل لما يقع الآن مع الدعاة
والعلماء، فنجد الرجل صاحب العلم والفضل يتكلم في أقرانه أو من أهل بلده ما
لا يتكلم فيه الآخرون، وما يقطع هذا المرض القلبي إلا أن يفكر المسلم، ماذا
يستفيد من هذا الحسد في الدنيا غير وباله في الآخرة، ويفكر في نفسه أن فضل الله
يؤتيه من يشاء، ولا حرج في المنافسة في الخير والمزيد من العلم، وربما استطاع
أن يسد ثغرة في جانب من الجوانب لا يسدها أخوه المحسود!
إننا نسمع هذه الأيام من يفرح بأخطاء أخيه ليجمعها ويؤلف فيها كتباً! !
أهكذا أمر الإسلام أتباعه؟ أوهكذا تُضيّع الأوقات، إنها مصيبة - والله - أن تهدر
الطاقات ولا يتنبه الذي يصّب نفسه داعية لأمراض قلبه وإحن صدره، ويعالجها
بالدواء الشافي كما يعالج بدنه إن أصابه شيء، فيكون مرضياً عند الله وعند الناس.
(١) الطب الروحاني لأبي بكر الرازي، نقلاً عن كتاب: عن الحرية أتحدث /٧٣ زكي نجيب محمود.