للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[البيان الادبي ـ ولادة الصبح]

بدر محمد عيد الحسين

سُكونٌ ووجومٌ يلفان أفق الكون بمائه ويابسه، وشبحُ الظلام يقترب من الأشياء، ويلامسها، ويتغلغل فيها، ويزداد سواداً فتتحدُ طبقاته، وتتماسك خيوطه ليسدل ستارة سميكة على الكون، إنه ملعب الليل حيث يصول ويجول، إنها النشوة والذروة.

ومن بين ذلك الركام طفق الجنين الصغير ـ على قلة عزمه وضعف حاله ـ يتململ في رحم الكون ليطرد ما غشيه ببطء شديد.

أجنحة الفارس بدأت تضعف، وخيوط الظلام ها هي تنجابُ عن جبهة الوليد المنيرة، وها هي امتدادات العتم بدأت بالانكماش.

في خضم هذ المخاض المتداخل يتجرأُ ضياء الصبح فينسلُّ من غِمد الليل، وتصيح الديكة معلنة بدء الولادة، وتخرق المآذن جدران الصمت، فيستأنس الجنين ويتشجعُ ويصرخ ويتنفس تنفساً ينشر الضياء والعبير إلى أعالي الرُُّبا، وإلى دروب الحقول وأعشاش الطيور.

إنها ولادة الصبح المنير ... إنها ساعة من السَّحَر والتأمل ما أروعها! ساعة عذراء يكَلِّلُها الطُّهر، ويلفها الصفاء، ويزينها النقاء.

ساعةٌ هي أشبه ما تكون بلقاء الأحبة؛ حيث يغازل الصبح فيها أزهار الياسمين فتتفتحُ، وأكوام القش فتلين، وسنابل القمح المثقلة بحباتها، وأوراق الأغصان فتطربُ وتتمايل.

إنه جمال رباني صاغه الخالق عز وجل، جمالٌ تتحرك لأجله الشمس من مكانها فتشرقُ، وتُثار الطيور من وكناتها فتنطلق، وينسابُ الظلُّ من رقاده فيمتدُّ.

إطلالة يتحول فيها الشذا إلى ندى، والرياح إلى صَبا، والبراعم إلى زهور، والهواء إلى عطر تعجز أن تأتي بمثله مصانع الغرب وأشجار بخور الشرق. ذلك العطر خضَّبتهُ تراتيل الأذان، وهمسات الإيمان، وتدفُّق مياه الغدران. عطر يعرفه المشَّاؤون في الظلمات، والفلاحون في الربوات.

هذا الصباح هو اليسر والفرج، هو الرحمة والرضا. فمهما طال ليلك يا أيها المهموم! فلا بد من أن يأتي الصباح الندي ببشائر الخير.

ومهما تأخر شفاؤك يا أيها المريض فاعلم أن كف الرحمة تحمله إليك فلا تتعجل ـ يا أخي ـ مجيءَ الفرج وقدوم البشائر؛ لأن الله عادل ورحيم.

وثق أنه جل جلاله لن يحرمك من ساعة فرح تغسل شحوب الحزن، وركام الألم، وتحوِّل الدموع الساخنة التي ألهبت صفحات خديك إلى قطرات غيث تُنبتُ الكلأ في رياض نفسك، ليتحول خريف قلبك إلى ربيع ينشر الفرح والجمال على امتداد خريطة روحك الزكية.

واعلم يا من أدار ظهره للأمل! أن مع العسر يسرين، واعلم أن أعذب المياه تلك التي تنبجس من أصلب الحجارة.

ورحم الله الشاعر الذي قال:

ما بين غمضةِ عين وانتباهتها يُغيِّرُ الله من حالٍ إلى حالِ

والآخر الذي قال:

فلا الغيمُ يبقى طوال الفصول ولا البدر دوماً ينير الفضاء

فبالصبر كنت أداوي الجروح وبالأمل العذب أخفي البكاء (١)

فالصبر دَأْب الحكماء، وديدن الأنبياء. والأناةُ مركبُ العقلاء، وسبيل الحُصَفاء (٢) وعدم الشكوى لغير الله منهجُ الأتقياء، والتسليم لله خير سلوان، وراحةٌ للأبدان. إن مع


(١) هذان البيتان من الشعر لكاتب المقال.
(٢) حصفاء: جمع حصيف أي متزن وسديد الرأي.