للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

أدب

[أزمة الشعر الحديث]

عبد الله بن إبراهيم الزهراني

كان الشعر وما يزال ميداناً رحباً من ميادين الثقافة، وله دور فاعل في الحياة

الثقافية المعاصرة، ولكن كثيراً، من المثقفين ومن أساتذة كليات الآداب العربية

بدأوا، يشكون ويتذمرون بشكل واضح مما ينشر هذه الأيام في الصحافة والمجلات

الأدبية، ويقولون بصوت واحد: لم نعد نفهم هذا الشعر الذي تقولون أيها الشعراء.

والشعراء بدورهم يلقون باللائمة على القارئ.

ترى ما السبب الذي أدى إلى ظهور هذه الأزمة تجاه الشعر الجديد؟

هنالك عوامل عدة أدت أو ستؤدي حتماً إلى خروج الشعر بمستواه الحالي -

الذي تسوّد به كثير من الصحف والمجلات العربية - من دائرة الثقافة، ويرجع ذلك

في نظري إلى أن هذا الشعر يمر بعدة أزمات منها:

١- أزمة فكرية:

إن ما يسمى بالشعر الجديد نشأ أول ما نشأ على يد أناس متهمين فكرياً بدءً

بالسياب ونازك الملائكة، وعبد المعطي حجازي، وصلاح عبد الصبور.. وانتهاءً

بسعدي يوسف ومحمود درويش، والأفراخ الجدد ممن تربى بين أحضان تلك

المدارس.

ولا زالت القضية الفكرية هي المحور، فإن الانفصام الثقافي بين أولئك

الشعراء، وبين الطبقة التي تمثل الأكثرية في العالم العربي ممن يؤمن بدور،

الشعر التثقيفى، بل والتغييري، ومنهم روّاد في الثقافة - أدى ذلك إلى وجود أزمة

للقصيدة الجديدة، إذ تلقاها الجمهور المثقف على أساس أنها تمثل تياراً مناقضاً

للموروث بكل أشكاله، فرفضت ولفظت من هذا الجانب بكل قوة، إذ أنها بما تمثله

من تيار فكري غريبة تلقى أصحابها فتات الثقافة الأخرى.

والحق أن الانحراف الفكري لمنظري القصيدة الجديدة بلغ درجة لا تطاق،

والأمثلة على ذلك كثيرة جداً، ومن يلقي نظرة على إنتاج تلك الفئة يجده بيناً،

وعلى سبيل التحدي من أمثال البياتي، والسياب، وأدونيس، والمقالح، وبلند

الحيدري.. الخ.

حتى أصبحت قضية المفارقة الفكرية سمة ملازمة للقصيدة الجديدة وتنضح

بعبارات الإلحاد وشعاراته، مما يرفضه حس الإنسان المسلم.

٢- أزمة في الغموض:

هذه هي الأزمة الثانية التي تردت فيها القصيدة الجديدة وبخاصة في جيلها

الثالث.

والمقصود به الغموض الذي يصل إلى حد الأحاجي والألغاز، إذ أضحى

الشعر عند هذه الفئة نوعاً من الحذلقة، والتصنع في رص ألفاظها والتراكيب،

حتى أصبح الغموض سمة الشعر الجيد عند هذه الفئة، لدرجة لا يكاد يفهمه صاحب

النص، مما حدا بأدونيس أن يقول عن فهم الشعر: «ليس من الضروري لكي

نستمتع بالشعر أن ندرك معناه إدراكاً شاملاً؛ لأن مثل هذا الإدراك قد يفقدنا هذه

المتعة..» .

ويقول أحد المعجبين بأدونيس: «إن الشاعر المعاصر لا يتيح لهؤلاء

الآخرين فرصة الولوج إلى عالمه بسهولة، بل يرى قمة المجد ألا يكون

مفهوما» ، فهذا الضرب من التنظير النقدي، وفتح باب التجريب على صراعيه أديا بكثرة كاثرة من الجيل الثالث أن يتسلق هذا السلم كل من أراد الظهور والشهرة، وكان لبعض المجلات والجرائد المختصة دور تخريبي لا يغفل. ويأتي الغموض

تحت شعار تجديد اللغة الشعرية، وإصرارهم على الإتيان بصور غريبة يأباها

الذوق العربي، إذ هي بعيدة كل البعد في تركيبها عن العربية.

من ذلك مثلا قول «أدونيس» :

هذه ناري

لا تبق آية، دمي الآية

هذا بدئي

ونحوه قول «أنسي الحاج» :

المدينة الحاضرة جيب صادق

يهدل لحم الليل

يتفسخ يتطاير محروقاً

وشظايا نار

مدّها قحط السنوات

من حاملي الألوية.

وعلى نفس المنوال يقول - أحمد عبد المعطي حجازي:

وبعد صمت لم يطل

الطائر الأخضر طار

الغصن ما زال بسحره يميل

كأنني شجرة من الشجر

مرت بها الأمطار

فسار في أعماقها حلم الثمر

وانحلت الأشرار

بعد طفولة طويلة بعد انتظار

فهي كما يقول الدكتور يوسف عز الدين «ولكن هذا الإيحاء غامض،

غموض الغموض..» .

ولنا أن نتساءل ما الفائدة من الشعر إذا لم يتذوقه المفكر ويفهمه الأديب

والمثقف.

على أنه ينبغي القول إن الشعر لا بد أن يكون فيه نوع من الغموض الواضح

إن صحت التسمية لئلا ينزلق الشعر إلى السطحية، بل إن الشاعر قد يلجأ إلى نوع

من الرمز والغموض ليعبر عن قضاياه تجاه قوى القهر والظلم، والشاعر الذي

يمتلك الموهبة والثقافة يستطيع أو يوازن بين الغموض والوضوح.

٣- أزمة المتلقي:

لعل أشد الأزمات قتامة مني بها دعاة الشعر الجديد هو المتلقي، إذ يتشكى

كثير منهم من انفصام العلاقة بين كاتب القصيدة ومتلقيها، وذلك يرجع في نظري

إلى السببين السابقين، إذ أديا إلى النفور العام من القصيدة الجديدة، برغم محاولة

كثير من الشعراء والمثقفين لهم من النقاد الإلقاء باللائمة على الجمهور المتلقي،

لأنهم كما يزعمون ظلوا أسرى التخلف في مطالعاتهم، مما نتج عنه عدم تفاعلهم مع

الجديد، وهذا القول فيه مجافاة للحقيقة، فقد وجدنا أساتذة الأدب الحديث يقفون

حيارى مشدوهين أمام كثير من النصوص لعجزهم عن فك طلاسمها.

والشعر إذا لم يتقبله الجمهور المثقف الواعي يفقد هدفه، لذا فالأفضل أن

يخرج من دائرة الثقافة عامة، ومن فن الشعر خاصة.

على أن هنالك أزمات كثيرة تمر بها القصيدة الجديدة مما قد يطول المقام

عندها كأزمة اللغة، والإيقاع، والسرقة.. الخ.

ولأن هذا الشعر منبوذ من قبل الأمة لمضامينه المنحرفة التي تعيش على

فتات الأفكار المنحرفة يعجب المرء من هذا الغي والتمادي في الباطل.