للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

المسلمون والعالم

[مستقبل السلطة الوطنية الفلسطينية]

حسن الرشيدي

«السلطة ليست القيادة التي يمكنها أن تقود إلى قيام الدولة الفلسطينية التي

نحتاجها» . هذا تصريح لكوندوليزا رايس مستشارة الأمن القومي الأمريكي.

ويكشف هذا التصريح أن ثمة اتفاقاً أمريكياً إسرائيلياً على التغيير الجذري للسلطة

الفلسطينية؛ فبعد خراب غير مسبوق، انتهى العدوان الإسرائيلي على الضفة

الغربية بصفقة لتحرير الرئيس عرفات من الحصار، ولم يُعْطَ عرفات الشهادة كما

يدعي، بل لم تحاول القوات الإسرائيلية المساس به رغبة لشارون.

وبقي السؤال الأخطر: ما مصير السلطة الوطنية الفلسطينية إزاء هذه

التطورات المتلاحقة؟

لشرح مستقبل السلطة الفلسطينية بعد الاجتياح الإسرائيلي لا بد من دراسة

عدة أطراف تعتبر في نظرنا لها دور رئيس في تشكيل هذه السلطة منذ بداياتها،

وكان لكل طرف أجندته الخاصة به عند قيام السلطة بممارسة دورها لأول مرة في

بدايات التسعينيات، وسوف نحاول استكشاف طبيعة هذه الأهداف، وهل تحققت

هذه الأهداف بشكل كامل أو جزئي؟ ويبقى مستقبل هذه السلطة مرهوناً باستمرار

هذه الأهداف، أو عدم تحققها، وأهم هذه الأطراف هي السلطة الوطنية نفسها

وإسرائيل.

* السلطة الوطنية الفلسطينية:

في عام ١٩٦٤م وأثناء القمة العربية الأولى المنعقدة في القاهرة تمت

المصادقة على إقامة منظمة التحرير الفلسطينية.

كان للحكومات العربية حينئذ هدف مختلف من إنشاء المنظمة بحيث يخدم هذا

الهدف توجهات ورغبات كل حكومة، وتم تعيين أحمد الشقيري وهو من أصل

فلسطيني رئيساً للمنظمة الجديدة، وأثناء ذلك تسلم ياسر عرفات وهو طالب في كلية

الهندسة في جامعة القاهرة من أصل فلسطيني قيادة حركة فتح إحدى المنظمات التي

تتكون منها منظمة التحرير الفلسطينية التي تكونت عام ١٩٦٥م ودعت إلى الكفاح

المسلح، وفي عام ١٩٦٦م تم تأسيس مجموعة ثورية هي الجبهة الشعبية لتحرير

فلسطين برئاسة جورج حبش وهو طبيب من مواليد اللد، وفي عام ١٩٦٩م انفصل

عن الجبهة نايف حواتمة من مواليد شرقي الأردن وأسس مجموعة أخرى هي

الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين. ويشار إلى أن حبش وحواتمة هما مسيحيان

أرثوذكسيان.

وبعد خيبة أمل هذه المجموعات من هزيمة الجيوش العربية في عام ١٩٦٧م

بدأت كل مجموعة على حدة تقوم بأعمال فدائية ضد إسرائيل في محاولة منها

للحفاظ على الحماس والروح الثورية، وشكل الأردن قاعدتهم الأساسية.

وفي عام ١٩٦٨م استولت حركة فتح بزعامة ياسر عرفات على المنظمة

بالرغم من أنه لم تجر انتخابات للمنظمة، وبالرغم من معارضة مؤسسات فلسطينية

مختلفة للمنظمة ولسياستها؛ إلا أن معظم الفلسطينيين اعتبروها مؤسسة تمثلهم،

وأيدوا اعتراف دول العالم بها على أنها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني. وقد

كان الهدف الرئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية عند تأسيسها تحرير فلسطين من

الاحتلال الإسرائيلي خلال سنوات عديدة من عدم الاعتراف المطلق بأي حقوق

يهودية في فلسطين، ولقد كانت وسائل تحقيق الهدف هي الكفاح المسلح.

في نهاية الثمانينيات تبلور هيكل المنظمة إلى ثلاثة أنماط رئيسة:

الأول: الجيل القديم في منظمة التحرير وهو يضم قيادات بدأت حياتها في

النضال والكفاح المسلح لتحرير فلسطين، وبالرغم من أن أغلب هذه القيادات

خرجت من محضن جماعة الإخوان المسلمين ولكن نتيجة للقمع الذي تعرضت له

الجماعة في أواخر الخمسينيات والستينيات ابتعد هؤلاء عن الفكرة الإسلامية

وانخرطوا في التيار السائد في ذلك الوقت حيث تعاظم المد القومي؛ ومن ثم كان

انهيار ذلك المد مع الهزيمة المروعة التي قادها زعماء القومية في حرب ١٩٦٧م

إيذاناً ببدء انهيار الدافع الأيديولوجي وراء تلك الأعمال، ثم كان التوجه المصري

للصلح مع اليهود في كامب ديفيد وما تبعه من اجتياح إسرائيلي للبنان وفقدان

المقاومة الفلسطينية لآخر معاقلها ونقط إرتكازها في مواجهة إسرائيل إيذاناً بالانهيار

النفسي الثاني للمقاومة.

وجاء التراجع الثالث في أعقاب الغزو العراقي للكويت والتدخل الأمريكي،

وانفراده بالهيمنة على العالم، وإعلان النظام العربي والاستسلام الكامل لتلك الهيمنة.

هذه المنظومة القيادية تمحورت حول فريقين:

- فريق يأبى الاعتراف بالهزيمة ويصر على استمرار المقاومة، وعلى رأس

هذا الفريق أبو جهاد خليل الوزير، وأبو إياد صلاح خلف؛ وهذا الفريق إنما اختار

طريق الصمود ليس من باب عقيدي؛ ولكن لأنه أدرك من خلال تجاربه واتصالاته

أن إسرائيل لا يمكن أن تعطي الفلسطينيين شيئاً يذكر؛ فالاستمرار في المقاومة هو

أهون الشرين، ووجد هذا الاتجاه ضالته في الانتفاضة الأولى التي اندلعت عام

١٩٨٧م، وعمل على دعمها وتطويرها. وقد بدا لبعضهم ميل للحل الإسلامي

ودعم له؛ حيث يقول أحد كوادر فتح في مذكراته: أيد الشهيد خليل الوزير أبو

جهاد فكرة الجهاد بقوة، وشدد على فكرة التنظيم الجهادي الإسلامي وعلى دعمه

مادياً ومعنوياً؛ ولذلك قامت إسرائيل بتصفية هذا الفريق تباعاً.

أما الفريق الآخر وعلى رأسه أبو عمار ياسر عرفات فكان يرى مسايرة الواقع

واتخاذ الطريق السياسي بديلاً للمقاومة المسلحة. وعندما قامت الانتفاضة الأولى

تركزت جهوده في احتواء الانتفاضة وقيادتها، وعدم خروجها عن قيادة منظمة

التحرير كخطوة تمهيدية نحو اتخاذها ورقة له في عودة المنظمة مرة أخرى للساحة

السياسية، وخاصة بعد بروز التوجه الإسلامي للشعب الفلسطيني والمتمثل في

انبعاث حماس والمقاومة الإسلامية.

وعندما وجد عرفات من يمد يده لانتشاله من التهميش الذي شعر به في أعقاب

تلك الانتفاضة سارع لقبول كل ما يطلب منه في سبيل استعادة دور مفقود وزعامة

كانت في سبيلها للنهاية؛ ومن ثم كانت أوسلو وما تبعها من اتفاقيات مرحلية

وجزئية، وقبل عرفات بتنازلات تلو تنازلات وفي النهاية وجد نفسه أمام كامب

ديفيد وضرورة التنازلات الصعبة في مسائل القدس واللاجئين والحدود، وأصبحت

تنازلات الإسرائيلية هي عبارة عن إعادة التسمية للحقائق التي فرضتها على

الأرض؛ فضواحي القدس في قرية أبو ديس أصبحت تسمى القدس التي سيعلنها

عرفات عاصمة له، واللاجئون سيتم دفع التعويضات المناسبة لهم مع إعادة بعض

الأسر ولمِّ شملها؛ وحتى الدولة التي يريدها أضحت أشبه بفرع شرطة في قرية

صغيرة يتولى إحضار المطلوبين للأمن الإسرائيلي؛ ومن هنا رفض عرفات

التوقيع؛ وحينها وجد نفسه في مأزق أشبه بمأزق السادات قبل حرب أكتوبر الذي

مد جسور المباحثات السرية مع الولايات المتحدة وإسرائيل على أمل إعطائه حتى

سيناء، ولكن الصلف الإسرائيلي رفض هذا العرض فما كان من السادات إلا أن

شن حرباً محدودة على أمل أن يقتطع جزءاً من الأرض يحسن موقفه التفاوضي.

وتكررت المأساة مع عرفات، واندلعت الانتفاضة؛ ولكن عرفات نسي أن أموراً

كثيرة منذ ثلاثين عاماً قد تغيرت؛ فالبيئة الدولية في حرب أكتوبر هي غيرها الآن؛

فالنظام الدولي كان ثنائي القطبية من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، أما

الآن فتهيمن عليه الولايات المتحدة وكذلك موازين القوى في المنطقة مختلفة حيث

تمتلك إسرائيل الرادع النووي والأسلحة التقليدية التي لا يملك مثلها العرب، ولكن

الأهم من ذلك هو أن الجماهير الفلسطينية والتي يريد عرفات تحريكها هي غير

الجيوش العربية التي من السهل أن تنصاع لأوامر قادتها؛ أما الشعب الفلسطيني

فتنساب داخله روح الانتفاضة المؤسسة على بعد عقيدي ليس من الصعب تجاوزه

وإهماله.

النمط الثاني من أولئك الذين يكونون بنيان السلطة الفلسطينية هم العملاء

والمنتفعون الذين كانوا دائماً ملتصقين بقيادات المنظمة لأغراض عديدة غير هدف

المقاومة وغايات الكفاح، فكان منهم العملاء الملتصقون بالقيادة لتتبع أخبارها ونقل

تحركات أفراد المقاومة وخططهم إما إلى الموساد مباشرة أو إلى الـ CIA أو إلى

أجهزة المخابرات العربية؛ واعترف بذلك بعض المسؤولين الأمنيين الإسرائيليين

باختراق المنظمات الفلسطينية، وأكدوا أنهم مارسوا ما يسمى بـ (الإغراق

الأمني) ، أي إرسال جواسيس بأعداد كبيرة بحيث إن الأمن المضاد صار لا

يصدّق أن من المعقول أن يكون الاختراق بهذا الحجم، ثم بالتدريج يصبح لديه

نوع من الارتخاء الأمني. ولقد اندهش كثير من أفراد الشعب الفلسطيني

خاصة في الثمانينيات وهم يرون المقاومين يقعون في قبضة قوات الاحتلال

الإسرائيلي وهم في الطريق لتنفيذ عملياتهم، وينجلي الغبار عن العمالة التي وصلت

إلى مستويات كبيرة داخل صفوف منظمة التحرير الفلسطينية التي تشي لأجهزة

الأمن الإسرائيلي بتحركات هؤلاء. ومن المثير أن يسر أحد زعماء المنطقة منذ

عدة أسابيع إلى زعيم آخر عند اجتماعه به ويبدي تعجبه عندما سمع باسم

أحد المرشحين لخلافة عرفات فيقول بالحرف الواحد: «ده جاسوس» .

وهذه الفئة هي التي كانت أكثر فئات منظمة التحرير اندفاعاً نحو أوسلو

والحل السلمي المزعوم، حتى إن إسرائيل والولايات المتحدة اشترطتا على المنظمة

أن تكون هذه الفئة هي المسيطرة على الأمن داخل السلطة وعلى رأس هؤلاء

رجوب ودحلان والشخصية الغامضة محمد رشيد، أو خالد سلام. ويقول يعقوب

بيري رئيس جهاز الأمن العام الصهيوني السابق الشاباك إنه قام في أعقاب التوقيع

على اتفاق أوسلو بترشيح كلاً من جبريل الرجوب ومحمد دحلان لرئيس الوزراء

الصهيوني السابق إسحق رابين للعمل معهما بشان تنفيذ الاتفاقات الأمنية بين

الجانبين الصهيوني والفلسطيني.

ويذكر بيري في مذكراته: «مهنتي كرجل مخابرات» التي صدرت

ترجمتها العربية مؤخراً أنه لم يكن يعرف الرجوب ودحلان شخصياً، ولكنه كان

يعرف عنهما كل شيء، لذلك فإنه اقترح على رابين أن يتوجه مع رئيس الأركان

في ذلك الوقت أمنون شاحاك إلى تونس لإجراء حوارات سرية مع الاثنين، ولكن

بيري تراجع عن السفر لتونس، وسافر شاحاك بمفرده؛ حيث التقى بعرفات الذي

وافق على إجراء الحوار مع الرجوب ودحلان.

ويروي بيري أنه شارك في الحوارات مع الرجوب ودحلان وتوطدت

العلاقات الشخصية بين بيري وبينهما، وأن الرجوب كان يتصل به بعد كل عملية

فدائية تقع ويسأله عن صحته وصحة زوجته والأولاد، ويؤكد بيري أن الرجوب

كان يبذل قصارى جهده لحل كل مشكلة أعرضها عليه.

وفي حديث له أثناء توقيع اتفاق أوسلو مباشرة. قال فاروق قدومي رئيس

الدائرة السياسية لمنظمة التحرير الفلسطينية إن وزراء السلطة مفروضون من قبل

أمريكا وإسرائيل والأردن ومصر، وعقب رفع الحصار عن عرفات قدم نبيل

عمرو وزير الشؤون البرلمانية بالسلطة الوطنية استقالته من منصبه بعد أن هاجم

ومعه عدد من الوزراء ممارسات العقيد جبريل الرجوب ومحمد دحلان وخالد سلام

وحسن عصفور وزير المنظمات الأهلية وصائب عريقات وزير الحكم المحلي؛

حيث تم اتهام هذه المجموعة علنياً بأن كل ممارساتها خلال فترة العدوان الأخيرة

كانت تتلخص في الجلوس بفنادق رام الله والذهاب بسيارات إسرائيلية إلى القدس

وتل أبيب لمقابلة أطراف إسرائيلية والعودة للخطابة في الفضائيات العربية، وأن

الجانب الإسرائيلي سمح لهذه المجموعة فقط بمقابلة عرفات وإعداد قيادة بديلة له.

وتبادل الرجوب ودحلان وسلام الاتهامات علناً بالتبعية للعدو الصهيوني

والولايات المتحدة الأمريكية، واتهم البعض الرجوب بأنه اتفق مع الجانب

الصهيوني على استثناء الخليل من العدوان على الضفة الغربية حيث تقع بلدة دور

مسقط رأسه، واتهموا دحلان بالاجتماع مع مسؤولين صهاينة في مقدمتهم وزير

الحرب الصهيوني بنيامين بن إليعازر بهدف تجميع أجهزة الأمن الفلسطينية في

جهاز واحد يرأسه دحلان. أما رشيد فقد شوهد من قبل أهالي رام الله أكثر من مرة

وهو يركب سيارات صهيونية من وإلى رام الله على الرغم من الحصار.

وفي سابقة هي الأولى من نوعها تبادل الرجوب ودحلان الاتهام بالعمالة على

صفحات الجرائد وفي القنوات الفضائية؛ فجبريل الرجوب أطلق اتهامات وشتائم

تجاه دحلان؛ وذلك بعد أن تسربت أنباء عن تسلم دحلان مكانه في قيادة الأمن

الوقائي في الضفة الغربية، واستغرب الرجوب في لقاء هاتفي مع محطة تلفزيون

المهد المحلية التي تبث من مدينة بيت ساحور أن تكون الحملة الحالية موجهة ضده

مستثنية دحلان وكأن لسان حاله يقول: كلنا عملاء. وقال الرجوب إن خالد سلام

مستشار الرئيس الفلسطيني الاقتصادي طفل أنابيب لا يعرف له أحد أصلاً مشيراً

إلى أصوله غير الفلسطينية؛ حيث إن سلاماً عراقي من أصل كردي. وقال

الرجوب إن رشيد يحشر نفسه في أمور أخرى في إشارة إلى تصريحات كان أدلى

بها رشيد عقب أزمة مقر الأمن الوقائي التي اتهم فيها الرجوب من قبل الرأي العام

الفلسطيني بتسليم مجموعة من المناضلين وقال فيها رشيد إن الأوامر للرجوب كانت

بالصمود واعتبر تصريح رشيد القريب هذه الأيام من عرفات بأنه محاولة من

الأخير لشطب الرجوب الذي حاول ذلك بتصريحات أطلقها فيما بعد حمل فيها

المستوى السياسي مسؤولية تلك الأزمة، وقال الرجوب إنه مجرد منفذ، ثم عاد

الرجوب وأدلى بحوار مطول لجريدة الحياة اللندنية اتهم فيها محمد دحلان بالعمالة

للمخابرات المركزية الأمريكية، وهدد بكشف الأوراق في الوقت المناسب، وفي

اليوم التالي أدلى دحلان بحوار اتهم فيه الرجوب بالعمالة للموساد الإسرائيلي،

وأوضح أن الأيام القادمة سوف تكشف تفاصيل مثيرة، والغريب في الأمر أن

الاثنين أبديا حرصهما على حياة الرئيس وأعربا عن مخاوفهما من اغتيال عرفات

أو استبعاده من قيادة الشعب الفلسطيني.

والنمط الثالث: وهو فريق غير ملوث ظاهرياً على الأقل، ولم يعرف عنه

أي عمالة، ولم يمر بما يسمونها تجارب نضالية بائرة، ومعظم هذا الفريق من

النشطاء السياسيين الشبان الذين عززت الانتفاضة من قوتهم بدرجة كبيرة وعلى

رأسهم عضو المجلس التشريعي مروان البرغوثي الشخص الأقوى في حركة فتح

في الضفة الغربية، وهو من مواليد عام ١٩٥٨م في رام الله وأحد مؤسسي الشبيبة

الطلابية في الضفة الغربية، وترأس حركتها في جامعة بير زيت في بداية

الثمانينيات، وكان رئيساً لاتحاد الطلاب، وهو حاصل على بكالوريوس في التاريخ

والعلوم السياسية من الجامعة نفسها، ثم الماجستير في العلاقات الدولية.

قضى البرغوثي ست سنوات في السجون الإسرائيلية لقيامه بدور فاعل في

الانتفاضة الأولى في الفترة من ١٩٨٧-١٩٩٢م وتم ترحيله من فلسطين إلى الأردن

عام ١٩٨٧م.

وعمل ضابط اتصال لمكاتب منظمة التحرير الفلسطينية في عمان وتونس،

وبموجب اتفاقات أوسلو عاد إلى الضفة الغربية في أبريل / نيسان ١٩٩٤م وعرف

عنه حماسه الشديد لاتفاقيات أوسلو.

وهذا الفريق أخطر الأنماط السابقة؛ وتتمثل خطورة البرغوثي في قيامه بدور

مزدوج أجاده وأتقنه؛ فهو في نظر الفلسطينيين زعيم شعبي وقائد للانتفاضة؛ فهو

يحاول أن يسحب زخمها ويسرق بريقها من زعمائها الحقيقيين وهم الإسلاميون،

ولكن ماذا يمثل البرغوثي في نظر الإسرائيليين؟ يقول البرغوثي للصحفي جدعون

ليفي الذي نشر حديث البرغوثي له في صحيفة هآرتس الإسرائيلية: هل تعتقد أنهم

سيجدون غداً زعيماً أكثر اعتدالاً مني يقوم بإعداد القهوة لموفاز في الصباح؟ أنا

مستعد للالتقاء مع شاس ومع الليكود، مع الجميع، للتحاور والإقناع، ولكن

الإسرائيليين لا يريدون أن يفهموا.

ويمضي ليفي فيقول: البرغوثي كان رجلاً ينشد السلام، وقلة من

الفلسطينيين كانت ترغب بالسلام مثله، وكان ضالعاً جداً في إجراء الاتصالات

والعلاقات مع إسرائيليين كثيرين ليس من اليسار فقط، ولم يُخْفِ أبداً إعجابه في

بعض الظواهر الموجودة في إسرائيل فيقول البرغوثي: أنا أنهض في الصباح،

وأنظر نحو الغرب، وليس باتجاه الشرق.

ويمضي ليفي فيقول: شخصيته في تلك الأيام كانت شخصية رجل يسير في

دروب السلام، والآن تبدو هذه الصورة صورة خيالية من عالم الهذيان مثل أيام

الراحة التي اعتاد قضاءها مع أطفاله في سفاري رمات غان يتنقل بين مراكز

الأحزاب وأعضاء الكنيست، ويبني أواصر الصداقة مع بعضهم من خلال الوفود

والبعثات المشتركة للخارج، لم يفوِّت فرصة القيام بأي لقاء، وآمن بكل جوارحه

بالحوار والتفاوض.

وقال بنيامين بن إليعازر لوفد من السلام الآن أن مروان البرغوثي ينتمي إلى

جيل القيادات الفلسطينية الذي سيرث مكان ياسر عرفات، وقال: إن هؤلاء

أشخاص سيتعين علينا الحديث معهم مع قدوم الوقت؛ فهؤلاء الأشخاص مكثوا

لسنوات طويلة في السجون الإسرائيلية وهم يعرفوننا جيداً.

وتقول صحيفة إسرائيلية متهكمة: لو اتصل أحد المشاركين في اللقاء عندما

كان بن إليعازر يحصي أمام التلفزيون جرائم البرغوثي ورغب في أن يعرف إذا

كانت إعادة البرغوثي إلى السجن بمثابة دورة الإعداد نحو ترقيته لقيادة المفاوضات

الفلسطينية.

وفي مقال نشرته قبل شهرين صحيفة واشنطن بوست صرح البرغوثي قائلاً:

اعترفنا بإسرائيل في ٧٨% من أراضي فلسطين التاريخية، وإسرائيل هي التي

ترفض الاعتراف بحق فلسطين في الوجود في ٢٢% المتبقية، وأوضح البرغوثي

أنه سيسعى حتى آخر قطرة من دمه نحو تسوية للتعايش بين دولتين على طرفي

الخط الأخضر وحل مشكلة اللاجئين.

* إسرائيل:

قبل أن نعرف لماذا أقدمت إسرائيل على السماح بقيام السلطة الفلسطينية لا بد

أن نفهم الأهداف الإسرائيلية عامة، ثم نحاول تتبع موقع السلطة في خريطة هذه

الأهداف.

تقوم الصهيونية على فكرة عودة اليهود إلى وطنهم المزعوم فلسطين،

وتخطط وتعمل في سبيل ذلك.

أما اليهودية بالنسبة إلى هذه العودة فإنها في نظرها لا تتحقق إلا بمعجزة إلهية؛

ولذلك نجد أن معظم من تبنّوا هذه الفكرة أي الصهيونية هم النصارى البروتستانت؛

بينما كان موقف اليهود في بادئ الأمر سلبياً إن لم يقف بعضهم ضدها. ولكن مع

تنامي التيار النصراني البروتستانتي المطالب بعودة اليهود إلى فلسطين شكَّل هذا

عاملاً ضاغطاً على اليهود، فضلاً عن ازدياد الاضطهاد لليهود في أوروبا.

كل هذا أدى إلى ظهور عدد من المفكرين اليهود الذين نشروا العديد من

الكتابات التي هاجمت الأفكار التقليدية التي ترى أن الخلاص لن يتم إلا من خلال

معجزة إلهية على يد المسيح المخلص، وكان أبرزهم يهودا الكعي الذي بدأ حياته

غارقاً في أساطير اليهود المنتظرة للمسيح المخلص، وقد سرت في أيامه شائعة

تقول إن عام ١٨٤٠م سيكون عام الخلاص، ولما انقضت تلك السنة من غير شيء

تحول الكعي إلى الطريق العملي؛ فكرس ما تبقى من حياته داعياً إلى تخليص

اليهود وعودتهم بالصلاة والعمل.

وقد نشر سنة ١٨٤٣م سلسلة من الكتيبات والمقالات في هذا الأمر، وطالب

اليهود بدفع العشر من أجل العودة.

ومن المفكرين الآخرين برز تسفي هوسن الذي نشر أفكاره عام ١٨٤٣م في

كتاب من جزأين بعنوان: (عقيدة صافية) ، أتبعه بكتابه: (البحث عن صهيون)

عام ١٨٦٢م. ومن أهم أفكاره:

- أن خلاص اليهود كما تنبأ الأنبياء يمكن أن يتم بوسائل طبيعية: أي

بمجهود اليهود أنفسهم دون أن يتطلب ذلك مجيء المسيح.

- أن الاستيطان في فلسطين يجب أن يتم دون تأخير.

وكان مما قاله في كتابه: إن خلاص إسرائيل لن يكون بمعجزة فجائية،

والمسيح لن يُرسل من السماء نافخاً في بوقه الكبير وجاعلاً جميع الناس يرتجفون؛

فالناس البلهاء فقط يمكن أن يصدقوا هراءً كهذا؛ أما العقلاء فيعرفون أن الخلاص

لا يكون إلا بالتدرج، وهو فوق كل شيء لن يكون إلا نتيجة جهود اليهود أنفسهم.

مع انتشار كتابات وأفكار المفكرين اليهود وغيرهم أصبح الجو مهيأً لتوحيد

جهود المؤمنين بهذا النهج الجديد من خلال حركة يهودية عامة؛ حيث ابتدأ

التحضير الجدي لعقد مؤتمر صهيوني مع مطلع سنة ١٨٩٧م، وأعلنت الحركة

الصهيونية فيه عن برنامجها السياسي الذي يهدف إلى إقامة وطن قومي للشعب

اليهودي في فلسطين.

لقد كان أهم إنجاز لذلك المؤتمر هو انعقاده الذي يُعتبر رفضاً لتصور اليهود

التقليدي حول المسيح المنتظر وبدءاً في البحث عن طرق عملية من أجل تحقيق

الحلم القديم للشعب اليهودي؛ بحيث تكون هذه الطرق متكيفة مع عوامل الزمن

الملائمة لحركتها.

إذن فإن الفكرة التي تقوم عليها دولة إسرائيل هي إقامة وطن لليهود في

فلسطين تنفيذاً لتعليمات التوراة التي في أيديهم وإقامة الهيكل تمهيداً لنزول المسيح.

ولكن مشروع هذا الوطن اليهودي تعترضه إشكاليات تعرقل تنفيذه على

النحو المطلوب:

الإشكالية الأولى: حدود هذا الوطن اليهودي؛ فحدود أرض إسرائيل الكبرى

بداية من الاعتقاد اليهودي بالوعد بهذه الأرض في التوراة، هل هي الحدود الواقعة

من النيل إلى الفرات، أم هي حدود الخروج من مصر؟ هل هي حدود احتلال

يهوشع، أم هي أماكن استيطان القبائل اليهودية؟ هل هي حدود داود وسليمان، أم

هي حدود الهيكل الثاني؟ هذا الاعتقاد الذي ما زال موضع نقاش وخلاف حتى هذا

اليوم الذي يدور فيه النقاش حول الحدود المطلوبة لأرض إسرائيل الكبرى حسب

الاعتقاد الديني اليهودي. فقد كان هناك الكثير ممن دعوا إلى احتلال الأراضي

اللبنانية ومنهم حنان بورات من المفدال الذي دعا إبان اجتياح الأراضي اللبنانية عام

١٩٧٨م، ومنهم حركة غوش أمونيم التي دعت إلى احتلال هذه الأراضي على

أساس أنها كانت حدود القبائل الخارجة من مصر، وأن هذه الأراضي هي تكملة

لحدود أرض إسرائيل الكبرى وهي أراضٍ مقدسة. إلا أن تدخل الحاخام تسفي

يهودا كوك ومن بعده الحاخام أبراهم شابيرا اللذين اعتبرا أن إسرائيل دخلت لبنان

من أجل ترتيب الأوضاع الأمنية وليس من أجل ترتيب الحدود الإسرائيلية؛ كما

تبنت حركة حيروت بزعامة بيجين مثلاً حدود الانتداب وهي أرض إسرائيل من

ضفتي نهر الأردن. وقد سأل أحد الصحفيين دافيد بن جوريون رئيس وزراء

إسرائيل الأسبق، وأحد مؤسسي الكيان الصهيوني عن حدود إسرائيل، فأجاب بأنها

حدود ديناميكية أي متحركة وليست ثابتة! وفي عام ١٩٨٢م عندما اجتاح شارون

لبنان سأله صحفي غربي عن حدود إسرائيل بعدما استقرت آلة حربه في بيروت،

فقال شارون: إن المكان الذي تتوقف فيه الدبابة الإسرائيلية ولا يمكنها التقدم أكثر

تلك هي حدود إسرائيل! وهذا يعني أن إسرائيل فكرة توسعية وليست حدوداً

جغرافية.

الإشكالية الثانية: التوازن السكاني بين المسلمين واليهود وهي مصدر

الخطورة الحقيقية التي تشعر بها إسرائيل، فتشير الأرقام الإسرائيلية الصادرة عن

مكتب الإحصاء الإسرائيلي في نهاية عام ٢٠٠٠، إلى أن مجموع سكان إسرائيل

ارتفع من ٨٠١ ألف، منهم ٦٥٠ ألف يهودي في عام ١٩٤٨م، إلى ٥٩٨٧٠٠ في

عام ١٩٩٨م، أي ازداد عدد سكان الكيان الصهيوني منذ عام ١٩٤٨م حتى نهاية

عام ١٩٩٨م بمقدار ٧.٤ ضعف، وأن الكثافة السكانية بلغت ٢٥٦ نسمة في كل

كيلو متر مربع، وهي كثافة عالية مقارنة مع الكثافة في العالم، وتشير المجموعة

الإحصائية الإسرائيلية لعام ٢٠٠٠م إلى ارتفاع مجموع سكان الكيان الصهيوني

ليصل في نهاية العام المذكور إلى ٦.٣ مليون نسمة منهم ٥.٢ مليون من اليهود

يشكلون ٨٢.٥% والعرب ١٧.٥%.

يتوقع مكتب الإحصاء الإسرائيلي أن يصل مجموع سكان إسرائيل في عام

٢٠٠٥م إلى ٧ ملايين منهم نحو ٥.٣ يهودي، وفي عام ٢٠١٠م سيصل حسب

نفس المصدر إلى ٧.٥ مليون نسمة.

إضافة إلى ذلك توقعت دراسة صادرة عن الجامعة العبرية في القدس أن يكون

معظم اليهود في العالم في إسرائيل خلال العشرين سنة القادمة، ويذكر أن هذه

الدراسة قدرت عدد اليهود في العالم بحوالي ١٣.١ مليون يهودي، ولا يتضمن

الرقم عدد اليهود في إسرائيل. لكن لا بد من التأكيد أنه خلال أكثر من قرن على

مؤتمر بال ١٨٩٧-٢٠٠١م، ونحو ٥٣ عاماً على إنشاء إسرائيل فإن أصحاب

القرار فيها لم يستطيعوا جذب سوى ٥.٢ مليون يهودي من العالم، يمثلون أقل

من ٤٠% من إجمالي يهود العالم.

وإزاء هذه الإشكاليات انقسم التيار السياسي الإسرائيلي إلى فريقين لكل فريق

استراتيجيته في حل هذه المعضلات، ولكنهم متفقون على أن الهدف النهائي هو

الهيمنة الإسرائيلية على المنطقة.

يقول إسرائيل شاحاك رئيس رابطة حقوق الإنسان الإسرائيلية: إن السيطرة

على الشرق الأوسط هدف كل السياسات الإسرائيلية، وإن هذا الهدف مشترك بين

كل الحمائم والصقور على السواء، وإن كان الاختلاف بينهم على الوسيلة: إما

بالحرب، أو بالسيطرة الاقتصادية.

ويرى الاتجاه اليساري (رابين - بيريز - باراك) أن إقامة علاقات

اقتصادية وثقافية وإعلامية وسياسية هي الوسيلة الأنسب لتحقيق تلك الهيمنة؛

فإسرائيل حققت الجزء الأول من أهدافها في الهيمنة، ونجحت في إقامة قلعة أو

مركز للسيطرة؛ هذا المركز له درع عسكري تحت مظلة نووية قادر على توجيه

الضربات إلى أي عضو في النظام الإقليمي يفكر في الخروج عن هذه الهيمنة.

ومن مخططات الزعيم الصهيوني القديم جابوتنسكي صاحب الحركة

التصحيحية في الثلاثينيات من القرن الماضي، والتي دعا فيها إلى إقامة كومنويلث

عبري تكون فيه إسرائيل القوة الإقليمية العظمى، والتي تدور في فلكها دويلات

عربية ضعيفة مقسمة على أسس عرقية وطائفية.

ويقول ناحوم جولدمان رئيس الوكالة اليهودية عام ١٩٥٢م: إن إسرائيل لا

يمكنها أن تقوم داخل قلعة محصنة في محيط عربي، ولا يمكنها أن تظل معتمدة

على السيف وحده، وأنه لا وجود لإسرائيل على المدى الطويل إلا إذا ارتبطت

بالمنطقة وأقامت جسوراً من التعاون مع العرب لتضمن الخروج من حالة الحصار

إلى حالة الامتداد والانتشار والاندماج في نظام إقليمي، إن إسرائيل التي تمثل الآن

ما يقرب من ١% من مساحة الوطن العربي عن طريق الحرب وسلاح المواجهة

الساخنة يمكنها أن تحتل مساحة الوطن العربي بأسره عن طريق السلام والتعاون

الاقتصادي.

وبعد حرب ١٩٦٧م أنشأ الملياردير اليهودي روتشيلد معهداً قرب جنيف أطلق

عليه اسم: (معهد السلام في الشرق الأوسط) بهدف دراسة احتمالات التطور

الاقتصادي للشرق الأوسط بعد تسوية الموقف وإنهاء حالة الحرب والبحث عن

وسائل إقامة علاقات تجارية بين دول المنطقة أي بين إسرائيل وجيرانها العرب.

وفي مؤتمر جنيف عام ١٩٧٤م أعلن أبا إيبان وزير الخارجية الإسرائيلي أن

السلام لا يعني وقف إطلاق النار، والضمان الحقيقي للسلام هو إقامة مصالح

مشتركة بين العرب وإسرائيل تتسم بالتنوع والكثافة.

ويقول شيمون بيريز: إن إسرائيل تواجه خياراً حاداً: فإما أن تكون إسرائيل

الكبرى اعتماداً على عدد الفلسطينيين الذين تحكمهم، أو أن تكون إسرائيل الكبرى

اعتماداً على حجم واتساع السوق التي تحت تصرفها.

وفي موضع آخر يقول بيريز: اليوم تتقدم الدول وتثري عن طريق

التكنولوجيا والعلوم، وليس عن طريق الغزو والسيطرة؛ فذلك يكلف الكثير ويعد

من الأمور الغبية.

مر اليسار الإسرائيلي في سبيل تحقيق ذلك الهدف بمرحلتين:

الأولى: بعد حرب الخليج الثانية وصواريخ سكود التي أطلقها العراق برهنت

أن احتلال الأراضي الفلسطينية في زمن الصواريخ لم يعد يشكل ضماناً لأمنها؛

ولذلك قبلت إسرائيل مقررات مؤتمر مدريد التي انتهت باتفاقية أوسلو والتي أثمرت

السلطة الوطنية الفلسطينية والتي كان يهدف رابين من ورائها سحب القوات

الإسرائيلية من داخل المناطق وتسليمها إلى قيادة فلسطينية لديها القدرة على أداء ما

تعجز عنه إسرائيل في ضبط انتفاضة الشعب الفلسطيني، ولجم الجماعات

الإسلامية داخل فلسطين وهو ما قامت به السلطة وأجهزتها على أكمل وجه.

والثانية: بعد إخفاق محادثات كامب ديفيد بين باراك وعرفات وكلينتون،

واقتناع فريق اليسار باراك وعلومي ورامون أن لا حل نهائياً للقضية؛ فالطريق

الوحيد لتهدئة الوضع وإيجاد أرضية للاتفاق المستقبلي هي خطة الانفصال الأحادي

الجانب، وعلى إسرائيل تنفيذ هذه الخطة بالاتفاق مع الفلسطينيين إذا كان ممكناً

وبدعم من المجتمع الدولي. أما إذا لم تتوفر الإمكانية، فلتنفذها دون الدعم

الفلسطيني والدولي وبالاعتماد على دعم الأغلبية في إسرائيل. وهناك اتجاه ضعيف

داخل اليسار يمثله الوزير السابق يوسي بيلين من حزب العمل وزعيم حزب

ميرتس يوسي سريد يرفع شعار هو: «الخروج من المناطق، والعودة إلى أنفسنا»

والإشارة هي إلى ضرورة العودة إلى إسرائيل الصغيرة والعادلة المزعومة.

التسويغات والأسس الفكرية لهذه الكتلة لا تختلف جوهرياً عن مواقف دعاة

الانفصال الأحادي الجانب، لكنها ترفض القيام بخطوة من طرف واحد، وتصر

على العودة لمسار أوسلو وفي محاولة لتمويه موقفهما أمام الجمهور الإسرائيلي الذي

يكره عرفات يمتنع بيلين وسريد عن عقد لقاءات مع عرفات، ويظهران أمام

وسائل الإعلام مع ياسر عبد ربه وسري نسيبة وحنان عشراوي، الوجوه الجميلة

في السلطة الفلسطينية على حد زعمهم.

بيلين يدرك تماماً أن هذه الشخصيات ستكون عديمة التأثير دون عرفات،

وكتب بيلين مقالاً بصحيفة ليموند ديبلوماتيك تحت عنوان: «لماذا تحتاج إسرائيل

إلى عرفات» : «إن القرار الذي ينص على أن عرفات ليس شريكاً، قد ينتهي

بكارثة ... خلال ٢٦ عاماً حاولت إسرائيل إيجاد شريك للسلام يكون قادراً على

السيطرة على الضفة الغربية وغزة. عرفات هو الطرف الذي وجدته إسرائيل،

والتخلي عنه لن يكون من مصلحتها» .

بينما يرى الجناح اليميني (بيجين وشارون ونتانياهو) أن القوة أو التلويح

بها هي الطريق الأفضل، وهي أداة الحسم باتجاه فرض النفوذ اليهودي، ولهذا كان

هذا الاتجاه ضد إعطاء الفلسطينيين الحكم الذاتي، ومن ثم فهؤلاء ضد أوسلو

والسلطة الفلسطينية.

ومن هنا كانت أهداف نتانياهو وشارون فور توليهم الأمور في إسرائيل هو

عرقلة تنفيذ أوسلو بقدر الإمكان ورسم مخططات على مدى متوسط لتفريغها من

مضمونها، ومن ثم الإجهاز عليها، ولكن في عهد نتانياهو لم تكن البيئة الداخلية

والخارجية في وضع مناسب لتمكينه من تنفيذ ذلك المخطط، وجاء شارون وأخذت

استراتيجيته في الصراع مرحلتين:

الأولى: تفريغ السلطة من مضمونها بعد أن دمر جهازها المدني والأمني،

واليوم يعمل على إدخال طرف ثالث: قوات دولية، لتحمل المسؤولية الأمنية

والإدارية عن الضفة الغربية بدل السلطة الفلسطينية التي من المحتمل أن تكون

شريكة في العملية، دون أن تكون المرجعية الأولى للحكم؛ حسب المعادلة الجديدة.

وسيكون عرفات حراً في التنقل أينما أراد، ولكن إذا أراد أن يحكم فعليه أن يستقر

في غزة التي استثنيت عمداً من العدوان، ولم يتم المس بنفوذ السلطة الفلسطينية

الأمني والسياسي فيها.

إن إدخال قوات بريطانية وأمريكية لمراقبة تنفيذ الحكم الصادر بحق خلية

الجبهة الشعبية، هو عبارة عن إدخال موطئ قدم للقوات الدولية. وهناك إشارات

أخرى إلى التحضير لإخضاع المناطق الفلسطينية للوصاية الأجنبية، واضحة في

الحضور المكثف للأمم المتحدة التي تبدي اهتمامها هذه الأيام بما حدث في مخيم

جنين، وفي وصول منظمات غير حكومية أجنبية تحت مراقبة البنك العالمي

وصندوق النقد الدولي، بهدف إعادة إعمار البنية التحتية.

وفي تصريح لولي العهد السعودي أثناء زيارته الأخيرة لأمريكا قال: «نحن

الآن نريد قوات دولية لحماية الفلسطينيين وتثبيت الأمن على غرار ما حدث في

البلقان» .

إذن! فقد اتفقت كل الأطراف: الأمريكية والاوروبية والعربية والأمم

المتحدة، مع شارون على عقد مؤتمر مدريد ٢ الذي سيبت في الموضوع، ويشكل

المرجعية الأولى لفرض الوصاية الأجنبية على الضفة الغربية.

ما ينتظر الشعبَ الفلسطينيَ بعد كل التضحيات التي قدمها، ليس الاستقلال

والعودة والقدس كما وعدته سلطته، وإنما هو أمام احتلال أجنبي سيفرض عليه

تحت غطاء الحماية الدولية، على مثال ما حدث في كوسوفو.

في الوضع الجديد سيخضع الشعب الفلسطيني إلى ثلاثة أنواع من الاحتلال:

الحياة المدنية: ستديرها السلطة الفلسطينية بنفس النهج الفاسد والقمعي الذي لا

تعرف سواه. إسرائيل: ستحافظ على قواتها في مناطق عازلة لحماية المستوطنات،

وتواصل بذلك الحصار على المناطق الفلسطينية. أما المسؤولية الأمنية:

فستتولاها قوات دولية، بعد أن عجزت السلطة ليس عن حماية الأمن الفلسطيني بل

الإسرائيلي. رؤية شارون لحل طويل الأمد بدأت شيئاً فشيئاً تتحقق وتحصل على

شرعية دولية.

أما المرحلة الثانية من استراتيجية شارون: فلم تنفذ بعد، وهي ترحيل

الفلسطينيين وإحياء سياسة الترانسفير؛ حيث كشفت (هآرتس) عن دراسة أعدها

البروفسور أرنون سوفر أستاذ الجغرافيا في جامعة حيفا، حول الفصل أحادي

الجانب بين الفلسطينيين والإسرائيليين بعنوان: (ديموغرافية إسرائيل) ، وحذر

فيها من أن إسرائيل ستزول عن الخارطة في السنة ٢٠٢٠م عندما يعيش ٤٠ في

المئة من اليهود و ٥٨% من العرب بين نهر الأردن والبحر ليدعي بأن الفصل هو

الحل، وذلك بإبقاء ٣٠ إلى ٤٠% من الضفة الغربية بيد إسرائيل مع الاحتفاظ

بغور الأردن والقدس كاملة. ولكنه دعا إلى إخلاء ٣٥ مستوطنة معزولة مثل غوش

إيمونيم وآلون موريه وغيرهما وتعويضهم عن طريق ما سماه تبادل المناطق.

وذكر الكاتب أن الفكرة تلقى تأييداً في واشنطن، ونسب إلى الكاتبين المقربين

من بنيامين نتانياهو تشارلز كراوتهامر وجورج فيل، قولهما: إن على إسرائيل

أن تضرب الفلسطينيين بقوة وتوجه ضربة عسكرية شديدة تنفذ بعدها خطة الفصل

وفق نظرية الحرب ثم السور.

أما صحيفة معاريف فقد استبعدت نقل مستوطنات مثل نتساريم وكفار دروم

إلى تكتل مستوطنات جديد، داعية لدعم الفصل؛ لأنه يضمن بقاءهم في الضفة

الغربية.

ورأى كاتب آخر أن (الفصل من طرف واحد يحظى باتفاق اليمين واليسار؛

لأنه البديل الوحيد الأقل شراً بين الشرور الكبرى) .

وتحدثت يديعوت أحرونوت عن مخطط يقوم على أساس عملية عسكرية

شاملة تحوِّل المناطق الفلسطينية إلى جزر محاصرة بقوات إسرائيلية، وتصفية

البنى التحتية السلطوية للفلسطينيين، ثم التخطيط لحرب حاسمة في المستقبل تنتهي

بالترحيل، ويحذر الكاتب مائير من تنفيذ هذه الخطة، ويدعو إلى الكشف عنها قبل

فوات الأوان.

* الخاتمة:

إن الموقف الدولي ليس ثابتاً والتاريخ يشهد بذلك؛ وإذا كان ميزان القوى الآن

ليس في صالح المسلمين فإن ميزان القوى لن يظل جامداً على حاله؛ فعلم السياسة

يشهد بذلك، وسنن الله في أرضه تقول بتلك الحقائق، وعقيدتنا تقول إن اليوم الذي

سينطق فيه الحجر والشجر لآت ولكن وفق شروط وخصائص، وإشكالية كبرى

تواجه مسلمي اليوم وهي تحقيق العبودية لله في الأرض.