للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

شئون العالم الإسلامي ومشكلاته

[مشكلة الفرات من نتائج العصبية القومية]

-التحرير-

أبلت الصحف والمجلات العربية بلاء حسناً في عرض قضية (نقص المياه)

و (حرب المياه) . وقدمت تحليلات كثيرة حول هذا الموضوع الذي أبرزته

واهتمت به الصحافة العالمية. وأشارت إلى أن الحرب المقبلة التي قد تنشغل بها

الدول العربية فيما بينها، أو فيما بينها وبين جيرانها في المستقبل قد تكون حروباً

على المياه، وأن تركيا تريد أن تسخر موضوع المياه لتحقيق أغراض سياسية

واستراتيجية في المنطقة.

وقدمت هذه الصحف بعض الأرقام الإحصائية التي أصدرتها دول حوض

الفرات عما يمكن أن يكون تصوراً أولياً عن نسبة استحقاق كل دولة من ماء الفرات، وعما تنوي أن تحتجزه تركيا من مائه، وما سمحت بمروره، وعن مستقبل

توزيع الحصص. وهناك ملاحظات حول المعلومات والتحليلات التي تضمنتها هذه

الصحف، ومن ذلك:

١ -كان هذا الموضوع متشابهاً حيث عرض، وكانت أكثر الصحف تنقل عن

بعضها الأرقام والنتائج المتوقعة، وليس من اختلاف إلا في التلاعب في بعض

الجمل والألفاظ الرابطة، والتي يظن المحررون بسذاجة أنهم - بمهارتهم وحنكتهم

-يستطيعون أن يقنعوا القراء أنهم يحققون سبقاً صحفياً لمطبوعاتهم؛ سواء على

مستوى أهمية القضية وما تمثله في الواقع؛ أو على مستوى تحليلها.

٢ -كل التحليلات العربية تقريباً كانت تتكئ على التحليلات الغربية ونظرتها

المسبقة المغرضة إلى المنطقة، أي تناول القضية وكأنها بنت الواقع الحالي دون

ربطها بقرائنها التاريخية والجغرافية، والنظر إلى أن الحالة الراهنة هي حالة

مطلقة لن يدركها التبديل ولا التحويل.

ولتوضيح ذلك نقول:

إن الأوربيين - مؤرخين، وصحفيين، ومفكرين - لا ينظرون إلى العالم

العربي كوحدة فكرية وتاريخية بينها من الروابط ما بين أقاليم فرنسا، أو بريطانيا،

أو إيطاليا، أو غيرها، بل ينظرون إلى العرب كما يحبون أن يروهم: منقسمين

على أنفسهم، بينهم من الخلافات العميقة التي يستحيل حلها، ولا شيء يجمعهم،

وأن هذه الحدود التي تفصلهم هي حدود أزلية أبدية! وكأنهم ليسوا هم الذين رسموا

هذه الحدود على الورق أولاً، ثم نفذت على الأرض ثانياً، لا العكس - كما هو

الطبيعي في كل البلاد، ما عدا تلك التي فتحها المسلمون؛ أو دخلها وانتشر فيها

الإسلام!

يتجاهل هؤلاء الأوربيون في تحليلاتهم أن الحدود بين العراق والشام،

وبينهما وبين تركيا بل الحدود بين دول المشرق العربي جميعها؛ لم تبرز إلا بعد

اتفاقية سايكس -بيكو عام ١٩١٦ وأنها لم تنفذ على هيئتها الحالية تقريباً إلا بعد عام

١٩٢٠.

إن النظرة التي ينظر بها الأوربيون إلى هذه البلاد هي أنها بلاد كانت مشرعة

الأبواب على مصاريعها، تدخلها الموجات البشرية الغازية من جهاتها الأربع.

وأنهم إذا حدوا لكل رقعة حدوداً، ورسموا لها مجالاً لا تتعداه؛ فقد أسدوا إليها

معروفاً لا ينبغي أن ينكر أو ينسى.

ولكن، هل بقيت كلمة حول قضية المياه لم تطرح؟ أو شيء غامض لم

يكشف عنه الحجاب؟ .

والجواب: نعم، هناك مسألة يمليها التصور القائم على أساس الإسلام،

وتتهرب الصحافة العربية التي تسير على هدي الصحافة الغربية من تناولها من هذه

الزاوية. وسواء كان هذا التهرب جهلاً أو تجاهلاً؛ فالنتيجة واحدة.

هذه المسألة هي مسالة القومية التي استوردناها - عرباً وأتراكاً - من الغرب، فنفخت في أنوفنا، وأعمتنا عن رؤية الحقائق كما هي، وجعلتنا نتعصب للجنس

على حساب الحق، ونبرز الفوارق العنصرية، ونخفي ما نتفق عليه، والذي هو

مبرر عزتنا، وعنوان حضارتنا - وهو الإسلام الذي خرجنا بفضله من الظلمات

إلى النور، وقدمنا عن طريقه إلى العالم شيئاً نعتز به ونفتخر، والذي قد لا تزول

كراهية الغرب بتاتا للعرب وغيرهم من أمم الشرق إذا تخلوا عنه؛ ولكن ستكون

كراهيتهم لهم ما داموا يعتزون به ولا يرضون عنه بديلاً أكثر وأكبر.

إن القضايا الاقتصادية التي تؤثر على العلاقات بين الشعوب لا تعالج معالجة

معزولة عن القضايا النفسية والتاريخية التي توجه هذه الشعوب، ونعني بذلك هنا

قضايا العقائد والمبادئ. هناك عقائد ومبادئ تتصارع على هذه الرقعة من العالم،

هناك قوى ظاهرة تتحرك تحت الشمس، وقوى خفية تتحرك في الظلام، والقوى

الظاهرة والخفية لم تتوقف يوماً عن محاولات العبث في أمن هذه المنطقة المهمة من

العالم، ولا تريد لها أن تهدأ أو تستقر.

لقد نجح الاستعمار وأعوانه أن يصدروا إلينا (النظرية القومية) ، ويغرسوا

العنصرية التي ألوت بمجد العرب والترك، وأضرت بهم محلياً وعالمياً، وجعلتهم

يتسولون القروض والحسنات من الغرب الصليبي والشرق الملحد، وغادرتهم مجرد

صغار لا قيمة لهم، وسلعاً للمساومة لا حول لها ولا قوة.

إن كل نظرية لا بد لها من ثمار ونتائج، وإن هذه الثمار والنتائج تقوم بما

تعطيه من خير لمصلحة أكبر عدد من المنتفعين بها، وخير المعنيين بها مباشرة

وإن العصبية القومية التي مزقت البشرية، وكنا نحن - المسلمين - أشد ضحاياها

غباءً، لما نملك من أسباب الهداية؛ لم تثمر لنا إلا مر الثمر، ولم نجن من ورائها

إلا السراب! نعم، استفاد منها قوم؛ استفاد منها الغرب وأعوانه، واليهود

وأشياعهم، واستفاد منها من يتاجر بآلامنا وفرقتنا، ويراهن على زوالنا واندثارنا.

ماذا ينتظر الذين جروا - ويجرون - وراء الغرب الذي طغى في البلاد،

فأكثر فيها الفساد، ونشر فيها الأوبئة النفسية والجسدية؛ نشر الأفكار الهدامة

كالقومية والمبادئ الباطلة كالشيوعية والوجودية، وضمن حرية التحلل الخلقي

وصدر الإيدز وسائر الأمراض (الإفرنجية) .. ماذا ينتظرون من نتائج لما صنعته

أيديهم التي نفذت خطط (لورانس) ، والتي كانت تهدف - فيما تهدف إليه -إلى دق

إسفين سميك عريض في علاقة العرب والترك، والقضاء على رابطة الدين

الإسلامي التي تجمعهم.

لا شيء ينتظر إلا مزيداً من التمزق والحروب والويلات التي تذهب هذه

الشعوب الإسلامية وما تثمره وتملكه وقوداً لها.

إن العصبية القومية تستمد غذاءها من الجانب المظلم من الإنسان، يل من

الجزء الحيواني فيه؛ من الأثرة، والشح، والحقد، والكراهية، والحسد، ومن

حب التسلط والتفاخر والتعالي على الآخرين بقهرهم.. ومن سائر الأهواء

الشخصية والجماعية.. في حين أن الرابطة الإسلامية رابطة اختيارية متطلعة إلى

الحق، وتستمد شرعيتها من وعي الإنسان بذاته، ومن إدراكه لدوره الذي حده

خالقه له، هذا على المستوى الفردي، أما على المستوى الجماعي؛ فإن الرابطة

الإسلامية هي التي جعلت للعرب دوراً تاريخياً على الأرض، وحملهم هذه الرسالة

إلى العالمين هو الذي يحترمهم من أجله من يحترمهم من أهل الحق، ويكرههم من

أجله من يكرههم من أهل الباطل. وفضلهم يتجلى في تضحياتهم وبلاءاتهم الأولى

التي دخل بسببها من دخل في الإسلام من الشعوب الأخرى. ومن ينكر فضل

العرب في ذلك فهو إما مكابر متعصب؛ أو جاهل يحتاج إلى نصح وتعليم.

على أن كل هذا لا يجوز أن يعطي العرب حق التسلط على غيرهم من

الشعوب وهضمهم وتنقصهم، والنظر إليهم من فوق؛ بل ينبغي للعرب وغير

العرب من المسلمين أن يقولوا: [الحَمْدُ لِلَّهِ الَذِي هَدَانَا لِهَذَا ومَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ

هَدَانَا اللَّهُ] .

إن ما بين العرب والترك من العلائق والروابط الطيبة أكثر بكثير من

الاختلافات التي ضخمها أعداؤهم، ونجحوا في زرع العداوة بسببها بينهم. وإن

علاج مشكلة المياه يكون بإبراز تلك العوائق والروابط والتذكير بها، فالعرب

والترك مسلمون، والعرب والترك كانوا أمة واحدة، هدفها واحد، وعدوها واحد،

وهم الآن متجاورون، لا زال الهدف واحداً، والمصير واحداً، والعدو هو هو.

ولست أدري، بل ولست أعقل: كيف تجتمع دول أوربا على أمور تحرم

علينا نحن المسلمين، ولئن كانت هناك نقاط التقاء بين الطليان الكاثوليك والإنكليز

البروتستانت وبين الألمان البروتستانت والإسبان الكاثوليك.. يجتمعون عليها

ويستثمرونها في تقوية أنفسهم وفيما يعود بالفائدة على شعوبهم؛ أفليس بين العراق

والشام من روابط يبنى عليها؟ ! أليس بيننا - نحن العرب - وبين الأتراك من

العلائق ما بين الأوربيين؟ ! إي والله بل أكثر! ! لو أنصف المتنفذون من هؤلاء

وهؤلاء.

بعد أن تفرق المسلمون إلى قوميات، وانشعبت القوميات إلى وطنيات،

وأشرفت الوطنيات أن تتطاير طائفيات؛ فإن هذا ليس بمقنع أعداءهم، بل لن

ينثنوا عن الانقضاض بكل الوسائل عليهم حتى يستحيل عليهم الخروج مما رموا به.

ومع هذا فإن أخطاء التاريخ قابلة للتصحيح إذا ما صحت العزائم وخلصت

النوايا، ورزقت الأمة برواد تلتف حولهم، فيخرجون بها من الضيق إلى الرحابة،

ومن التبعية إلى امتلاك القرار.

وإذا كان يصعب علينا أن نطالب بوحدة أقطار حوض الفرات - لأن هذا قد

يكون غير واقعي، وإغراقاً في الخيال، وأحلام يقظة - فلا أقل أن تتذكر أن بينها

أرحاماً قطعت ولا يستحيل وصلها؛ وقدراً مشتركاً من العلاقات التاريخية، وبعد

كل ذلك وقبله؛ جواراً أبدياً. وإن مما أمر الله به الإحسان إلى الجار ذي القربى،

والجار الجنب، والصاحب بالجنب.