للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

البيان الأدبي

[ثقافتنا بين حاملها والمحمولة إليه]

بقلم: مشبب بن أحمد القحطاني

الدارس لتاريخ الأمّة عبر القرون الخالية يلمس بوضوح أن الأمّة امتلأت

بنماذج عديدة من العلماء والمثقفين والساسة والمصلحين ...

بل لا تكاد تجد لوناً إلا وله رجاله؛ وعليه قامت مدارس ومؤلفات ودراسات،

وانتهت إلى زماننا ثمرة غرس السابقين؛ وهذه الخصيصة من محامد هذه الأمّة،

ولعلّ هذا الجيل إنما يقوم بعمل ترتيب الأوراق السابقة وتهذيبها وبثها وتوجيهها.

وأحسب أن السابق إن لم يستوف جميع العناصر المطلوبة فهو بلا شك قد ألمح إليها

وبدأ طريقها، وأنا لا أغمط المتأخر حق مقارعة المتقدم؛ فالكل مجتهد وربما فاق

التلميذ أستاذه.

وفيما بين زرع السابق وجني اللاحق تكمن أمور مهمّة بدءاً بالأمانة العلميّة

وضبط المنقول ونسبة الفضل لأهله ...

وليس بغريبٍ أن يخرج مؤلِّفٌ أو محاضرٌ بمقالة: (إنّي لا آتي بجديد)

والأدْهى من هذا ظهور نوعيات في عصرنا ما بين مترجم لكتب الغرب، أو سارق

لتراث الشرق، أو متعالمٍ ومستكتبٍ له، ولهذا نال شهرة في زمن ضياع الأمانة

وسطحية المتلقّي وفقره المعرفي، وكان المنبري لكشف الحقائق نفرٌ قليل، ولربما

فسر هؤلاء المعاصرون أقوال المتقدمين وأطروحاتهم حسب المصالح الخاصة،

ومنهم من يرى أنّ الأفكار والخلاصات ليست حكراً لأحد ولا فضلاً خاصاً به، بل

من وجدها بعد جهله بها كان أحق بها كضالة الغنم. ولولا مخافة الإملال لحدثتك

أخي القارئ بأعاجيب من هذا النوع؛ ولعلِّي إلى هنا أضرب صفحاً، وأحترم

القارئ أيضاً عن ذكر كثير من حملة الثقافة إلينا.

وأما المتلقِّي محط الرحال فهو بين همّين: همِّ الثقة في الناقل، وهمِّ الريبة

حول المتناقض، وضعف المعلِّم وحرج الاختيار. والذي صعد سُلّم المعرفة وأتقن

مهاراتها فهو بلا شك يعلم على أيّ سقف يقف وليس المعني بحديثي هذا بخلاف

المبتدئ القابع في بداية السّلّم ولا يرى إلا السور أمامه كالشبح، فيا ترى من يتحمّل

مسؤوليّة الانحراف الفكري أو القصور الثقافي أو التيه المعرفي؟ وهل يسوغُ

للصانع عيب صنعته في زمن أدعياء الرِّيادة وزعماء الميدان؟ ولعلك إن دخلتَ

مستودع كتبٍ ونظرتَ في الجديد المأمول لتجد أنك دخلت عالماً غريباً متصارعاً،

متناقض الأفكار، بارد العرض، ضعيف الهدف، مشوّش الغاية. وبين هذا

الخضم المَهُول تجد فرداً يتيماً أو فردين مستوحشَيْن تأنس فيهما بالفائدة راجياً ألاّ

تعود بخفّي حنين فقد أصبح العلم تجارة وسباقاً.

ومن المؤسف أننا نسعى لإيجاد هوية لنا ونحن لا نزال نفتقر إلى الأدوات

المطلوبة والآليّة الفاعلة والنضوج المطلوب، والحقبة التي كنّا نقول فيها بأعلى

صوت: نحن سادة العالم وأرباب الفكر وروّاد الثقافة مضت برجالها الطامحين

المحترمين تاريخاً وعند خصومهم أيضاً، ولكي نصل إلى ما وصلوا إليه فلا بد من

دراسة مراحل تطورهم المعرفي والزّمني وكيف تسلّموا مقاليد العلوم.

ولعلي أذكر بعض الخطوات الهامة لتحقيق الهدف المنشود والغائب المنتظر؛

فمن ذلك: تبسيط المعروض ومفرداته، ثم التدرج وفق معيار الحاجة والمفترض،

وترتيب الأولويّات، والبداءة بالمهم فالأهم، والتفهم الدقيق والتفريق بينه وبين الذي

قبله، وتأمين القاعدة المناعية السلمية من الملوّثات الخارجية، وعدم الاستسلام

للعوائق، واختزال العناصر المتشابهة وتنقية المعروض، ورسم الأهداف المطلوبة

والغايات المنشودة، وأخيراً الرقابة على الموجود في الساحة وبيان الحق بأدلته....

إلخ.

وعندها نأمل خروج جيل واعٍ منطقي، واضح الهدف، وصافي الفكرة.

وأعتقد أن المُتَلَقِّي لو وَجَدَ كفَاية من الاحترام والاهتمام تحت رعاية الواجهات

المتجردة للحق المشْبِعَة للرغبات فقد بدأنا الطريق وإن بلغ ألف ميل؛ وأنا هنا أنظر

من نافذة الأمل الباسم والغد المشرق وذو الفرس السبّاقة هو من يبسم في النهاية.