للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

عذراً حبيب الله.. فسوف يعلمون

التحرير

بسم الله والحمد لله، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

فإن عظمة النبي محمد -صلى الله عليه وسلم-، ومنزلته الجليلة، لا يستطيع الجُهَّال والضُلاَّل أن يفقهوها، ولا يقدر الأغمار من الكفار أن يعوها ويفهموها؛ كيف وهم الذين لم يعرفوا لرب الكون الذي أرسل محمداً قَدْراً، ولم يعظموه ـ سبحانه ـ أو يوحدوه وهو الذي خلقهم ورزقهم، وملك ضرهم ونفعهم، وبيده حياتهم ومماتهم.

إن عظمة النبي الأكرم، محمداً -صلى الله عليه وسلم-، التي تَطاوَل عليها سفهاء الروم ـ ولا يزالون ـ لا تزيد المؤمنين به، إلا محبة له، وتوقيراً لمقامه ورغبة في الاجتهاد في تعزيره وتوقيره واتباعه والدفاع عنه.

كيف وإيمانهم لا يصح إلا بالشهادة له بالرسالة، بعد الشهادة لله بالوحدانية، وأبواب الجنة مغلقة دونهم إلا أن يأتوا من طريق رسالته، وسبل هدايته وسنته.

ألم يعلم أولئك السفهاء من الناس في أوروبا، أن محمداً -صلى الله عليه وسلم- هو الذي انتهى إليه وحده، عبء القيام بأكبر مسؤولية في التاريخ، ألقيت على عاتق بشر، فكان قَدْره وقَدَره أن يتحملها على كاهله فريداً، بمقتضى الأمانة التي حُمِّلها فتحملها، للقيام بتنفيذ المهام الجسام، التي تتطلب تقويم ما اعوج في حياة البشرية بعد أن آل أمرها إلى فساد عام شمل كل أرض، وعم كل جنس، وتسرب إلى كل ملة.

لقد قال الله له: {إنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً} [المزمل: ٥] .

فما كان منه ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ إلا أن سارع لرفع الحمل، ردءاً للصلاح، ودرءاً للفساد.

إن المهامَّ التي طُلِبت منه ـ بآبائنا هو وأمهاتنا ـ لتصحيح أوضاع البشرية، كانت بالغة في ضخامتها وجسامتها؛ بحيث لا يستطيع أحد من البشر ـ إلا محمد بن عبد الله -صلى الله عليه وسلم- أن يتصدى لها؛ فبماذا كُلِّف، وماذا أنجز، ومِمَّ بدأ، وإلى أين انتهى لتغيير دفة التاريخ الإنساني، كي يعود به إلى مساره الصحيح؟

إن الجواب على ذلك ـ ولو باختصار ـ قمين بأن يكشف اللثام عمن هو صانع أكبر معجزة واقعية في التاريخ ـ بإذن من الله ـ وبيان ذلك على ما يلي:

أولاً: كان على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أن يبلِّغ كلمة الله الأخيرة للبشر كافة في جميع الأرض؛ فرسالته لم تكن محلية ولا إقليمية ولا قومية كسائر الرسالات التي بُعث بها الأنبياء قبله. قال ـ تعالى ـ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إلاَّ كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} [سبأ: ٢٨] .

فرسالته التي كُلِّف بإبلاغها ـ وهي إعادة البشرية إلى التوحيد ـ كانت تستهدف الإنسان، دون قيد الزمان أو المكان، ولم يكن مطلوباً منه البلاغ فقط، حتى يضم إليه البيان: {وَأَنزَلْنَا إلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ} [النحل: ٤٤] ، ولم يكن مكلفاً بالبيان النظري، دون أن يضم إليه البيان العملي اعتقاداً وعبادة وسلوكاً، على أتم ما ينبغي في أداء العبودية التامة التي تجعل منه الأسوة المحتذاة والقدوة المتبعة في كل ما يتعلق بأمور المعاش والمعاد: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} . [الأحزاب: ٢١]

ثانياً: كان على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو يقدم للبشرية كلها، هذا المنهاج الكامل الصافي، أن يواجه من أجناسها وأصنافها، ألواناً من الانحرافات العقائدية والتعبدية المتراكمة، خلال أزمنة الفترة التي خلا فيها الزمان من الرسل؛ فالشرك كان يضرب بأطنابه في أرجاء المسكونة، والخرافة كانت تنشر ألويتها حتى في مهابط الرسالات؛ فإضافة إلى مهمة إبلاغ المنهاج الكامل بالبيان النظري والعملي، كان عليه -صلى الله عليه وسلم- أن يعالج كل تلك الانحرافات العالمية، بالحجة واللسان، وبالسيف والسنان، سِلْماً مع المسلمين، وحرباً ضد المعاندين الصادين: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: ٦٧] .

ثالثاً: كان فساد العقيدة والعبادة، عند البشر عامة، والعرب خاصة، يستتبع فساداً في السلوك والأخلاق، وكان على النبي -صلى الله عليه وسلم- وهو ينتدب لمهمة المواجهة العلمية والعملية لفساد العقيدة والعبادة، أن ينتدب أيضاً لمواجهة موجات الفساد الأخلاقي التي أصابت القيم الإنسانية بالتفسخ والتحلل، بسبب تراكم الضلالات والأمراض، فأضيف إلى مهام رسالته الكبرى، مهمة أخرى عظمى وهي: تقويم الأخلاق، وإصلاح القِيَم، وقد أشار -صلى الله عليه وسلم- إلى مقام الأخلاق ومقدارها في رسالته، بقوله ـ عليه الصلاة والسلام ـ: «إنما بُعثت لأتمم صالح الأخلاق» (١) .

رابعاً: لم يكن من المتوقع أن تقبل المجتمعات الآسِنة، أن تكون هادئة ساكنة وهي تخضع لهذه العملية العلاجية الكبرى، بما يصاحبها من لأواء الألم ومرارات التضحية بكل موروث ومألوف ومقدس لديها، فكان لا بد أن تتمنع أو تتمرد أو تنتفض أطراف منها بين الفينة والفينة، حتى تكاد تفتكك بمعالجها، وتقتل من يبذل نفسه لحياتها ونجاتها.

وما كان على المعالج الشفيق، والطبيب الحاذق، والنبي البر الرحيم، إلا أن يتحمل جهلها وجاهليتها، ويصبر ويصابر على أذاها وفتنتها، مع أن ما هو مقبل عليه، ليس علاج داء واحد لصنف واحد من البشر، ولكنه جملة من الأدواء المهاجرة والمستوطنة، يقف وراء أكثرها منتفعون من بقائها، ومتضررون من زوالها، ولهذا كان مطلوباً منه -صلى الله عليه وسلم- وهو يُقْبِل على علاج أدواء تلك الأمم، أن يستجمع في شخصه ما تفرق في شخصيات إخوانه من الأنبياء والرسل من الخلال والصفات التي واجهوا بها سائر الأمم؛ لأنه -صلى الله عليه وسلم- أُرسِل لسائر هذه الأمم، خاتماً لسائر هؤلاء الأنبياء والرسل، وقد قال الله له: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} [الأحقاف: ٣٥] ، وقد صبر ولم يستعجل، وجمع بين وجوه العظمة في كل رسول ونبي قبله، فكان فيه ثبات نوح، وحلم إبراهيم، وأمانة يوسف، وقوة موسى، وصبر أيوب، وجسارة هود، وجرأة داود، وحكمة سليمان، وذكاء زكريا، وصفاء يحيى، ووَداعة عيسى ـ عليه وعليهم جميعاً صلوات الله وسلامه ـ.

خامساً: لم تكن الأجواء المحلية المحيطة برسولنا -صلى الله عليه وسلم- مهيأة لإعانته على مهمته؛ فلم يكن العرب مستعدين لتلقي العلاج، ولم يكن لديهم تَوْق إلى التغيير أو شوق إلى التجديد؛ ففي هذه الدائرة الضيقة التي كان يفترض أن تبدأ منها عملية التغيير في مكة، لم يكن العرب مرحبين أو راغبين في زعامة جديدة ذات منهج جديد كي يلتفوا حولها، ويَدَعوا مما أَلِفُوا ما كان عليه الآباء والأجداد، ويفارقوا ما نشؤوا عليه وعاشوا فيه من فَوْضى الجاهلية وتفويضها لهم في كل ما يشتهون؛ فكان عليه -صلى الله عليه وسلم- أن يبدأ بهم أولاً، مغالباً صلابتهم، ومجالداً حميتهم، وصابراً على أذاهم حتى يتغير منهم قوم يصلُحون لتغيير غيرهم، لتتكون له صحبة من الحواريين المهيَّئين لحمل مهمة التغيير في سائر العالمين؛ ولهذا قال الله لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: {فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ} [الحجر: ٩٤] ، وقال: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ * وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ} [الشعراء: ٢١٤ - ٢١٥] .

سادساً: كان النبي -صلى الله عليه وسلم- مطالَباً، في أثناء وبعد عملية التغيير والبناء، أن يكون أداؤه متوازناً، وميزانه مُرْهَفاً، حتى لا تتولد عن عملية التغيير العالمي الحادِّ آثار جانبية سلبية، كأن تبرز ـ بعد إنجاز البناء ـ طبقة تعلو على طبقة، أو جنس يتعالى على جنس، أو عنصر يتميز بالسمو، أو آخر يستأثر بالسلطان، كما كان شائعاً في سائر عمليات التغيير عبر التاريخ، وكان محذوراً كذلك ـ أثناء وبعد هدم الأوضاع القديمة ـ أن تنشأ أحقاد، أو تولد ثارات، بسبب تطاير بعض الشرر الذي يصيب أهدافاً غير مقصودة، فيُظلَم بريء بلا جريرة، أو يُستَهدَف صنف بلا ذنب، أو تؤذى طبقة بغير موجب، وهي أمور يكاد يكون تلافيها مستحيلاً في عمليات التغيير الكبرى، ولهذا كان الرسول -صلى الله عليه وسلم- مطالَباً، بإرساء مبادئ عدالة عامة نزيهة متجردة دون أي نظر في التفضيل أو التقريب إلا بالميزان الذي يزن بكلمات الله: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إنِّي رَسُولُ اللَّهِ إلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لا إلَهَ إلاَّ هُو يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: ١٥٨] .

سابعاً: لم تكن عملية التغيير تستهدف التغيير بحد ذاته، بمعنى هدم وتحقير كل قديم، وتمجيد كل جديد، بل كانت عملية التغيير تستهدف إزالة الفاسد، وإبقاء الصالح من موروثات الأمم، وفق ميزان الوحي، وقد كانت بعض الأمم المستهدفة بالتغيير، من أتباع أنبياء سابقين، وكانت لبعضهم موروثات حضارية مختلطة، وكان إلغاء بعض ما نقل عن الأنبياء من شرائع، مع الإبقاء على تقديرهم في نفوس أتباعهم، وكذا نقض عُرى بعض القيم الزائفة التي قامت عليها بعض الحضارات، مع عدم المساس بقيمة الإنسان في تلك الحضارات؛ كان ذلك عملاً يتطلب درجة عالية من التجرد والموضوعية، التي تُقنع أتباع النبوات السابقة، وأصحاب الحضارات الذاهبة، بأن الداعية الجديد لا يريد بناء مجد شخصي لذاته، ولا علواً عنصرياً لأمته، ولا تطبيقاً إجبارياً لنظرياته، وقد قام -صلى الله عليه وسلم- بهذه المهمة خير قيام، حتى خرجت أمم وشعوب كثيرة من دينها لدينه، وتنازلت عن شريعتها لشريعته، وتركت لغتها للغته غير نادمة ولا حانقة ولا ثائرة.

ثامناً: لم تكن عملية التغيير الكبرى التي كُلف بها نبينا -صلى الله عليه وسلم-، تستهدف إصلاح دين الناس دون دنياهم، أو سلوكهم الأخلاقي دون رقيهم الحضاري، ولم تكن أيضاً تركِّز على ترقيق القلوب في العبادة، دون الوصول إلى مراتب الريادة والقياة والسيادة في شؤون الحياة، بل كان كل ذلك مطلوباً، ليخرج الناس بهذا الدين من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، وقد كانت أمة العرب، أحوج الأمم إلى البدء بها في النهوض الديني والدنيوي، وهذا ما كان لها على يد النبي القائد -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ لم يلبث فيها بعد الرسالة إلا بضعةً وعشرين عاماً، حتى نقلها من دركات الجهالة والضلالة إلى أعلى درجات العلم والرقي، وحركها من سكك ودروب الضعف والهوان والتبعية والتعلق بأذيال الفُرس أو الروم، لتحلِّق في آفاق السمو والعلو والتمكين، حتى إنه لم تكن تنقضي حقبة زمنية أخرى موازية بعد زمن الرسالة، إلاَّ ولهذه الأمة بالإسلام عزة في الخافِقَيْن، وراية ترفرف في المشرقين: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ}

[آل عمران: ١٦٤] .

تاسعاً: كان مطلوباً من النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو يقوم بمهام التشريع المتشعبة، وأدوار التنفيذ والتطبيق الشاقة، أن يتواءم سلوكه، وتتلاءم أخلاقه مع كل ما يقوله ويرشد إليه، وكل ما يسنه ويعمل به؛ فهناك قلوب وعقول وأعين وآذان تتطلع وتراقب وتتحسس وتقيس وتقارن، لتستلهم الأسوة وتقتفي الأثر، وتتبع الخُطى للاقتداء والاحتذاء في كل شيء كان يهدي فيه رسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ولما كان هديه -صلى الله عليه وسلم- شاملاً لكل شيء؛ فقد كان لا بد أن يكون هديه ـ وقد كان ـ أحسن الهَدْي. فمن الناحية العملية كان المراد منه -صلى الله عليه وسلم- أن يكون الأب الأسوة، والزوج الأسوة، والقريب الأسوة، والمحارب الأسوة، والصديق الأسوة، والعابد الأسوة، والتاجر الأسوة، والداعية الأسوة، والقائد الأسوة، وقد كان كل هذا شأنه ـ حقاً وصدقاً ـ صلوات الله وسلامه عليه.

عاشراً: لقد كان مطلوباً منه ـ عليه الصلاة والسلام ـ وهو يواجه تلكم المهام الكبار، ألا يواجهها وهو قائم مقام خطيب، أو جالس مجلس مفكر، أو قاعد مقعد حكيم، أو مستلقٍ استلقاء فيلسوف، وإنما كان مطلوباً منه ـ عليه الصلاة والسلام ـ أن يواجه الواقع العملي المحيط به، بتحرك عملي وواقعي، فردي وجماعي، ممثلاً في كيان قوي، ومجتمع مشيد، ودولة قائمة، وقد أقامها -صلى الله عليه وسلم- كأحسن ما تقام الدول، حتى استمر امتدادها لأكثر من ألف وثلاثمائة عام، وهي مؤهلة للعودة والاستمرار، كمعجزة باقية لإنسان واحد، هي في الحقيقة من أعظم معجزاته التي غفل عنها الغافلون.

- ومعجزة أخرى متجددة:

ألا وهي: أن هذه الأرض، بأركانها الأربعة، وقاراتها الخمس، وملياراتها الستة، وفي دورات أيامها السبعة، لَتشْهَدُ بأن اسم النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- يتردد على مدار ساعات اليوم، بل دقائق الساعة، بل ثواني الدقيقة، بل أجزاء أجزاء الدقيقة ... يتردد اسم محمد -صلى الله عليه وسلم- كل لحظة تحت كل سماء؛ فما من نَسَمَةٍ مسلمة في أرجاء العالم المملوء بالمسلمين، إلا وهي تنطق اسم النبي -صلى الله عليه وسلم-، مقروناً باسم الله الأعلى، في كل صلاة مفروضة أو مسنونة، وترددها في كل أذان أو إقامة، وفي الثناء والدعاء، والذكر والشكر ... فتبقى الأرض كلها تلهج باسم النبي -صلى الله عليه وسلم-، من كل أصحاب اللغات واللهجات، ومن كل ذوي الجنسيات والعرقيات، ومن كل الأعمار في كل الأقطار، مقروناً باسم الله، ليصدق قول الله: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} [الشرح: ١ - ٤]

ولم نرد التوسع في ذكر معجزاته وأوجه عظمته الأخرى، واعظمها القرآن؛ لأن القوم لا يؤمنون إلا بما يحسون ويقيسون؛ فما ذكرناه معجزات وعلامات تميز وعظم، لو كانوا يعقلون.

- ثم مع كل هذا الإعجاز الملموس المحسوس يكابرون:

ومع كل هذه العظمة لتلكم الشخصية يتكبرون فلا يعتذرون عن الإساءة، بل يصرون ويتمادون ويتواصون؛ فعندما نُشِرت الرسوم المسيئة الفاجرة، للمرة الأولى في شهر سبتمبر من عام ٢٠٠٥م وقدم مسلمو الدانمارك احتجاجاً للحكومة؛ رُفض احتجاجهم، وعندما تقدموا لرفع قضية لمساءلة المسيئين؛ رفض المدعي العام رفع القضية، وعندما طلب أحد عشر سفيراً عربياً مقابلة رئيس الوزراء لتقديم الشكوى؛ رفض مقابلتهم، وعندما طالب العديد من المسؤولين الكبار من رؤساء وأمراء وسفراء وساسة بتقديم الاعتذار تجنباً للحرج أمام الشعوب الغاضبة؛ لم يُستجَب لأي منهم، بل أُعيد نشر الرسوم في أكثر من بلد أوروبي على وجه التعدي والتحدي والاستفزاز، حتى إن الجريدة الدانماركية سيئة الذكر، اختارت يوم عيد الأضحى لتعيد فيه نشر الرسوم، بينما اختارت جريدة فرنسية أخرى أول أيام العام الهجري، لتكرر نشرها!!

ومن يومها والمعاندون يتمادون، لا في الدانمارك فحسب، بل في كل دول الاتحاد الأوروبي الخمس والعشرين، وعلى لسان مسؤولي هذا الاتحاد الذين أيدوا الموقف الدانماركي ورفضوا الموقف الإسلامي، بل حذروا من استمرار المقاطعة للدانمارك؛ لأنها في نظرهم تعد مقاطعة للاتحاد الأوروبي كله، بل تحايلوا على هذه المقاطعة، بوضع اسم الاتحاد الأوروبي على البضائع الدانماركية!

كان آخر المواقف المعاندة للمواقف الرسمية الإسلامية ما حدث مع وفد البرلمان الباكستاني الذي زار مقر الاتحاد الأوروبي في بروكسل في الفترة من ٥ إلى ٨ مارس ٢٠٠٦م، بتكليف من رئيس الوزراء (شوكت عزيز) ، للعمل على حلّ الأزمة مع أوروبا، إلا أن الوفد عاد خالي الوِفاض، دون اعتذار أو وعد بالاعتذار.

أما على المستوى الشعبي؛ فقد تحمس بعض الدعاة للذهاب إل (كوبنهاجن) عاصمة الدانمارك لعمل مؤتمر (للحوار الديني والحضاري) يعرضون فيه ـ باجتهاد منهم ـ على عدد من المثقفين ورجال الدين في الدانمارك، وجهة نظر العالم الإسلامي في غضبته من أجل نبيه -صلى الله عليه وسلم-، راجين متلطفين ملتمسين منهم أن يحترموا دين المسلمين، ويحثوا حكومتهم على ذلك، ولكنهم رفضوا مطالب وفد الدعاة الذين أُسقط في أيديهم؛ لأن الكثيرين من المسلمين نصحوهم وحذروهم من النتائج المحرجة لهذا المؤتمر، وقد حدث ما توقعه المحذرون؛ حيث رفض (المضيفون) المطالب المقدمة باسم المسلمين، وانتهى المؤتمر دون إصدار نتائج، أو بيان ختامي! وهو ما اعتبر فشلاً ذريعاً لفكرة الحوار مع (الآخَر) ؛ لأن هذا الآخَر، هو آخِر من يهتم بالحوار ـ في مثل هذه الأمور ـ إلا بمنطق الحديد والنار!

لقد بكى بعض المنظمين للمؤتمر من المسلمين أمام الدانماركيين، من هول المفاجأة من هذا السلوك المعاند الذي كان لا يتوقعه على أرض أوروبا (المستنيرة) وقال: «جئنا مع إخواننا بيد ممدودة لكننا لم نجد يداً تمد إلينا» !!

ولا ندري ماذا سيكون رد هؤلاء أيضاً على مؤتمر نصرة النبي -صلى الله عليه وسلم- المنعقد في البحرين مؤخراً، والذي احتشد فيه العشرات من العلماء والدعاة والمفكرين من أنحاء العالم الإسلامي ... فهل سيواصل الأوروبيون التحدي ... ؟!

إنهم إن أصرّوا على عدم الاعتذار، فيجب أن نقول لهم:

- لا تعتذروا!

ـ نعم!.. لا تعتذروا! فنحن نعلم أنكم لن تعتذروا، ولعل عدم اعتذاركم ينبه بقية الغافلين المخدوعين عن دفائنكم وخباياكم التي جلاّها نبينا وبيّنها كتاب ربنا.

ـ لا تعتذروا! فاعتذاركم ـ إن حصل ـ سيكون سياسياً أو دبلوماسياً أو حتى اقتصادياً، بسبب خسارتكم للمكاسب الدنيوية التي هي عندكم أقدس المقدسات.

ـ لا تعتذروا! فنبينا أغنى وأغلى وأعلى من أن نتكفف رد اعتباره منكم؛ فاعتباره مرفوع في السماء، قبل أن يُرفَع على الأرض، ومحفوظاً عند الخالق قبل المخلوقين.

ـ لا تعتذروا! فلعل عدم اعتذاركم، يعجل بانتقام الله منكم، وهو وحده القادر على أن يكفيه شر حقدكم، ويحوله إلى فتحٍ لدعوته واستجلاءٍ لشخصيته، ورفعةٍ لأتباع هديه وسننه.

{فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ * الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: ٩٤ - ٩٧] ... نعم! {فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} .