للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون العالم

الإنجليز: من الملك ريتشارد «قلب الأسد»

إلى اللورد ديفيد أوين

د.يوسف الصغيّر

مهما قلنا عن برود الإنجليز، وهل هو ميزة أم عيب، فإن دهاءهم السياسي

هو من الصفات التي أجمع عليها الناس منذ اليوم الأول الذي أخرجت فيه السلحفاة

رأسها أي خروجهم من جزيرتهم الصغيرة إلى أصقاع بعيدة تجاوزوا فيها

مستعمراتهم على الساحل الفرنسي المقابل لهم فإن وجهتهم كانت المشاركة الفعالة في

الحروب الصليبية، وذلك بعد أن استرد صلاح الدين بيت المقدس وطهرها من

رجس الصليبيين، وكان الصراع السياسي والعسكري الذي جرى بين صلاح الدين

الأيوبي رحمه الله وريتشارد «قلب الأسد» ملك الإنجليز هو أول اللبنات في

علاقة الإنجليز مع العالم الإسلامي، وإذا علمنا مدى تقديس الإنجليز لملوكهم، فإننا

لا نستغرب ثبات السياسة الخارجية للإنجليز وعملها المستمر على إضعاف

المسلمين بالطريقة الإنجليزية المعتادة، وهو العمل على إيجاد آثار مستديمة

للاستعمار، أو بالأحرى عاهات مستديمة. وإليك بعض الأمثلة على سبيل المثال لا

الحصر:

١- تسلل الإنجليز إلى الهند بدعوى التجارة، وكان الحكم فيها للمسلمين

وخرجوا منها بعدما قسمت قسمة ضيزى إلى قسمين أحدهما يحكمه الهندوس والثاني

يحكمه المسلمون مع مشكلات لا حصر لها، فالمنطقة لم تستقر منذ خروج الإنجليز

عام ١٩٤٧م.

٢- وأيضاً تسللوا إلى مصر بدعوى التحالف مع الدولة العثمانية ضد

الفرنسيين، فحكموا مصر، وضموا إليها السودان، ثم فصلوا السودان، وابتكروا

نظام المناطق المعزولة، مما أورث السودان مشكلة الجنوب الحالية.

٣- استولوا على عدن بدعوى الحفاظ على خطوط الملاحة، وعندما خرجوا

منها سلموا الحكم فيها للشيوعيين الذين مازالوا يفسدون في البلد إلى الآن.

دورهم في إنشاء دولة إسرائيل:

وللتشابه الكبير بين ما جرى في فلسطين وما يجري في البوسنة، فإنه من

المناسب إلقاء بعض الضوء على بعض الملامح المهمة في طريقة الإنجليز في إقامة

دولة اليهود في فلسطين، ومنها:

أولا: أن وعد بلفور هو رسالة شخصية من وزير الخارجية البريطاني إلى

اليهودي حاييم وايزمان الذي كان من زعماء الحركة الصهيونية ومع ذلك كانت هي

قطب الرحى في سياسة الحكومات البريطانية المتعاقبة ولا أظن أن ذلك بسبب

احترام تعهد عضو في حكومة سابقة بقدر ما كان تحالف نصراني صليبي لإقامة

دولة اليهود في هذه المنطقة الحساسة «فلسطين» ، مما يحقق مصالح غربية بعيدة

المدى وفي الوقت نفسه يحقق أهداف الصهيونية النصرانية التي ترى مع قيام دولة

إسرائيل قرباً لنزول المسيح، وهو في الحقيقة (المسيخ الدجال) .

ثانيا: قيام الإنجليز بالعمل تحت غطاء عصبة الأمم التي أصدرت قراراً

يجعل فلسطين تحت الانتداب الإنجليزي، وتم تعيين اليهودي هربرت صموئيل

مندوباً سامياً لهم هناك.

ثالثا: قام الإنجليز بإدارة الأمور في فلسطين بناء على مبدأ إيجاد المشكلة ثم

التظاهر بالعمل على حلها، فقاموا بتشجيع هجرة واستيطان اليهود في فلسطين،

وبعد ذلك أظهروا الحرص على حل مشكلة التعايش بين العرب واليهود مع الحرص

على الظهور بمظهر الجهة المحايدة! !

رابعاً: أنهم لا يخجلون من إرسال لجان تقصي الحقائق كأنهم لا يعرفونها

وفي إصدرار التقارير التي يطلقون عليها أسماء مثل «الكتاب الأبيض» للإيحاء

بالعدالة، ومثلاً في سنة ١٩٩٢م أصدرت الحكومة البريطانية كتاباً أسمته «أبيضاً» شرحت فيه أهدافها في فلسطين، وجاء في هذه الوثيقة أن الغرض لم يكن تحويل

فلسطين بأكملها إلى وطن قومي لليهود بل أن يقام هذا الوطن في فلسطين، ويستبعد

هذا الكتاب شرق الأردن من نطاق وعد بلفور، وفي عام ١٩٣٩ م وبعد القضاء

على الثورة الفلسطينية الكبرى نشرت الحكومة البريطانية كتاباً «أبيضاً» أيضاً

جاء فيه:

* إن تعهدات بريطانيا بإقامة وطن قومي يهودي قد تحققت بالفعل.

* إنشاء دولة واحدة مستقلة بعد مضي عشر سنوات شرط توفر علاقات مواتية

بين الفلسطينيين واليهود! !

خامساً: وكما حصل في فلسطين من حرص السلطات الإنجليزية آنذاك على

تجريد الفلسطينيين من السلاح، وكان يتم تنفيذ الإعدام شنقاً في الفلسطينيين الذين

تثبت عليهم تهمة حيازة السلاح، مع قيام هذه السلطات في الوقت نفسه بتسليح

وتدريب قوات اليهود تحت لافتة «شرطة المستعمرات اليهودية» ، يحدث الآن

في البوسنة منع السلاح عن المسلمين بدعاوى باطلة وحقيقتها تجريدهم من وسائل

المقاومة المشروعة ليكونوا صيداً سهلاً لأعدائهم من الصرب والكروات..

سادساً: وفي آخر مشهد من المسرحية يقوم الإنجليز بتحويل القضية إلى الأمم

المتحدة التي تكرمت بعد عدة اقتراحات صورية لحل ما يسمى بمشكلة التعايش

بإعلان قيام دولة لليهود في فلسطين، وسارعت الدول الكبرى إلى الاعتراف بها،

وضمان أمنها بدعوى أنها دولة عضو في هيئة الأمم المتحدة مع كونها دولة مغتصبة

لأراضي لا تملكها.

سابعاً: عدم الممانعة في إصدار الأمم المتحدة لقرارات كثيرة متتالية تدور

حول التقسيم، ثم وقف إطلاق النار والانسحاب من الأراضي المحتلة وعودة

اللاجئين الفلسطينيين وتعويضهم، وينتهي عجبنا عندما يكشف بطرس «غالي»

أن هناك قرارات ملزمة وأخرى غير ملزمة، وعادة ما تكون القرارات الملزمة

علينا، والقرارات غير الملزمة لنا، فلنا قرارات المدن الآمنة وحظر الطيران في

البوسنة، وعلينا الكثير الكثير من القرارات الملزمة والتي مايزال قطاع كبير من

المسلمين يعاني من آثارها الخطيرة بدعوى تطبيق قرارات هيئة الأمم المتحدة.

وأما آخر ممثلي الامبراطورية العجوز في حياكة وتدبير المؤامرات فإنه «

ديفيد أوين» ابن الأرستقراطية الإنجليزية الذي يمثل «الجنتلمان» صاحب

الابتسامة الصفراء، الذي ينفذ سياسة بلاده بتصميم يقل نظيره، فعلى الرغم من

كثرة الانتقادات الموجهة إليه بشأن دوره في المفاوضات وتحيزه الواضح للصرب

أولاً وللكروات ثانياً، فإنه ظل يردد نفس المقولات في أن رفع حظر السلاح عن

المسلمين لن يحل القضية، بل ويطلق التهديدات ضد المسلمين بقبول طروحات

الصرب والكروات وإلا فإنهم سيواجهون الفناء، وعندما تدور الدوائر على

الكروات فإننا نجده أحرص الناس على عقد الهدن والاتفاقات الصورية، حتى يلتقط

الكروات أنفاسهم، وهناك ملاحظة مهمة تبين فضيلة الصبر التي يتحلى بها وقدرته

على تحمل تمثيل هذا الدور لمدد طويلة فإن «فانس» استقال، وأما قائد قوات

الأمم المتحدة البلجيكي فإنه لم يطق صبراً فانتقد دور الأمم المتحدة في البوسنة مما

أدى إلى إزاحته عن منصبه واستدعائه إلى بلجيكا، أما «أوين» فأنه ثابت في

مواقفه، باق في منصبه؛ لأنه يمثل سياسة بريطانيا في البوسنة التي تتبناها الدول

الأوربية على العموم، أما الموقف الأمريكي فأعتقد أن أفضل تصوير له هو

تصريح مساعد وزير الدفاع الأمريكي السابق في أن محاربة الأصولية والإرهاب

كما يدعي يقتضي إظهار الاهتمام بقضية المسلمين في البوسنة، وحتى الآن فإن

موقف أمريكا لا يتعدى كثيراً (المواقف الدعائية) .

وأخيراً فإن موقف دول الغرب التي ترفع راية الحياد عالياً من أحداث البوسنة، قد أفرز مواقف أخرى توضح مقدار التحول في سياسة الغرب بعد سقوط النظم

الشيوعية، فمن جهة نجد مثلاً بريطانيا تتبنى التصدي لأي محاولة لإقامة كيان

إسلامي في أوربا، وبالتالي ينبغي وأد دولة البوسنة، ومحاولة تهدئة الأوضاع في

بقية مناطق البلقان المرشحة للإنفجار في لحظة مما سيفقد الصرب القدرة على

التصدي للمد الإسلامي في أوربا، الذي لا يتناسب مع دعاوى العلمانية، ولهذا نجد

بداية تحول إدخال الكنيسة رسمياً في الصراع العقدي الذي يتوقع الإنجليز نشوبه

عاجلاً أو آجلاً، وفي هذا الإطار يكتمل الدور الإنجليزي فهم في البوسنة يحاولون

إحكام قيد الضحية المسلمة ليكمل الجلاد النصراني مهمته، أما في بلاد السودان فإن

من يمثل الكنيسة الانجليكانية وهو الدكتور (جور كيري) رئيس أساقفة كانتربري

يقوم بمحاولة مستميتة من أجل الإبقاء على حيوية التمرد في الجنوب والمدعوم من

الغرب، وقد تراوحت لهجته في التصريح بأن الهدف هو الحفاظ على جنوب

السودان تحت هيمنة الأقلية النصرانية والوقوف في وجه محاولة إدخال جماهير

الوثنيين في الإسلام، وبين المراوغة بقوله أنه يأمل أن يعيش الإسلام والنصرانية

في وئام ثم يقوم بمحاولة جادة من أجل توحيد قادة التمرد، ولا يرى بأساً في الزعم

أن جميع قادة التمرد وتوحيد جهودهم هو من أجل السلام، كما صرح «أوين»

من قبل بأن رفع حظر السلاح عن المسلمين في البوسنة لا يساعد في عملية السلام.

بريطانيا: الكنيسة والدولة:

إن ملابسات تحول الإنجليز من الكاثوليكية إلى البروتستانتية الخاصة بهم

(الإنجليكانية) ، تدل على أن الإنجليز على دين الملك وكفى، ولهذا خلافاً لجميع

دول العالم النصراني فإن الملك أو الملكة هو رئيس الكنيسة الإنجليزية ولهذا فإن

الكنيسة هي كنيسة الدولة وجزء من أجهزتها المهمة، خاصة في الميدان الخارجي،

حيث إن الكنيسة الإنجليزية تعيش حالة من الانفصام، ففي الداخل نلاحظ أن غالبية

الإنجليز لا دنيين، وتعاني الكنائس من ضعف الإقبال ومن زار بريطانيا سيلاحظ

الكثير من الكنائس معطلة، ويعرض كثير منها للبيع أما في الخارج فإنها لعبت

وتلعب دوراً كبيراً في توطيد النفوذ الإنجليزي، وعلى سبيل المثال فإن الكنيسة هي

التي تولت نشر الثقافة واللغة والعادات الإنجليزية في الدول التي رزحت فترة من

الزمن تحت نير الاستعمار عن طريق المدارس والمستشفيات الكنسية، أما في

الجانب السياسي فإن الكنيسة تلعب دوراً مساعداً ومن الأمثلة على ذلك حادثة (تيري

ويت) مبعوث الكنيسة إلى لبنان، حيث تبين أن المذكور لا يعدو كونه غطاء لعملية

سرية تقوم بها المخابرات المركزية الأمريكية في لبنان من أجل إطلاق سراح

الرهائن، وكان خطفه نتيجة لتعثر المباحثات.

أما آخر مساهمات الكنيسة فهي حادثة زيارة رئيس الأساقفة إلى السودان عن

طريق كينيا متجاوزاً سيادة الحكومة السودانية، مما أدى إلى طرد السفير البريطاني

في الخرطوم، الذي وضع الحكومة البريطانية في موقف لا تحسد عليه [*] .


(*) في العدد الماضي تطرقت البيان بدراسة مستوفية لهذا الموضوع تحت عنوان (ليس دفاعاً عن السودان قراءة هادئة في قضية طرد السفير البريطاني من السودان) .