[الجرأة على الثوابت الشرعية]
إعداد: خباب بن مروان الحمد
تنامت في هذه الأزمان المتأخرة ظاهرة الجرأة على الثوابت الشرعية، وأحكام الإسلام، والصدّ عن تعليمه، والانتهاك لحرماته، وخصوصاً من بعض متخذي القرار، ومتولي منابر الإعلام، بل جعلها بعضهم محل استفتاء بين الناس! وبما أنَّ هذه الظاهرة خطيرة للغاية، فقد كتب لنا فضيلة الشيخ الدكتور: عمر الأشقر، وكذلك فضيلة الشيخ: عبد الرحمن عبد الخالق ـ حفظهما الله تعالى ـ ليتحدَّثا لنا عن هذا المسلك المنحرف، بعبارات وجيزة.
قال الشيخ عمر الأشقر:
هذه الظاهرة ـ وللأسف ـ انتشرت، ولا أدلَّ على ذلك من أن بعض الحكَّام الذين تسنَّموا ظهور المسلمين في بعض الدول التي تنتسب إلى الإسلام؛ منعوا الصومَ في رمضان، بحجَّة أنَّ الصوم يعطِّل الإنتاج ويضعفه.
وأجرت بعض الصحف استفتاء حول القبول بتطبيق الشريعة، واستفتاء لرأي الناس ومعرفة مدى قبولهم بأن تقيم بناتهم وأخواتهم علاقات محرَّمة مع الآخرين، والذين قاموا بهذه الأفعال وأمثالها، هم الذين عناهم الرسول -صلى الله عليه وسلم - بقوله: «دعاة على أبواب جهنَّم من أجابهم إليها قذفوه فيها» فلمَّا سئل عن أوصافهم قال: «هم قوم من جلدتنا ويتكلَّمون بألسنتنا» .
فالذي يحارب هذا الدَِّين، ويسعى إلى إقصائه عن مجتمع المسلمين، ويحارب الدعاة إلى الله، فإنَّه يحادُّ الله ورسوله والذين آمنوا، ويسعى في الأرض فساداً؛ والله لا يحب المفسدين.
وهم وإن مدَّ الله لهم في الأجل، فإنَّه يأخذهم أخذ عزيزٍ مقتدر، وحدَّثنا الله في كتابه كيف قصم الظالمين، ورأينا مصداق ذلك في بعض طغاة عصرنا، ولكنَّ الظالمين لا يعتبرون.
وأوَّل ما يجب أن نفعله مع هؤلاء النصح لهم، وأن نبيِّن أنَّ الدين الذي يريدون هدمه هو سبب عزَّتهم ومجدهم؛ فقد عزَّ الجيل الأوَّل بالإسلام، وبلغوا به عنان السَّماء، وفي ذلك يقول ربُّ العزَّة: {لَقَدْ أَنزَلْنَا إلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ} [الأنبياء: ١٠] أي فيه عزَّتكم وشرفكم ورفعتكم.
ونقول لهؤلاء ثانياً: إنَّكم لن تضروا اللَّه شيئاً؛ فمنار هذا الدين سيبقى عالياً، وسينصره الله ويؤيده، ويعزُّ الله به هذه الأمَّة مصداقاً لقوله ـ تعالى ـ: {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ} [الصف: ٨] . لقد أجلب الكفَّار في عصر التنزيل على الإسلام والمسلمين بخيلهم ورجلهم {وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ} [إبراهيم: ٤٦] فكان حالهم كالذي يريد إطفاء نور الشمس في عليائها بما ينفخه من فمه باتجاهها؛ فماذا يمكن أن يفعل نفخه الضعيف الهزيل مع ذلك النور الساطع ذي القوة البالغة.
ثالثاً: نقول لأعداء الإسلام ومن تولاَّهم في ديارنا: مهلاً مهلاً؛ فهذه جولة، وهناك جولات للإسلام مع أعدائه؛ فالإسلام هو قوَّة الغد الآتية، وإنَّكم لن تستطيعوا أن تنالوا من قرآننا ولا سنَّة نبينا؛ فديننا محفوظ، وستبقى طائفة من هذه الأمَّة ظاهرة منصورة إلى قيام السَّاعة، تحمي حمى الإسلام، وترفع رايته، وتمثِّله في قلوبها وأعمالها وأسرها ومجتمعاتها، ولا تهن ولا تحزن، مصداقاً لقوله ـ تعالى ـ: {وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ} [آل عمران: ١٣٩] .
إنَّ هذه حقائق تتكلم تدعمها نصوص تتلى، وتصدِّقها وقائع تشهد، ولا يزال الله يظهر في عالم البشر ما يدلُّ على صدق ذلك، ويذيق الضَّالين هنا وهناك من بأسه، والسنن سيف حاسم لا بدَّ أن يحدث آثاره حين يبلغ مداه.
وختاماً: فإنَّ على المسلمين وخاصَّة علماءهم ومفكِّريهم أن يقبلوا التحدي، وأن يبصِّروا حكَّامهم، وينصحوهم، ويبينوا لهم ما هم عليهم من أخطاء. ينبغي عليهم أن يعلموا الأجيال دينهم؛ فالتعليم يمكن أن يقام على قارعة الطريق، وفي المضارب والخيام، كما يمكن أن يصل إلى الناس في منازلهم عبر الإذاعة والتلفاز والإنترنت.
ومهمَّة أصحاب الأموال أن يقيموا المزيد من المحطَّات ذات الصبغة الإسلامية الأصيلة، والتوجُّهات الرصينة.
وأمَّا ما يذكر في بعض وسائل الإعلام من استفتاء القراء بذكر آرائهم في مدى الالتزام بما حكم الله به حكماً قاطعاً في جانب المأمورات والمنهيات ففيه خطل من القول؛ والواجب على من علم حكم الله أن يلتزم به، ويطالب غيره بالالتزام به {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} [الأحزاب: ٣٦] و {إنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إذَا دُعُوا إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [النور: ٥١] .
أمَّا الأمور الخلافية فيكون الاستفتاء فيها من قِبَلِ العلماء، ومع ذلك فإنَّنا لا نخشى من نتائج هذه الاستفتاءات التي تُوَجَّه للمسلمين؛ فقد أجرت صحيفة سيَّارة في مصر استفتاءً للتعرف على مدى رغبة أهل ذلك البلد المسلم في تطبيق الشريعة، فكانت النتيجة أنَّ ٨٦%من المستفتين يتمنَّون ذلك ويطلبونه، ويدخل في الرافضين النصارى والعلمانيون والمستغربون.
إنني أدعو القائمين على القنوات الفضائية إلى الابتعاد عن جعل أحكام الله كأحكام البشر عرضة للأخذ والرد، وقد لا يتنبه الذين يفعلون ذلك إلى هذا الخطأ الجسيم.
وقال الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق:
إنَّ الجرأة على الدين، وانتهاك مقدَّساته، وحرماته، من الكفَّار الأصليين، أو المرتدين المعاندين، أو المنافقين المتستِّرين، لا يحصل دائماً إلاَّ في حالات ضعف المسلمين أو تخاذلهم عن حراسة الدين.
وهذا في تاريخ الإسلام بكل عصوره، فقد كان كفَّار العرب عامة، وكفار قريش خاصة، جريئين على انتهاك حرمات المسلمين تعذيباً وإرهاباً، وسبّاً وشتماً لرسول الله ومن والاه؛ فقد قالوا عن الرسول (ساحر، كذَّاب، مجنون) ... ولما أصبح للمؤمنين قوَّة، أنزل الله: {فَإذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [التوبة: ٥] وقال أيضاً: {وَإن نَّكَثُوا أَيْمَانَهُم مِّنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إنَّهُمْ لا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ} [التوبة: ١٢] .
وحُقَّ لنا أن نتأمل قوله ـ تعالى ـ: {وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ} لنعلم أنَّ مطلق الطعن في الدين كلاماً أو لمزاً كان موجباً لقتالهم ... ولمَّا نزل هذا الدين وقام المسلمون به حقَّ قيام، لم نسمع أنَّ هناك من العرب من طعن في الإسلام بعد ذلك إلا بالردة التي قُبِرَت في وقتها، وهذا في الكفَّار ... أمَّا في النفاق فلم يكن يستعلن إلاَّ في حال الضعف، فلمَّا أحيط بالمسلمين في الخندق، وظنَّ المنافقون أنَّ الإسلام قد ولَّى إلى غير رجعة، وأنَّه سيستأصل ولن تقوم له قائمة بعد، قالوا: {مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إلاَّ غُرُورًا} [الأحزاب: ١٢] وقالوا: {يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا} [الأحزاب: ١٣] الآيات.
وقد تكررت هذه الصور من الكفار الأصليين، والمنافقين المتسترين في كل عصورالإسلام؛ فعندما يكون للمسلمين خلافة قوية، وحسٌّ مرهوب، وأمَّة متماسكة لم يكن هناك من الكفَّار الأصليين من يجرؤ على التطاول على الإسلام، وانتهاك شيء من حرماته، وانظر ماذا صنع خليفة كالمعتصم عندما علم أنَّ امرأة مسلمة أهينت عند الروم؟!
وانظر ما صنع التتار عندما أغراهم النصر الأول على جيوش السلاجقة! لقد استباحوا كلَّ حرمات الإسلام ... وفي الوقت الذي فعلوا فيه هذا ارتد من المسلمين من ارتد، وأظهر المنافقون نفاقهم، ولهذا حين نقرأ ما نقله شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ وهو شاهد، عن طوائف من المنافقين في دمشق حيث قالوا: (إنَّ سبب بلائنا وشقائنا هو محمد بن عبد الله، الذي عادى الأمم، وجعل الأمم تعادينا، ولولا الإسلام ومحمد لعشنا آمنين ... ) !
ألا ترى أنَّ هذا هو تماماً ما يقوله المنافقون الآن وما يفعله التتار الجدد بأمة الإسلام؟
وهذه المشاهد نفسها قد كان في الحروب الصليبية مثلها؛ حيث تجرَّأ النصارى الروم (شعوب أوروبا جميعاً) على أمَّة الإسلام، وجاءت جيوشهم ليس فقط لاستنقاذ القدس كما زعموا من أيدي المسلمين، بل لهدم الكعبة، وتدنيس قبر رسول الإسلام -صلى الله عليه وسلم -.
وانظر الكتب التي سطَّرت في هذه الحقبة من سب رسول الإسلام بأقذع السباب، ووصفه بأنَّه أسوأ رجل عرفه تاريخ البشرية؛ وهذا نفسه عين ما ينشره النصارى اليوم في منتدياتهم على الشبكة العالمية (الإنترنت) . وانظر ما صنعه المنافقون من الفرق الباطنية في ممالأتهم للصليبيين ... فما أشبه الليلة بالبارحة، والتاريخ واحد منذ دعا رسول الله إلى الإسلام إلى يومنا هذا.. والحقيقة أنَّه حين كان للدين قوة وحراسة، ورجال أشداء كان الكفر ينقمع، والنفاق يستخفي، وعندما يظهر ضعف المسلمين وتنكشف عورتهم تنبحهم كلاب الداخل والخارج.
واليوم ـ واحسرتاه على اليوم ـ ليس للمسلمين خلافة راشدة، ولا قوة رادعة، والإسلام اليوم مستباح وحرماته تنتهك مساء صباح.
فهل نلوم الكفار على تدنيس المصحف، والعمل على الإذلال بالمسلمين، وتأليب العالمين في الأرض كلِّها عليهم وتخويف دعاتهم حتى من تدريس القرآن؟!
وهل يلام المنافقون إذا أظهروا كفرهم بالله علانية، وقالوا إنَّ الإسلام لا يصلح لهذا الزمان، ونادوا بطيِّ بساطه، وإزالة معالمه، واستبدال شرائعه ... ؟ كيف نلومهم والفرصة أصبحت مواتية لهم، بل أصبح الجسد الإسلامي من كثرة الجراح لا يقوى على الصياح؟
أمَّا ما العمل؟!
فالعلم أوَّلاً بأسباب الخلل....