للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الافتتاحية

لابد من ملء الفراغ

كلما فكرت في حقيقة أن سبعين سنة من محاربة العقائد الدينية بكل الأساليب

لم يُقْضَ عليها، ولم تغيبها في التراب - كما قدر أعداء العقائد الدينية - ازدادت

ثقتي بالحق الذي أحمله، وكان ذلك برهاناً على قصر النظرة البشرية التي تحدثها

أوهامها أحياناً بأنها تعلم كل شيء، وتريد أن تزيل من أمامها كل ما يعوقها عن

تحقيق ما قصرت نظرتها وعلمها عليه.

أما هذه المعركة المشار إليها فهي التي وقعت - ولا تزال - بين الشيوعية

والأديان.

إن الشيوعية استخدمت كل الوسائل: المادية والمعنوية من أجل القضاء على

أفيون الشعوب ولكن هل نجحت؟ !

هل نجحت في القضاء على المسيحية - مع أن المسيحية لا تهتم إلا بالجانب

الروحي من الحياة، تاركة الجانب المادي لقيصر - ولئن عجزت الشيوعية عن

القضاء على المسيحية، فهي عن أن تقضي على الإسلام - الذي هو في حقيقته

دين شمولي لشأن الدنيا والآخرة معاً - أعجز.

ليس من شأننا الحديث عن معاداة الشيوعية للأديان في روسيا! ، ولكن نريد

أن نتخذ من ذلك دليلاً على عبثية المحاولات التي تبذل من أجل المحو أو التحريف

والتشويه للحقائق التي تؤمن بها الشعوب.

***

لا شك أن هناك حملة قوية من أغلب الفئات النافذة بدأت منذ نهاية القرن

التاسع عشر وبداية هذا القرن هدفها تقليل التأثير الإسلامي في بنية الشعوب

الإسلامية، وإبعاده شيئاً فشيئاً عن جميع النواحي المهمة في الحياة وخاصة الثقافية

منها والتشريعية والاقتصادية.

ومع أن هذه الفئات قد حققت كثيراً مما كانت تتطلع إليه، لكن الهدف النهائي -

وهو تخفيف قبضة العقيدة الإسلامية، وترويض حدة الشعور الديني - لم يتحقق

منه شيء، ولا تبدو في الأفق بوادر تشير إلى ذلك، بل إن المشاهَد أن الشعور

الإسلامي في تصاعد، والاعتقاد بأن الكوارث المحيطة والمتربصة ليست إلا بسبب

انفصام عرى العقيدة الإسلامية من بعض النفوس، وأنه لا مخرج من هذا الواقع

المتأزم إلا بعقد سلام بين الشعوب وتاريخها المغتصَب، والاعتراف بأن المجتمع

لن يكون محصناً ولا قوياً وهو منشق على نفسه، يتبرأ جانب من جانب، ويطارد

قاهر مقهوراً؛ لأن دوامة الزمن مستمرة في الدوران، وغداً سيكون المَوْتور واتراً، وهكذا ...

***

إننا إذا تناولنا جانباً من جوانب التجاهل والإهمال الذي يلقاه الإسلام في دياره -

وهو الجانب الثقافي - سيبدو لنا التأزم والعبث بأوضح صورة.

هذه خطط، وتلك مناهج وضعت لتنشئة أجيال لتكون قادرة على الوقوف على

قدميها في عالم عاصف بالأفكار، والذين وضعوا ذلك وصلوا - برجاحة عقولهم،

وغزارة علمهم، وقبل ذلك كله بحرارة إخلاصهم لأوطانهم وغِنى عواطفهم نحو

أبناء قومهم! - إلى أن الإسلام شأنه شأن الأديان كلها، لا يمثل إلا زاوية روحية

يكفي أن يقدم الحديث عنه للأجيال ضمن هذه الزاوية: تعليم لبعض العبادات،

وحديث عن التوبة والمغفرة، والذكر ومراسم الدفن، وبعض مكارم الأخلاق مثل

الرحمة والرفق بالحيوان، وأشياء أخرى لا تخرج عن هذا الإطار الفقير.

ويستطيع أن يقوم بتقديم هذا الجانب أي فرد - عالم أو جاهل - مؤمن بما يقول أو

جاحد. والقصد من هذا الاختصار واضح لكل ذي نظر، وهو ليس القناعة حتى

بهذه الأشياء المقدمة، بل الإجابة على تساؤل الذين يتساءلون بإلحاح: أين مكان

الدين من تربية الأجيال؟

تريدون ديناً؟ ! لا مانع، خذوا هذا الدين! هذا هو الإسلام!

أما إذا لم يشفِ هذا الجواب العملي النفوس التي تحترق وتململت تطلب إجابة

أشفى " كان الصراخ لها قرع الظنابيب " [١] .

نريد أن ننظر إلى واقعنا على ضوء هذا الذي يجري فيه، فعندما لا يقتنع

المسلم أن ما يقدَّم لأبنائه هو الإسلام، فإنه يفتش عن بديل آخر لهذا، كأن يلقن

أبناءه الإسلام الذي يؤمن به والذي يراه مخالفاً - في اتساعه وشموله، بل في

أحكامه العملية - لهذا الإسلام المسكين المستكين الراكد العاجز الذي تحدثه عنه

أجهزة الثقافة وأقنية الفكر.

وإذا افترضنا أن من الآباء من لا يبالون: أدرس أبناؤهم إسلاماً وقرآناً أم

درسوا غير ذلك؟ ! فإن من الآباء كذلك من يشعر بالمسؤولية الثقيلة الملقاة على

عاتقه، ومن يعتقد اعتقاداً لا يتزعزع أن الله سائله كيف ربى ولده، وهو لذلك يرى

أن الأمر جد لا هزل فيه. وحتى أولئك الآباء غير المبالين، عندما يشب أبناؤهم

عن الطوق، ويقارنون ما لقنوا بما هو موجود في الكتب الإسلامية المبذولة بأعداد

هائلة، وبنسب تفوق كل أنواع الكتب الأخرى؛ فإن كثيراً من هؤلاء الأبناء

يراجعون ما لقنوا، ويكتشفون الزيف الكثير في ذلك، فإما أن يرفضوه جملة، وإما

أن يشكوا فيه، وهما أمران ينتج عنهما انفصام في الشخصيات، وتمزق داخلي

ينعكس على تصرفاتهم وأعمالهم، وبدلاً من أن يكونوا خلايا منتجة في جسم

المجتمع يؤول أمرهم إلى أن يكونوا خلايا مشلولة لا أثر لها، أو مريضة تنفث

التوتر والضعف في بنية الأمة.

وتبقى هناك فئة تمضي في البحث عن الحقيقة المغيبة بنفسها، فإما أن تنجح

في العثور عليها وإما أن تفشل، وهي في حالتي نجاحها وفشلها لا تحقق لمجتمعها

شيئاً على المستوى العام؛ لأن نجاحها فيما نجحت فيه لا يحسب لها، بل عليها،

لأنه غير معترف به من قبل الذين رسموا وخططوا، وفشلها يتخذ ذريعة لتثبيت

الباطل الذي حاولت خارج إطاره، ولاستمرار الزيف الذي لم يطفئ فيها التحرق

للبحث عن الحق.

إن كبرى الأزمات التي نعاني منها مردها إلى هذه الحال التلفيقية التي نعيش

فيها: تتجاور فينا المتناقضات، ونعيش في أجواء يسودها التنافر والتمزق؛ فالكفر

الصُّرَاح بجانب نصف الكفر بجانب الإسلام وأجزاء الإسلام! والعبودية ونصف

العبودية بجانب الحرية وما هو فوق الحرية من الطغيان والجبروت، والعروبة

بجانب دعوى العروبة والشعوبية السافرة، والفساد المرخص له بجانب المساجد

ودور العبادة، والقوانين الحديثة المكتوبة، بجانب القوانين السرية النافذة: قوانين

العشائر والفئات والطوائف. وهيكل الدولة الحديثة الذي تسري فيه روح الغرائز

وتسود فيه شريعة الغاب ...

خلط وتلفيق وحلول وسط تعكس نفوساً خربها النفاق وفتك بها الهوان فلم تعد

تعرف معروفاً، ولا تنكر منكراً.

الحرج من هذا الواقع المرير مرهون بأن نقف أمام أنفسنا وقفة صادقة، وأن

نعترف بسبب المشكلة أولاً، وهو هنا عدم وجود دليل واضح ومنهج أصيل تسير

على هدْيه الأجيال الإسلامية، ثم الانفصال بين مفهومين للإسلام في أذهان هذه

الأجيال: مفهوم تقدمه فئة غير مقتنعة بالإسلام ولا تبالي بأي واد هلك، إسلام

مقطع الأوصال، مشوه القسمات؛ ومفهوم آخر تبحث عنه هذه الجموع المتعطشة

التي فقدت ثقتها بكل شيء، وانهارت أمام عيونها كل المناهج المستوردة

والمفروضة، وهي في خلال بحثها عنه تلاقي الجفاء والمقت، وتعاني من الإنكار

والجحود.

وما لم يكن هناك اعتراف بهذه الحقيقة فإن جهودنا أفراداً وجماعات ستذهب

سدى، وسنبقى حيث نحن، هدر للطاقات، وتضحية بالكفاءات، ومطاردة دائمة

حتى يأتي يوم نفقد فيه الطِّراد حيث نفقد الطرائد.


(١) شطر بيت لسلامة بن جندل وصدره: إنا إذا ما أتانا صارخ فزع والصارخ: المستغيث،
والصراخ: الإغاثة والظنابيب: جمع ظُنبوب، وهو ظاهر الساق ويمكن أن يستعار هذا المعنى للدلالة على الرد بعنف على الاحتجاج.