للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الافتتاحية

[يا أمة طمعت لنومها الأمم!]

ما أن انتهى شهر رمضان المبارك حتى خرج ساسة أمريكان ليعلنوا بكل

غبطة في لهجة تحريضية غير خافية: ها هي القوات الأمريكية ضربت بلداً

إسلامياً (أفغانستان) طوال شهر رمضان، ولم تقم مظاهرات شعبية في البلدان

الإسلامية الأخرى تحتج على هذه الضربات، ولم تتعرض المصالح الأمريكية في

أي بلد عربي أو إسلامي لأي خطر كما قيل قبل دخول شهر رمضان، وعليه

بحسب هؤلاء الساسة يمكن مواصلة هذه الحرب باطمئنان في بلدان عربية وإسلامية

أخرى.

وإذا كانت مثل هذه التصريحات تدل على مدى حالة الرصد والترقب التي

يوليها أعداء الأمة للرأي العام فيها وتحولاته وتحركاته، فإنها تدل أيضاً على مدى

أهمية تحريك هذا الرأي العام وحشده وتفعيله لمصلحة قضايا الأمة الحيوية، وتدل

أيضاً على مدى ما وصل إليه هذا الرأي العام أو قل الأمة من حالة السبات العميقة

التي يظنها أعداؤها حالة موت تغري أولئك الأعداء بالتقدم إلى الأمام لنهش جسدها

وانتهاز الفرصة التاريخية للقضاء عليها (وعلى دينها) وتصفية الحسابات العالقة

باسم محاربة الإرهاب.

كل ذلك يتم بحرب معلنة وصريحة لا يتوانى أكابر مجرميها بإعلانها حرباً

قذرة في أكثر من مناسبة، ولا يتردد (الطابور الخامس) داخل أمتنا بتسديد

الطعنات إلى ظهر الأمة المكشوف كلما سنحت الفرصة، ولنا أن نستعرض نزراً

يسيراً من الأحداث والمظاهر خلال (شهر الترقب) لنتبين أين ذهبت (البراءة)

المفترى عليها وسط (قذارة) الحرب السائدة، وكيف يتسابق أعداء الأمة لانتهاز

الفرصة للإجهاز عليها وسط صمت أبنائها المطبق، إن لم يكن وسط صيحات

التشجيع في الملاعب وآهات التلهي في المسارح ودور اللهو؟ !

ففي واحدة من جرائم الحرب (التاريخية) نفذت القوات الأمريكية

والبريطانية مدعومة بقوات تحالف الشمال في أفغانستان واحدة من أبشع المجازر

وحشية؛ حيث دكت (قلعة جانجي) التي كانت معتقلاً لأكثر من ٦٠٠ (أسير

حرب) بقذائف الدبابات والمدفعية، وصواريخ الأرض/ جو، والقنابل التي ألقتها

عليهم الطائرات الأمريكية عبر عشرات الغارات الجوية التي رمتهم بأطنان من

المواد المتفجرة.. إلى أن تحول الأسرى إلى أشلاء بشرية أو احترقت جثثهم أو

قتلوا وهم موثوقو الأيدي من الخلف.

وبغضِّ النظر عن (السيناريوهات) المحكية عن بداية الأحداث إلا أنه ترد

هنا نصيحة وزير الدفاع الأمريكي (رونالد رامسفيلد)

بـ (التخلص) من الأسرى وعدم الاحتفاظ بهم، بما يعني إعطاء (ضوء أخضر)

لقتل الأسرى والقضاء عليهم، كما ترد أيضاً الطريقة الوحشية التي تم بها القضاء

عليهم، بما يظهر الرغبة المحمومة في الانتقام وسفك الدماء (على الطريقة

الأمريكية القذرة) ، وقد كانت هناك بدلاً من ذلك طرق أخرى مع افتراض حدوث

تمرد من الأسرى للقضاء على هذا التمرد والسيطرة عليهم لو توفرت رغبة

(بريئة) في عدم قتل أسرى أعلنوا استسلامهم ويعد القانون الدولي قتلهم جريمة

حرب.. مثل إلقاء قنابل غازات أعصاب أو مسيلة للدموع أو حتى التعامل المناسب

مع بعض أشخاص يحملون أسلحة شخصية خفيفة (بحسب الرواية الأمريكية) بدلاً

من هذا الأسلوب الوحشي الذي لم ينف حدوثه أحد.

وفي الشهر ذاته تناقلت الأخبار قيام بعض قوات التحالف بذبح ٣٧ عربياً

اعتقلوا ثم ذبحوا ذبحاً أمام زوجاتهم وأولادهم.

وترددت الأخبار عن عشرات الأسرى من المعتقلين المناصرين لطالبان

الذين قضوا حتفهم (خنقاً) أثناء نقلهم في شاحنات محكمة الإغلاق من جميع

الجهات ولا منفذ فيها، مع تكرار ذلك أكثر من مرة.

ناهيك عن أخبار الاغتصاب وهتك الأعراض لنساء الأسرى والمعتقلين في

قصص يندى لها جبين أصحاب المروءة فضلاً عن أصحاب الإسلام.

* لم يكن كل ما سبق غريباً على أعدائنا، ونحن لا نستجدي الرحمة من

هؤلاء الأعداء ولا نتوقعها منهم؛ فهم [لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً] (التوبة

: ١٠) ، ولكن الغريب بالفعل أن كل هذه الأحداث رغم كثرتها وبشاعتها لم تقابَل

من معظم الأمة إلا بمشاعر باردة وأحاسيس متبلدة إلا من رحم ربي، ولم نسمع

صوتاً من أصحاب (إسلام التسامح والعفو والبراءة) ودعاة حوار الحضارات

يستنكر ما حدث، بل صمتت كل الأصوات التي تنتظر كل مناسبة يقتل فيها

يهودي أو نصراني لتعلن شجبها واستنكارها لمقتل (الأبرياء) ، وكأن البراءة هذه

حكر على الكفار ولا ينعم بها مسلم.

وفي فلسطين في شهر رمضان راح خمسة أطفال ضحية انفجار فخ متفجر

نصبه الجيش الإسرائيلي في طريق ذهابهم إلى مدرسة تابعة للأمم المتحدة في مخيم

«خان يونس» للاجئين بغزة مما حول أجسادهم إلى أشلاء.

وفي الشهر ذاته كان الفلسطينيون يفطرون ويتسحرون على دوي صواريخ

طائرات الأباتشي الأمريكية، وقذائف الدبابات التي ترمي بها الأحياء السكنية.

وفيه أيضاً لم يتوقف مسلسل الاغتيالات المعلنة (قتل بلا تحقيق ولا محاكمة)

لقيادات الانتفاضة، بل تعالت صيحات القادة الصهاينة بضرورة قيام سلطة ياسر

عرفات باعتقال من وردت أسماؤهم في لائحة المطلوبين المقدمة إليهم من قبل

الأجهزة الأمنية الإسرائيلية، ليسهل ضربهم والقضاء عليهم

(كما حدث في قلعة جانجي) .

* إلى هنا وسكون القبور يخيم على الحضور، فلما انتقم لـ (أبريائنا)

بعض الفلسطينيين من شباب حماس والجهاد الإسلامي بقتل بعض (أبريائهم) ..

ارتفعت الاحتجاجات وتعالت الأصوات مستنكرة قتل الأبرياء من جميع الأطراف (

يا له من عدل وإنصاف!) ومحرضة المسلمين على مراعاة العهد والذمة التي بين

المسلمين وأهل الكتاب.

إن الحالة التي بدت عليها الأمة أثناء تعاملها مع الأحداث الأخيرة أغرت

أعداءها كلاً في موقعه بانتهاز الفرصة والإجهاز على ما تبقى من رمق الحياة فيها

بعد تصفية (القضايا المعلقة) .

ففي فلسطين المحتلة يسعى اليهود ومن ورائهم أمريكا والغرب بثقل واضح

لاستغلال الفرصة التاريخية وفرض (الحل النهائي) الذي يرضي نهمهم التوسعي

المحموم، ثم دفن القضية تحت ثرى التاريخ إلى الأبد هكذا يتمنون ويسعون.

وفي الفلبين نكثت الحكومة عهودها، وانقلبت على

(عرفاتها) لمحاولة استئصال (مشكلة المسلمين) في الجنوب بمساعدة أمريكية.

وفي الهند أخرجت مسرحية (هوليودية) على ساحة البرلمان الهندي،

ليخرج بعد ذلك زعماؤها معلنين أنهم ضحية الإرهاب الذي يستهدف قيم

الديمقراطية والحرية (مثلما قيل بعد تفجيرات سبتمبر) ، وأنها ستستأصل جذور

الإرهاب من كشمير ومن يدعمونه في باكستان، ثم بدأت بحشد قواتها على الحدود

مع باكستان، وكثفت الحملات على منظمات الجهاد الكشميري.

وحتى الصين استدعت خبراء مكتب التحقيقات الفيدرالي الأمريكي

ليساعدوها في تعقب نشاطات مسلمي تركستان الشرقية.

وفي أوروبا الغربية بدأت دول (العدالة والحرية والديمقراطية) تقلب ظهر

المِجَنّ للاجئين السياسيين المسلمين وأصحاب الانتماء الإسلامي، فسارعت إلى

اعتقال بعضهم وتسليم آخرين إلى دولهم والتضييق على الجاليات الإسلامية

وأنشطتها فيها.

والآن يحد أعداؤنا سكاكينهم ويشحذون أسنانهم لالتهام الوجبة التالية على

وَهْم انتهائهم من الوجبة الأولى وتظهر حيرتهم في الاختيار من كثرة المغريات

الشهية: أهي الصومال أم السودان؟ اليمن أم العراق؟ أم لبنان أم الفلبين؟

لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل تجاوزت الحرب (القذرة) المعلنة أن

تكون حرباً على منظمات وجماعات إسلامية، أو مؤسسات دعوية أو إغاثية أو

خيرية لتصل الحرب إلى الخط الأخير.. إلى الإسلام ذاته؛ فقد تعالت الأصوات

التي تغذيها حملات صهيونية وأصولية نصرانية، بأن (المشكلة) ليست في بعض

المسلمين، بل في الإسلام ذاته، وفي مصادره الأساسية: القرآن والسنة؛ ولذا

طالبوا بتعديل (أو قل: تحريف) الإسلام ذاته ليواكب التطور الحضاري كما

عدلت النصرانية ذاتها لتواكب التطور.

وهذا المنحى الخطير وإن لم يصرح به جميع ساستهم إلا أن الخطوات العملية

لتنفيذه بدأت في الظهور، مستغلين اللحظة التاريخية البادية لهم بعمق سبات الأمة،

فأخذوا خطوات جدية في الضغط على أكثر من دولة للتأثير على مناهج التعليم

الديني فيها ومحاصرة مدارسها ومعاهدها وجامعاتها، وشرعوا في خطوات عملية

أيضاً لإحداث تحولات اجتماعية غير مسبوقة.

إننا بعد كل ذلك نكرر ما سبق أن ذكرناه من أننا لا نستجدي الرحمة من

أعدائنا؛ ولا ننتظر منهم ولا نتوقع غير ذلك، ولكن ينبغي أن نفتش في أنفسنا

نحن، وأن نقاوم بكل ما تبقى في أيدينا، وفي ذلك نرصد ظاهرة تستحق النظر

والتأمل والدراسة.

لقد عمت العالم الإسلامي بعد أحداث سبتمبر وأثناء تجهيز أمريكا للحرب

عاصفة من التعاطف مع أفغانستان والاحتجاج على ضربها أجبرت بعض

(النفعيين) على عدم مصادمة هذه العاصفة، وعدم إعلان تعاطفهم مع أمريكا. ثم

ما لبثت (كالعادة) أن هدأت هذه العاصفة لتخمد رويداً رويداً مع تصاعد وتيرة

الحرب!

ومع اعتبارنا لوجود عوامل عديدة وظروف كثيرة ساعدت في الوصول إلى

هذه الحالة، إلا أن هناك تساؤلات لا ينبغي أن تمر مرور الكرام ومنها:

هل هذه العاطفة عاطفة كاذبة؛ أو خاوية نُخدع بها كل مرة؟

هل تفتقر الأمة إلى الوعي اللازم الذي يؤهلها لمعرفة متى تظهر تعاطفها،

وكيف تظهره؟

هل هو قصر النفس وعدم المثابرة؟ ما أسباب ذلك؟

هل أعداؤنا درسونا إلى درجة أنهم يعرفوننا أكثر من أنفسنا، ويعرفون كيف

يؤثرون علينا ويحولون اتجاهاتنا؟

هل هناك (توجه إعلامي وسياسي) منا يجعلنا نفقد في كل مرة الثمرات

التي بأيدينا؟

وأسئلة كثيرة غيرها.. ولكن أياً كانت الإجابة عليها فالذي نستطيع قوله أنه

في ضوء الأسباب المنظورة لم يبق في أيدينا للدفاع عن الخط الأخير من دفاعاتنا

عن ديننا وأمتنا سوى ضرورة المراجعة الصادقة للاتجاهات الانهزامية أمام أعدائنا

والتي لم تزدنا إلا وهناً وسقوطاً؛ لأن أعداءنا لن يوقفهم سوى رجوعنا إلى الله حقاً

وصدقاً، كما أن لاحترام الأمة وتفعيل دورها ليشكل سلاح (الرأي العام)

وضغوطه، دوره الكبير كما هو معمول به لدى أعدائنا وترتعد فرائصهم من نتيجة

هذا السلاح؛ فإذا لم نحسن استخدامه وإيقاظ الأمة من سباتها فنسأل الله تعالى ألا

نكون ممن تجري عليهم سنة الاستبدال.