للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

في إشراقة آية

فؤاد حجازي الهجرس

قال تعالى:

[يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ ولا

نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ ولا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ ولا تَنَابَزُوا بِالأَلْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ ومَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ]

يمدنا القرآن الكريم بدعائم الأخلاق وكرائم الخصال والعادات، حتى تقوم

حياة مجتمع المسلمين على قدر وافر من التقدير والإعزاز والإكرام.

وللقرآن مقاصد ثلاثة: تصحيح عقيدة، وتصحيح عبادة، وإقامة أخلاق..

والأخلاق الحسنة لها أثر جليل في تأسيس المودة والحب بين الناس.. قال الشاعر:

وإنما الأمم الأخلاق ما بقيت ... فإن هموا ذهبت أخلاقهم ذهبوا

في هذه الآية الكريمة نهى الله عن أخلاق ذميمة ثلاثة:

١ - نهى عن السخرية.. وهي الاستهزاء بالآخرين أو التقليل من شأنهم

وتحقيرهم، وهذا يخالف الآداب الإسلامية.. قال أحد العارفين: «لو سخرت من

رضيع لخشيت أن يجوز بي فعله» . خشى جواز فعله به - أي مروره عليه - مع

أنه ضعيف لا حول له وإنما هو حِسُّ المؤمن.

٢ - ونهى عن اللمز.. وهو الغمز بالوجه مثلاً أو تحريك الشفاه بما لا يفهم،

وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: «أعوذ بك رب من همز الشيطان ولمزه» .

تعلمها من قول الله تعالى:

[وقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ] وندرك نحن أن من يفعل هذا يصبح شبيه الشيطان.. أو يكونه.

٣ - ونهى عن التنابز بالألقاب: وهو مناداة الرجل بما يكره من الأسماء،

جاء في كتاب لسان العرب أن من المسلمين من كان ينادي اليهودي بعد إسلامه:

«يا يهودي» فنزلت الآية تدفع عنهم ولذا قال تعالى: [بِئْسَ الاسْمُ الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ] وهو نَهْىٌ عام في كل لقب يكره المسلم أن ينادى به.

إن الكلمة إذا سَرَتْ سخريةً فإنها تفرق الوحدة وتمزق الألفة.. وهل للشيطان

تأثير إلا من خلالها وصدق الله: [وقُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ] .

هي الكلمة.. فقط نحبسها داخل الجنان لا تخرج إلا مصفاةً منقاة. وهو

اللسان.. فقط يُحبس ويُطوي داخل الفم.. لا ينطق إلا بخير.. أو في الصمت نجاة. قال معاذ بن جبل -رضى الله عنه-: (يا رسول الله.. أنحن محاسبون على

الكلمة نقولها؟ ..) فقال -صلى الله عليه وسلم-: (ثكلتك أمك يا معاذ.. وهل

يكب الناس في النار على وجوههم - أو قال - على مناخرهم.. إلا حصائد

ألسنتهم) .

وقرأت أن قُسَّ بن ساعدة الإيادي - خطيب العرب - اجتمع ذات يوم هو

وأكثم بن صيفي حكيم العرب، فقال أحدهما للآخر: كم وجدت في ابن آدم من

عيوب؟ .. قال: هي أكثر من أن تحصى، وقد وجدت خصلة إذا استعملها سترت

عيوبه.. وهي حفظ اللسان.

ولله در الشاعر حين قال:

احفظ لسانك لا تقول فتبتلى ... إن البلاء موكل بالمنطق

تضمنت الآية نهيا عن ثلاث: السخرية واللمز والتنابز، وهن ثلاث تؤرق

أمن الجماعة المؤمنة نفسياً، واعتبر الإسلام أن من يعملها إنما يسئ إلى نفسه،

ويوجه السهم إلى نحره: [ولا تَلْمِزُوا أَنفُسَكُمْ] كأن الآية تقول: لا تسخر من غيرك فلربما كان في ميزان الله أفضل منك، إن لله موازين يزن بها أقدار الناس وعلى أساسها يتحدد المصير.. إنْ في الجنة وإنْ في النار. وكأنها تقول كذلك: لا تلمز غيرك فهو أخوك في الإنسانية والدين، والأخوة بينكما لحمة البناء، فإن فعلت فنفسك تصيب وعيبك تفضح. وكأنها تقول أيضاً: لا تُنَابِزْ بالألقاب فتؤذي شعور مَنْ تنابزه وتشدخ كبرياءه، وتفصم آصرة الود بينك وبينه.

واعلم أن هذا الجرم قد شبهه المفسرون بالردة من بعد إيمان: [بِئْسَ الاسْمُ

الفُسُوقُ بَعْدَ الإيمَانِ] ومن وقع منه ذلك ولم يتب فإنما يظلم نفسه، ويوبقها بأغلال تهوي به إلى الجحيم: [ومَن لَّمْ يَتُبْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون] ومن الآية نستنبط هذه الإشارات:

أولها: لا يليق بمجتمع رباه الإسلام، أن تسود فيه موبقات.. السخرية،

واللمز والتنابز، ففيه مخالفة للمهمة التي من أجلها بعث -صلى الله عليه وسلم-

حيث قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق»

وحيث قال: «أثقل ما يوضع في ميزان العبد يوم القيامة تقوى الله وحسن

الخلق» .

وثانيها: أن هذه الصفات المسيئة تضع موازين للناس غير موازين الله تعالى

حيث قال: [إنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ] فهي لا تنتقص الرجل إلا من فقر أو ضعف أو سذاجة وما إلى ذلك وهي لا تنتقص المرأة إلا بسبب دمامة أو قِصَر أو تشوُّهٍ وما إلى ذلك. إن ميزان الله أساسه التقوى وهو أبقى وأعدل: (إن الله لا ينظر إلى صوركم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم) ثم ... أيمكن أن يكرم الله ابن آدم على خلقه ويسخر له البر والبحر والجو، ونُهَوِّنُ نحن من شأنه بشىء من ذلك.. [ولَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ والْبَحْرِ ورَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً]

إن آثار الأمر كما يبدو أبعدُ من أن تكون كلمة تقال تسخر أو تلمز.. لأن الله

نهى عن ذلك نهياً أكيداً حفاظاً على قيمة التقوى التي هي ميزان الله لأقدار الناس.

ولقد تضافرت آيات كثيرة على كف الناس عن هذه الصفات قال تعالى: [وَيْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ] واقرأ السورة إلى آخرها وتصور العقاب: [كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الحُطَمَةِ * ومَا أَدْرَاكَ مَا الحُطَمَةُ * نَارُ اللَّهِ المُوقَدَةُ * الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ] أي تأكل الجلد فاللحم فالعظم حتى تصل إلى عضلة القلب نعوذ بالله من ذلك الهول: [إنَّهَا ... عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ * فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةٍ] . وقال تعالى في سورة القلم يصف الوليد بن المغيرة.. ضمن أوصاف أخرى: [هَمَّازٍ مَّشَّاءٍ بِنَمِيمٍ] .

وقال جل شأنه: [قُل رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ] .

يقول الإمام ابن كثير: «ولا تلمزوا أنفسكم» تساوي: «ولا تقتلوا أنفسكم» في سورة النساء.

قال بكر بن عبد الله: إذا رأيت أكبر مني سناً قلت سبقني بالإسلام والعمل

الصالح فهو أفضل مني.. وإذا رأيت أصغر مني سناً قلت سبقته بالذنوب وارتكاب

المعاصي فهو أفضل مني.. وإذا رأيت إخواني يكرمونني قلت: نعمة تفضلوا بها

علىّ.. وإذا رأيتهم يقصرون في حقي قلت: من ذنب أصبته.