أدب وتاريخ
قصة قصيرة
[اليقين]
وائل صبري
الحمد لله المعطي والمانع..
قال الزوج هذه الكلمات من أعماق قلبه وهو يرفع بصره إلى السماء، متأملاً
في نجومها المتلألئة وهي تسبح في بحر كثيف من السواد الداكن..
كان الفرح ينمو ويكبر في ذلك القلب المرهف كزهرة تفتحت أكمامها مع
بداية الربيع.. وكان الكون كله من حوله يبدو - في عينيه - باسماً أنيساً ملؤه
المحبة والفرح والأمل.. وكان يشعر وكأن الدنيا بأسرها تزف إليه التهاني مع كل
نسمة للأثير في تلك الليلة الجميلة..
كيف لا؟ وقد سمع ذلك الخبر الذي كان ينتظره منذ سنين.. ينتظره وقلبه
مفعم بالأمل والرجاء واليقين. مبارك إن شاء الله.. زوجتك حامل..
كان هذا هو الخبر.. وكانت تلك هي الكلمات. أما المشاعر فكان لا يعلم
وصفاً لحالها إلا الله.
وعاد الزوج إلى البيت.. وفتح كتاب الله الكريم على الآيات التي كان كثيراً
ما يقرؤها ودمعة وحيدة حرى تترقرق في عينيه.. وبدأ يقرأ.؛ [كّهيعص * ذِكْرُ
رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِياً * قَالَ رَبِّ إنِّي وهَنَ العَظْمُ مِنِّي
واشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً ولَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِياً * وإنِّي خِفْتُ المَوَالِيَ مِن ورَائِي
وكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِراً فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ ولِياً * يَرِثُنِي ويَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ واجْعَلْهُ
رَبِّ رَضِياً] ولكن الدموع كانت في هذه المرة تنهمر من عينيه سيلاً مدراراً يغسل
وجنتيه الوضيئتين ويخضب لحيته الكثيفة.. وفى يوم الجمعة.. عندما ذهب إلى
المسجد.. أشرق وجهه بالبشر والحبور.. وامتلأ صدره بالثقة والأمل.. وهو
يسمع الخطيب يتحدث عن الأولاد والبنين، ويهدر بصوته قائلاً: وكيف لا تفرح
أيها الأب بفلذة كبدك وتعتني به. وهو امتداد لسجودك وركوعك وتسبيحك وتهليلك.. وهو قطعة من جسدك تمشى أمامك على الأرض..
وخرج من المسجد ولسان حاله يقول: سأعتني به إن شاء الله. وسأعمل على
أن يكون امتداداً حقيقياً مباركاً لركوعي وسجودي وتسبيحي وتهليلي بإذن الله رب
العالمين.
ومرت الأيام. وكان يتردد - أثناءها - بشكل دوري على المستشفى مع
زوجه لإجراء الفحوص الطبية المعتادة.. إلى أن جاء يوم..
- هذا هراء.. غير معقول! !
كان الزوج يقول هذه الكلمات للطبيب - في ذلك اليوم - والنيران تتأجج في
قلبه.. ويزيد أوارها أنين زوجه المسكينة التي أذهلها هول الموقف فلم تجد تعبيراً
عما في فؤادها المشتعل أصدق من الدموع..
- هذا ليس هراء يا سيدي وهذه هي الصورة أمامك. إن هذا الشيء الذي
يسكن رحم زوجك الفاضلة ليس جنيناً.. أنا لم أر في حياتي مثل هذا.. إنه.. إنه
يا سيدي شيء أو مخلوق لا يعلم طبيعته إلا الله! ! إ. ونظر الزوج إلى الصورة
مرة أخرى.. ثم أشاح بوجهه.. فقد كانت الصورة التي أجريت لرحم زوجته
غريبة حقاً ففي وسط الصورة.. وحيث كان يفترض أن تظهر ملامح الجنين
المعروفة.. لم يكن يبدو سوى كتلة ملتفة من اللحم دون أية أطراف أو معالم..
كانت الصورة - كما قدر الجميع- لمخلوق لم ير إنسان له مثيلاً على الإطلاق..
غير أن أحداً لم يستطع أن ينطق بكلمة واحدة في ذلك الموقف الرهيب..
وانقضت دقائق ثقيلة من الصمت كأنها دهر.. تماسك بعدها الزوج المجروح
وقال موجها حديثه للطبيب:
- والعمل؟ . أقصد.. ماذا تقترح أن نفعل الآن أيها الطبيب؟ .
- في الحقيقة.. أعتقد أن الأمر الوحيد الذي يمكن عمله الآن هو.. هو
الإجهاض.
- ماذا؟ .. الإجهاض..
- أعتقد أنه لا مفر من ذلك يا سيدي على الإطلاق.. ربما يكون ذلك مؤلماً
بعض الشيء.. إلا أنني أظن أن الألم سيكون مضاعفا.. وطويلاً.. بعد ذلك إذا لم
نتدارك الأمر الآن.. وأعتقد أنكم تفهمون تماماً ما أعنيه..
قالها الطبيب وهو ينظر إلى نظرات الزوجين التي تلاقت في حوار صامت
قصير ولسان حالهما يقول: إننا نفهم تماماً ما تعنيه.. يا سيدي الطبيب..
ومرة أخرى.. ساد الصمت الثقيل أرجاء الغرفة.. لكنه كان في هذه المرة
صمتاً له دوي هائل.. لم يقطعه غير كلمات الزوج الهادئة الرتيبة:
- حسناً.. حسناً.. سنفكر ملياً في هذا الأمر.. وأعتقد أن لدينا متسعاً من
الوقت على كل حال.. شكراً.. السلام عليكم.
وخرج الزوج.. وزوجه التي لم تنطق بحرف واحد طوال الوقت تتكئ على
ذراعه.. ونظر الطبيب قليلاً إلى الممرضتين اللتين شهدتا المشهد كله.. ثم أطرق
برأسه.. وألقى بيديه في جيوب معطفه وغادر الغرفة هو الأخر.. فقد كان الموقف
لا يحتمل أي كلام..
لم يصل الزوجان إلى البيت إلا وكان الزوج قد فكر ملياً وحسم الأمر.. وكان
هذا علامة على عودة مؤشر قلب هذا الرجل الكبير للاستقرار على موجة الإيمان
واليقين التي عهدها في نفسه.. وعهدها الناس فيه.. بعد تلك الهزة العنيفة..
ومع أول خطوة داخل المنزل قال:
-لقد انتهى الأمر.. والأمر لله من قبل ومن بعد على كل حال.. ثم أردف
موضحاً حين رأى عيون زوجه الدامعة مليئة بالتساؤل والاستفهام:
- لقد نفخت الروح - والله أعلم - في هذا الجنين.. فأنت الآن في شهرك
السادس.. والإجهاض معناه الآن قتل هذا المخلوق المسكين.. وهذا مالا نفعله على
الإطلاق.. إن شاء الله..
كانت الكلمات تنساب من فمه بهدوء وطمأنينة غريبة.. ورغم أن تباشير
دمعة حارة كانت تترقرق في عينيه إلا أنه مضى يقول:
- إن الله هو الذي ينفخ من روحه في هذا المخلوق.. وهو.. هو وحده الذي
يحق له أن يأخذ ما أعطاه.. أما نحن.. فليس لنا من الأمر شىء.. غير الدعاء
والرجاء.
واستسلمت الزوجة الحزينة أول الأمر.. ودونما إدراك منها لطبيعة ذلك
الاستسلام.. هل كان قناعة منها بكلمات زوجها؟ أم كان رضى بالأمر الواقع؟ ..
أم أن الذهول الذي أصابها منذ اللحظة الأولى كان يلفها فى حناياها فلا تجد في
نفسها قدرة على التفكير واتخاذ القرار؟ ..
والحقيقة أن هذا كان التفسير الحقيقي لموقفها بادىء الأمر.. إلا أن مشاعر
اليقين والصبر والرجاء والتي كان زوجها يبثها - دائما - في كل مناسبة.. سرعان
ما بدأت تتغلغل في أعماق فؤادها الكليم لتملأه شيئاً فشيئاً أمناً وطمأنينة وسكينة..
لم تستطع أن تفسره إلا أنه كان رحمة وعوناً من الله.
وبهذه المشاعر المفعمة بالتعلق بالله الواحد الأحد.. واجهت - أكثر من مرة
- موقف بعض الممرضات اللواتي عرضن عليها - خفية ودون علم زوجها - ومن
منطلق الإشفاق والرثاء! مساعدتها في التخلص من حملها العجيب. مرة بالأدوية
والعقاقير.. وأخرى بالتعب والإرهاق.. وثالثة بطرق أخرى.. غير أنها كانت
تتذكر في كل مرة كلمات زوجها عن الواهب.. الواهب الذي له وحده الحق في أخذ
ما وهب.. فتقف.. بكل إصرار في وجه تلك المحاولات التي ظلت تتكرر حتى
الأيام الأخيرة التي سبقت موعد ولادتها.. هذه الولادة التي كانت تترقبها جموع
العاملين في المستشفى.. بعد أن طارت بقصتها الركبان.. داخل المستشفى
وخارجه.. إلى أن جاء ذلك اليوم المشهود..
- أنا لا أصدق ما أرى! ! .. الله أكبر.. الله أكبر.. ما أجمل هذه المولودة..
بهذه الكلمات الممزوجة بدموع الفرح.. كانت تصيح الطبيبة التي أشرفت
على ولادة الأم المؤمنة الصبور.. وسرى الخبر سريان الكهرباء في أسلاكه بين
جموع المرتقبين.. وكأن مساً أو عدوى أصابت الجميع، فإذا دموع الفرح تنهمر
من عيون خليط غريب غير متجانس من البشر.. ليغرق الجميع في موجة صاخبة
من التهاني والفرح وهم يروون ما حدث:
- لقد كانت مولودة جميلة.. فيها شيء واحد غريب.. فقد كان شعرها طويلا
مسدلاً.. ولما كانت متكورة على نفسها في رحم أمها.. فقد كان الشعر يغطي
جسمها الصغير.. الأمر الذي أظهرها في الصورة على ذلك الشكل الغريب..
- وفى تلك الأثناء كان الزوج ساجداً في غرفة الانتظار.. كان قد سمع
بالخبر وعلم بتفاصيله.. بل كان قد رأى الطفلة وانطلق بالآذان في أذنها الصغيرة.. وحنكها بشيء من التمر اتباعاً لسنة نبيه العظيم.. لكنه كان في تلك اللحظات
يهيم بقلبه وروحه بعيداً.. بعيداً عن كل هؤلاء الناس.. حتى أنه ما عاد يسمع شيئاً
من كل ذلك الضجيج..
كان إحساسه كله يتركز في أن الأمر كله كان امتحاناً لصبره وإيمانه..
امتحاناً ليقينه.. وكان - وهو ساجد سجدة الشكر - يحس أنه بعون الله نجح في
ذلك الامتحان.. وبدرجة الامتياز..