للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الورقة الأخيرة

[أورام في البناء الثقافي]

د. أفراح بنت علي الحميضي

حين تنبض الثقافة بهمّ الأمة، وحين تمد الأمة الثقافة بمقومات صمودها

وعوامل بقائها وأصالة منبتها ونبل مخبرها، وإذا توثقت العلاقة بين الطرفين كان

ذلك مدعاة لسيادتهما جميعاً، وإذا تهاوت تلك العلاقة فلا بقاء لواحدة دون الأخرى.

وحيثما يكون للأمة رسالة يحملها مثقفوها عبر أقنية الاتصال لإبلاغها دعوة

الخير للعالم أجمع يعيشون آنذاك حالة من الهم والقلق لأجلها، وإذا انتفى ذلك

وفضل المثقفون سلوك طريق غير معبّد وأسلوب غير ممهد وطريقة ومنهج موسوم

بالعبثية والمصلحة الفردية عند ذاك يظهر الخلل بين الجذر والساق، بين الأمة

والثقافة، فلا الساق بقادر على السمو والعلو، ولا الجذر يستطيع وهبه مقومات

شموخه، وتغدو العلاقة حالة من العقوق.

وفي هذه الكلمات أضع بعض الجراح على ورم البناء الثقافي؛ مستحثة

المثقفين والمثقفات لمهمة استئصاله قبل أن يتشعب فيهلك الجسم الواهن.

- الورم الأول:

الفجوة الواسعة بين المثقف المحلي ومطالب ورغبات وهموم وتطور المجتمع،

والمعنى المقصود اتساع المسافة الزمنية بين المراحل التاريخية للتطور الثقافي،

وهو أمر قد يُلبس بعض المثقفين التهمة حين يقفزون قفزات واسعة متجاهلين

المراحل التي يمر بها المجتمع دون وعي بأن قفزاتهم قد تبعد بهم عن أرض الواقع.

- الورم الثاني:

ضعف الجانب الإبداعي لدى المثقف المحلي حتى غدت التكرارية والتلقي من

الآخرين سمت بعض المثقفين.

- الورم الثالث:

انتفاء الهم الثقافي الذي يدافع عنه المثقف ويسعى لإجلائه؛ فقد يدور في دائرة

من النرجسية والخيالية أو العبثية أو الحداثية وما بعدها، وهذا الانتفاء يجعل

مساهمات المثقف هزيلة ضعيفة لا تصمد أمام تيارات العولمة وأعاصير التغريب.

- الورم الرابع:

وضع حدود بين الثقافة العربية والإسلامية، وهي حدود تدل على ضيق أفق

واضعيها في فهمهم الشامل لمفهوم الثقافة الإسلامية؛ مما يؤدي إلى تهميش الأصول

الثابتة التي ترتكز عليها الثقافة الإسلامية؛ ومن ثم تحييد قضية الولاء والبراء.

- الورم الخامس:

استلهام تجارب وثقافات الآخرين دون غربلة لما ينالنا ويمس ثوابتنا، ويدخل

في إطار ذلك أيضاً المحاور الثقافية التي يدور حولها النص والمصطلحات،

والجمل التي تعارض أسسنا وقيمنا.

- الورم السادس:

سعي بعض المثقفين إلى الإيهام بأن هناك خطاباً أنثوياً خاصاً مع ما يجره ذلك

من رفض لصيغ الأمر والنهي الواردة في الشرع، والتي يدخل في محتواها

الجنسان؛ إذ طالما في فهمهم أن للأنثى خطاباً يوجه لها فهي غير ملزمة بالخطاب

الآخر وفي ذلك نكسة وعصيان.

- الورم السابع:

شعور بعض المثقفين أن العادات والتقاليد عنصر كبح لإبداعاتهم، ولهذا فهم

يستغلون الفرص للخروج من إطاراتها إلى عوالم أوسع، ومجالات أفسح للتقليد

والالتحاق بركب الآخر حتى وإن قاده ذلك الآخر إلى مصير منبوذ فلا هو ابن أمته،

ولم يشأ الآخر أن يتبناه.

- الورم الثامن:

عدم إدراك بعض المثقفين للحدود التي يجب أن يقفوا عندها في محاولاتهم

التجديدية وكتاباتهم الأدبية والتاريخية، بل وحتى العلمية؛ فهناك حدود لا تمس

وثوابت لا تجس يجب أن يقفوا عندها؛ فالذات الإلهية والعبادات والقرآن وسيرة

الرسول صلى الله عليه وسلم وتراجم الصحابة والتابعين ولغتنا العربية ليست مجالاً

للتغيير والتبديل والعبث.

- الورم التاسع:

حصر مفهوم الثقافة بالدراسات الأدبية والنقدية والتاريخية، واعتقاد ذلك يحدد

مفهوم الثقافة، ويضيق أفق المثقف الذي هو إنسان مبدع.

- الورم العاشر:

المثقف مجدد وهو إذا حمل همّ بيئته كان مفجراً لآمالهم معالجاً لآلامهم،

وكثير من المثقفين لا يكونون مماثلين للنابغة الجعدي أو الذبياني، وإنما تبدأ سيرهم

الثقافية في صغرهم، فتتولاهم أسرهم رعاية واستنباتاً ورياً حتى تنهض هاماتهم

الثقافية، وتسمق سوقهم الإبداعية الإيجابية، ولا يتأتى ذلك إلا إذا أدركت أسرهم

أن مجتمعاً بلا ثقافة إيجابية أو مثقفين إيجابيين سيستسلمون بلا وعي تحت وقع

الإعجاب بالآخر.

- الورم الحادي عشر:

استعجال كثير من المبتدئين نشر إنتاجهم دون وعي لمدى نضجهم وكفاءتهم،

ومن ثم قد تتلقاهم وسائل الإعلام بالدعاية والتلميع دون أن يكون ذاك المثقف قد

حوى تجربة ثرة تمكنه أن يعرضها؛ حيث يشمخ مغزاها ويسمو معناها، مثلما يعلو

إطارها اللفظي وبناؤها الشكلي.

- الورم الثاني عشر:

تجاوز بعض المثقفين أطر مجتمعهم متناسين أن الثقافة نتاج عقول الأمة وهي

أعظم راسم للهوية، ومحدد لبناء المستقبل، وبمعنى أدق كثير من المثقفين يتناسون

أن تمايز الثقافات يعني تمايز الأمم، وهو أمر ينعكس على تمايز وجودها على

الخارطة التاريخية.

- الورم الثالث عشر:

سعي بعض المثقفين إلى العالمية ولو على حساب غموض نصوصهم

وأطروحاتهم وعروضهم، فيفضلون كونهم في هوامش العالم على أن تكون

نصوصهم الثقافية في هوامش مجتمعهم، مما يعكس وجود فجوة هائلة بينهم وبين

الجماهير، فلا هم الذين أخذوا بيد الجماهير إلى العالمية وفق ثوابت وأصول، ولا

هم الذين استطاعوا أن يدخلوا العالمية تحت مظلة ثقافية واضحة قادرة على الصمود.

يقول شوقي عبد الأمير: «أنا لا أعترض أن يقال عن شعري إنه شعر

نخبوي؛ لأنه لدي همٌّ في القصيدة؛ وحتى يواكب هذا الهمُّ أي قارئ يجب أن يكون

لدي حقيبة معينة. أنا لا أعتقد أن مهمتي كشاعر هو تحميس الجماهير أو إرضاؤهم،

ولا أظن أن الهدف العميق للشعر هو مواكبة الشعب بكل طبقاته وطوائفه

بأحاسيسهم اليومية وعواطفهم المباشرة، هذا صعب في مشروعي الشعري الذي

الهدف منه تأسيس رؤيا جديدة للعالم.. نحن مطالبون بأن نأخذ بعين الاعتبار بكتابة

نص جديد، وإلا فسنظل على هامش العالم؛ فالشاعر إما أن يقع على هامش

المجتمع الذي هو فيه، أو يقع النص الشعري على هامش العالم، أنا أفضل أن

أشتغل في هامش المجتمع من أجل نص شعري يقع في قلب السؤال الحضاري لا

العكس» [١] .

وبعد فإذا كان ذلك حصيلة فحص مبدئي للبناء الثقافي لجعله صامداً أمام

محاولات فرض العولمة الثقافية؛ فإني أخلص إلى بعض المقترحات:

** من الضرورة أن يولد المثقف في مجتمعه، ويرضع من مجتمعه، وتنبثق

أفكاره منه، وحيث تكون علاقته بالمجتمعات الأخرى والثقافات المغايرة علاقة

احتكاك وصقل لا ذوبان.

** من وظائف المثقف أن يجدد نفسه ويكثر من الاطلاع، وأن يُدعم بين

جوانحه موضوعاً يُسير أطروحاته ومناقشاته على أن يتبع ذلك الموضوع من

حاجات بيئته.

** مثلما يدافع ساسة فرنسا وبريطانيا عن الثقافتين الفرنسية والإنجليزية من

الذوبان في بعضهما يجب أن يقف مثقفونا نفس الموقف من الثقافة الإسلامية، بل

إن الأمر يجب أن يتعدى الدفاع عن / إلى عرضها كنموذج خلاص للضحالة الفكرية

التي تُغرق العالم؛ كيف وهي تحوي من مقومات الصمود ما لم يتوفر لغيرها، ومن

المتوقع إذا دفعها أبناؤها إلى جدار العولمة أن تكون اللبنة الظاهرة فيه.

** ضرورة أن يدرك المثقفون عامة وأصحاب النظريات الثقافية خاصة أن

لهم أن يمارسوا إبداعاتهم التجديدية في كل شيء إلا الثوابت.

** على الساعين إلى العالمية أن يدركوا أن الأدب الإنجليزي العالمي لم يكن

عالمياً إلا بعد أن ذاب في المحلية الإنجليزية، والأدب الفرنسي العالمي لم يكن

عالمياً إلا بعد أن خرج من بوتقة اللغة الفرنسية، أوَ ليس حرياً بنا أن ندخل العالمية

تحت مظلة الثقافة الإسلامية؟! وحفظ الله أمتنا.


(١) نقلاً عن مجلة اليمامة، العدد ١٥٩٢، ص ٢٦٥، ٢٦٦.