الافتتاحية
علم النفس والسياسة
وفن الخداع
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه،
وبعد:
فمن العلامات المميزة في التخطيط عند الغربيين: دخول دراسات علم النفس
في جميع المجالات العملية التي تمس حياة الكائن البشري؛ فهناك علم النفس العام
بجانب علم النفس التربوي، وعلم نفس النمو، وعلم النفس الصناعي، وعلم
النفس الاجتماعي، وعلم النفس الديني ... إلخ، وكلها دراسات تنصبُّ على معرفة
الميول والانفعالات والاتجاهات والحاجات ... لدى الأفراد والجماعات، مما يمهد
الطريق لمعالجة (الانحرافات) الموجودة، أو توليد توجهات جديدة، أو التأثير
على المشاعر للوصول للهدف المنشود؛ أياً كان هذا الهدف.
ولا شك أن هذه الدراسات يمكن الاستفادة منها إسلامياً في الدعوة والتغيير،
ولكن أيضاً يجب التنبه إليها وإلى آثارها عند تطبيقها علينا بصورة غير معلنة ولا
ظاهرة؛ بحيث تبدو الأحداث وكأنها بريئة أو (ساذجة) ليتم بلع الطعم المراد
بصورة عفوية.. والحقيقة أن الأمور تجري تحت الدراسة والسيطرة!
ولأن التأثير على المجتمعات لا يتم بالتعامل مع كل فرد على حدة؛ فإن
الإعلام بأجهزته المختلفة يلعب دوراً كبيراً في توجيه هذه المجتمعات (بالجملة)
من خلال إلقاء معلومات معينة، أو إبراز بعضها وإخفاء آخر، أو بطريقة عرض
المعلومة ... ليتقمص هذا الإعلام بمن يملكونه ويحركونه دور الطبيب والمعالج
النفسي.
ونستطيع ضرب أكثر من مثل لإيضاح هذا الدور في التأثير (الخفي) على
المستهدفين.
فبعد انتشار صور المذابح الوحشية التي ارتكبها الصرب بحق المسلمين في
البوسنة والهرسك مما أثار مشاعر المسلمين في أنحاء العالم وأنذر بإيقاظ روح
الأخوة الإسلامية وإلهاب مشاعر الغيرة والحماس خَفَتَ الحديث عن هذه المذابح
وصَغُر حجم النشر عن هذه الحرب؛ مما يومئ بتراجع أهميتها في الأحداث، ومن
ثَمَّ في حس القارئ أو المشاهد (المسلم طبعاً) ، وصاحَبَ ذلك نَشْرُ بعض الصور
التي يظهر فيها بعض (البوسنويين) وهم يشترون حاجياتهم أو يعبرون الطرقات
بمرافقة أحد جنود القوات الدولية، مما يومئ بأن هؤلاء البوسنويين (تكيفوا) مع
هذه الأوضاع ولا تنس أن منهم من كان يمارس الرقص واللهو في أقبية المخابئ
مما يعني أن لا داعي للقلق عليهم، ويومئ أيضاً بأن قوات الأمم المتحدة تقوم
بواجبها في حماية هؤلاء الضعفاء المساكين؛ فليطمئن المسلمون أصحاب العاطفة
الدينية الجياشة في العالم ولينسوا هذه القضية التي تشعل هذه العاطفة، بينما كانت
الحقيقة أن المذابح متواصلة، وأن مسلمي البوسنة ينهشهم الصرب والكروات الذين
تسلحوا في الحرب بأكثر مما تسلحوا قبلها من كل جانب، والحقيقة أيضاً أن قوات
الأمم المتحدة (والناتو) ما تدخلت تدخلاً جدياً (بصورة مظهرية) إلا عندما كان
المسلمون على وشك إحراز انتصار حاسم في كل مرة.
مثال آخر: ما شاهدناه ونشاهده منذ فترة من فصول مسرحية مملة عنوانها:
(عملية السلام في الشرق الأوسط) ، ويمكننا أن نشير إلى بعض الإلماحات التي
توضح المقصود، ويستطيع القارئ إكمال الصورة من خلال تفحصه هو لما يبث
كل يوم وكل ساعة.
فمن ذلك: الإلحاح على إظهار أن المفاوضات (ومن ثم: الصراع!) قائم
على مسائل ومطامع جزئية (وثانوية) ، فالمفاوضات الشاقة تدور حول قضية
لاجئين، أو اقتسام المياه، أو السماح بممر آمن، أو افتتاح مطار، أو إقامة
مجموعة مبانٍ، أو السيادة على شارع، أو إغلاق نفق، أو حرية الوصول إلى
مسجد (ولو كان المسجد الأقصى أو مسجد الخليل) ،.. ومع الوقت يصدِّق رجل
الشارع (العربي) أن هذه النزاعات هي بالفعل جوهر الصراع؛ لأنها دائماً مسائل
المفاوضات، وينسى كما هي عادته التي يعرفها الغربيون أن أساس الصراع هو
بين فكرتين وحضارتين إسلامية وغربية صهيوينة، وينسى أن هناك وطناً كاملاً
اغتصب من أمة قطعت أوصالها.
ومن ذلك: إظهار علاقات المفاوضين من الطرفين (لاحظ أنه تم تمرير أن
المفاوضين عن العرب ممثلون حقيقيون لأمتهم وباسم شعوبهم) تارة بمظهر الود
والوئام والصداقة والاحترام (وهي بالفعل كذلك) حتى إنهم ليبيتون سوياً ويأكلون
سوياً ويتنزهون سويا ويلعبون سوياً! .. ويحترمون عطلة السبت سوياً، وفي ذلك
إعطاء القدوة لرجل الشارع (العربي) بكسر حاجز البغض والعداوة بهدف ترسيخ
أن اليهود ليسوا أعداءاً بل بشر كغيرهم، فيهم اللطيف الظريف كبيريز وباراك،
كما فيهم الفج العنيف كشارون ونتنياهو، فلِمَ لا نقبلهم ولا نثق بهم؟ ! وبالطبع تبلع
الشعوب (العاطفية) المتقلبة الطعم.
وتارة أخرى يظهر المفاوض العربي بمظهر المفاوض الصعب والمتعنت حتى
إنه لينسحب من المفاوضات، أو على الأقل يحزم حقائبه ويهدد، وهي رسالة
واضحة (بالطبع لرجل الشارع العربي) بأن اطمئن؛ فالقضية في أيد أمينة، لا
تتنازل ولا تتهاون، وإنما هي واقعية! ترضى بما هو متاح ومستطاع ممن بيدهم
٩٩% من أوراق (اللعبة) ! .
ويتعلق بذلك: إظهار تعنُّت المفاوض (الإسرائيلي) وتعاطف الراعي
الأمريكي معه، وإظهار صعوبة المفاوضات حتى إنها لتؤجل وتلغى وتتحول من
مكان لآخر، ومن راعٍ إلى آخر، وتخفق أكثر من مرة مما يستلزم رحلات مكوكية
واستدعاء أطراف أخرى للضغط على المفاوضين، وطرح مبادرات جديدة، ولأن
رجل الشارع (العربي) اعتاد أن (لا يوجد حلاوة من غير نار) فإنه طبقاً لنظرية
الاشتراط الجزائي يتوقع أن كل نار يتبعها حلاوة! وعلى ذلك فإنه يتهيأ نفسياً لقبول
أي (اتفاق) يخرج؛ لأن أي (مكتسبات) تعطى فإنما هي إنجازات انتزعت بشق
الأنفس من بين مخالب الأسد! ويصبح أصحاب هذا الاتفاق أبطالاً يستحقون الشكر
والثناء ثم الإشادة والإطراء.
إننا قد لا نستطيع حصر هذه النماذج في مثل هذا المقام؛ فهي تحتاج لدراسة
أعمق وأشمل، ولكننا نؤكد على أننا مستهدَفون منذ زمن، ولذلك وُضِعنا تحت
مجهر الدراسات النفسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية، تقوم بذلك مؤسسات
عريقة ومراكز أبحاث ذات إمكانات عالية، لم يكن ذلك بالأمس القريب، بل منذ
أن أخفق الغرب في حروبه الصليبية، فأرسل جنوده من الرحَّالة والرهبان والتجار
والسفراء والمستشرقين.. يسجلون ويحصون ويكتبون ويرسمون، حتى باتت
أعراقنا وخصائصنا وثقافتنا وتاريخنا وتقاليدنا ومجتمعاتنا وإمكاناتنا جميعها تحت
المجهر، فأخذوا يدرسون ويخططون، ثم ينفذون ويُجهزون!
[إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً * فَمَهِّلِ الكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً]
(الطارق: ١٥-١٧) .