للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات إعلامية

[قراءات هادئة.. في القنوات الفضائية]

عبد العزيز بن محمد الخضر

منذ زمن بعيد وفي السنوات الأولى من هذا القرن، وقبل أن تعرف البشرية

هذا الحجم من التقدم التقني، وقبل أن تظهر مخترعات عديدة كانت هناك قصة من

قصص الخيال العلمي اسمها: (الآلة تتوقف) رسم فيها الكاتب رؤية مستقبلية

يتخيل ويحلم بعالم توجد فيه شبكة إلكترونية يرتبط بها كل فرد؛ حيث يجلس الناس

في غرفهم ويحكمون إغلاقها، ولا تنقطع الصلات بينهم مع أنهم في هذه الغرف

المغلقة! !

شيء غريب أن لم تعد هذه القصة الخيالية غريبة! !

ما زال العالم يتجه إلى مغامرة معرفية غير مسبوقة في التاريخ لها خصائصها

المتجددة، وغير محدودة الأفق، وأصبحت حدود الزمان والمكان متداخلة بسبب

تكنولوجيا المعلومات والطرق السريعة لها؛ حيث تشبه الثوراتُ الدوائرَ؛ إذ ليس

لها بدايات أو نهايات، وهي عبارة عن سيل لا ينقطع من التغيير انطلاقاً من

الماضي الذي يقع خلف حدود الذاكرة وانتهاء بالمستقبل الذي يقع خارج حدود

التصور.

وتبدو ثورة الاتصالات عبارة عن فكرة تحدد كوناً من التغيير الذي انطلقت

حركته بفعل التوسع الإلكتروني للمعرفة البشرية والتجربة البصرية لشعوب العالم

كافة تقريباً ضمن بُعد حدود الزمان والمكان؛ إذ - ولأول مرة في التاريخ - نجد

الغني والفقير، الأمي والمتعلم، عامل المدينة وفلاح الريف يتصلون معاً عبر

صور الحياة العالمية، ومن الجار المحلي إلى أبعد مدينة [١] .

لقد شاء الذي [يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير] [الملك: ١٤] أن تصل

البشرية إلى هذه المرحلة!

في هذا الوقت: أين هي تصوراتنا المستقبلية ورؤيتنا الاستراتيجية؟ ما هي

طرق التفكير في التعامل مع هذا الواقع الذي يحيط بنا؟ ما هي الأسس العلمية

والمنهجية التي نملكها؟ وما هي الدراسات والتأملات العميقة التي تفكك هذه

الظاهرة؟ وهل آن الأوان لرسم خطوط جديدة في العقل والرؤية للأمور لرفع

قدراتنا على التقييم: أين المصلحة والمفسدة في المدى القريب والبعيد؟

قراءة في المحتوى (تحليل كمي) :

إن هذا التسارع في حركة الاتصالات والبث الفضائي الذي أصاب بالحيرة

عقولاً كبيرة من العلماء والمفكرين، يشير بخطورة الانعزال، وعدم الفهم الواضح

لمحتوى هذه الفضائيات، والتغيرات السلبية والإيجابية التي قد تحدثها، والاكتفاء

بالآراء العامة واجترارها على مدار الأعوام، والشجب العاطفي الذي لن يساهم في

تفعيل جهود المصلحين في التعامل مع هذا الواقع المتغير في كل لحظة.

وهذه محاولة لوضع تصور عام عن هذا المحتوى لبعض أهم القنوات في

العالم العربي، والقيام بتحليل كمي بعيد عن الانتقائية والتصيد للأخطاء، وإنما

بصورة موضوعية تُعَد خطوة رئيسة لفتح آفاق أخرى تساعد على رسم حلول

ومقترحات للتعامل مع هذا الواقع.

وفي هذه الدراسة الموجزة يبدو أن الإحاطة بمضمون جميع القنوات الفضائية

التي تبث في فضاء العالم العربي خارج السيطرة؛ لأنها بدأت بالتكاثر بصورة

ملفتة للنظر، ويصعب استقصاء الكثير منها، وستقتصر هذه الدراسة على أهم هذه

القنوات على قمر عرب سات. ويمكن تقسيم القراءة في المحتوى بما يلي:

أولاً: واقع البث الفضائي:

تطور الاستخدام العربي للاتصالات تطوراً مثيراً خلال السنوات الماضية؛

فبعد إطلاق القمر الصناعي الأول لعرب سات الذي تعاملت معه الدول العربية

بتحفظ شديد في مجال الاستخدام التلفزيوني في البداية تدافعت هذه الدول بعد ذلك

لاستئجار ما بقي من قنوات الجيل الأول، ودفعت مقدماً مقابل استئجار قنوات

الجيل الثاني، ثم دخلت المؤسسات غير الحكومية الحلبة ونافست القنوات

الحكومية [٢] وتم بنجاح مؤخراً إطلاق الجيل الثالث لـ (عرب سات ٣ - أ) .

وتبث البلدان العربية الآن من خلال (٢٠) قناة فضائية مفتوحة، وقناتين

مشفرتين من داخل البلدان العربية، ومن خلال (٤) قنوات مفتوحة و (٨) قنوات

مشفرة من خارج البلدان العربية. إضافة إلى قناة واحدة لكل بلد من البلدان الآتية:

المغرب، الجزائر، تونس، السودان، اليمن، عمان، قطر، البحرين، الكويت، الأردن، سورية، موريتانيا، (mbc) . وهناك قناتان لكل من مصر والسعودية

art، ولبنان orbit، وأربع قنوات للإمارات العربية المتحدة، وهناك أقنية مشفرة

لمصر ولبنان، و orbit وشبكة الأخبار العربية ANN (٢) .

ويزداد عدد القنوات العربية باستمرار مع دخول بلدان جديدة مجال استئجار

قنوات فضائية أو زيادة بعض البلدان قنواتها، (كما هو الحال في النايل سات)

إضافة إلى أن القنوات القائمة تنحو دائماً إلى زيادة ساعات البث؛ ويبلغ مجموع

البث بالقنوات العربية حوالي ٣٠٠ ألف ساعة سنويا [٣] .

وقد تجنبت معظم الدول العربية اتخاذ موقف محدد إزاء استقبال البث

الفضائي، كما تجنبت معظمها إعلان موقف السماح أو المنع، ولم تحدد موقفاً

واضحاً محدداً من الصحن اللاقط (الدش) ، ولذلك هي لم تمنعه؛ ولكنها لم تسمح به، ومن المؤكد أن هذا الموقف لا يعود إلى (ضعفٍ ما) أو إلى (عجزٍ مَّا) لحسم

الموقف إزاء قضية محددة كهذه بقدر ما يعود إلى اعتبارات متداخلة يفرضها واقع

الحياة [٤] .

ويطول المقام لو تم التوسع في إعطاء تفصيلات لواقع البث الفضائي في

الوقت الحاضر، خاصة مع انتشار أقمار متعددة تبث القنوات الروسية والتركية

والأوروبية وقنوات شرق آسيا، إضافة إلى القنوات المشفَّرة. وهذه الدراسة

الموجزة مقتصرة على القنوات التي تشاهدها الأكثرية في مجتمعاتنا.

ثانياً: تحليل كمي:

ما هي المادة التي تشكل مضمون هذه القنوات التي تتسلل إلى عقل المجتمع

الذي يستقبله؟ سؤال يصعب الإحاطة به، وهو يحتاج إلى جهود ضخمة من عدة

باحثين، وسأقدم هنا تصوراً عاماً وموجزاً عن مضمون بعض القنوات التي تحظى

بمتابعة ليست قليلة في العالم العربي.

وقد أمضيت وقتاً طويلاً في التفكير حول الأسلوب المناسب والموضوعي

لتقييم المضمون لأي قناة، بعيداً عن الآراء الشخصية، بسبب ما يصاحب البث

التلفزيوني من تداخلات ومتغيرات يختلف عن أسلوب التقييم لمجلة أو صحيفة.

ولتقسيم الموضوعات كانت هناك قائمة طويلة لتوزيع البرامج وتصنيفها

لإعطاء تصور مفصل عن المادة التي تُبث، ولكن لكثرة التداخلات وصعوبة

التقسيم من الناحية العملية، ووجود تغيرات متجددة كان التقسيم للبرامج وفقاً لقائمة

الإطار العام الذي توضع فيه، والذي يبدو كافياً في هذه الدراسة لوضع صورة عامة

من قبيل أن تكون خطوة مبدئية ربما تحتاج لتفصيلات أكثر دقة لكافة ما يبث.

والتقسيم الذي تم اختياره يتوزع إلى أربعة فروع رئيسة تضم كافة البرامج:

القسم الأول: يمكن وضعه في خانة البرامج الجادة: ويضم الأخبار والتحاليل

السياسية، والبرامج العلمية والاقتصادية والثقافية والدينية والفكرية، والحوارات

التي تهتم بالقضايا الجوهرية في حياة الشعوب.

القسم الثاني: يشكل البرامج الفنية: ويضم الأفلام والمسلسلات والأغاني

والحوارات الفنية.

القسم الثالث: ما يتعلق بالعائلة مما يخص المرأة والطفل.

القسم الرابع: يلحق بالمنوعات: كالمسابقات والرياضة والسياحة والتسلية.

هذا التقسيم للمحتوى في الحالات العادية، وليس في أوقات المناسبات

كالأعياد والمواسم الدينية.

والنتائج التقريبية التي ظهرت لنا من خلال التحليل الكمي لبعض أهم القنوات

السائدة في فضاء العالم العربي هي ما يلي:

١ - قناة دبي: تمثل البرامج الجادة حوالي ٦٨، ٤٦%، البرامج الفنية

حوالي ٩٦، ٣٥%، البرامج العائلية حوالي ٩٣، ٩%، البرامج المنوعة حوالي

٣١، ٨%.

٢ - قناة عجمان: تمثل البرامج الجادة حوالي ٧٥، ٣%، البرامج الفنية

حوالي ٥، ٣٢%، البرامج العائلية حوالي ٢٠% البرامج المنوعة حوالي ٧٥،

٤٣%.

٣ - قناة مصر الفضائية: تمثل البرامج الجادة حوالي ١٦، ٢٤%، البرامج

الفنية حوالي ٩٥، ٤٣%، البرامج العائلية حوالي ١٢٥، ١٣%، البرامج

المنوعة حوالي ٧٦، ١٨%.

٤ - قناة LBC: تمثل البرامج الجادة حوالي ٩٧، ٧%، البرامج الفنية

حوالي ٣، ٤٤%، البرامج العائلية حوالي ٦٧، ٢٢%، البرامج المنوعة حوالي

٠٥، ٢٥%.

٥ - قناة المستقبل: تمثل البرامج الجادة حوالي ٦٧، ٧%، البرامج الفنية

حوالي ٣٢، ٤٢%، البرامج العائلية حوالي ٥، ٢٨%، البرامج المنوعة حوالي

٥، ٢١%.

٦ - قناة mbc: تمثل البرامج الجادة حوالي ٢٣، ١٨%، البرامج الفنية

حوالي ٢٤، ٥٥%، البرامج العائلية حوالي ٩، ٩%، البرامج المنوعة حوالي

٦٣، ١٦%.

٧ - قناة الجزيرة: تمثل البرامج الجادة حوالي ٥٧، ٩٠%، البرامج الفنية

حوالي ٥٩، ٠%، البرامج العائلية حوالي ٥٩، ٠%، البرامج المنوعة حوالي

٢٣، ٨%.

٨ - قناة الشارقة: تمثل البرامج الجادة حوالي ٣، ٧٣%، البرامج الفنية

حوالي ٣٨، ٦%، البرامج العائلية حوالي ٧٦، ١٠%، البرامج المنوعة حوالي

٥٢، ٩%.

ثالثاً: تقييم عام للمحتوى الكمي:

قد يكون من الأفضل في التقييم للمحتوى الكمي في البرامج الفضائية أن يكون

من خلال قراءة عمودية تتعمق في أجزائها، ولكن للقراءة الأفقية فوائدها التي ترسم

الصورة العامة لواقع كبير ومتشعب الجوانب.

ومن خلال الاستعراض الموجز لواقع بعض أهم القنوات العربية كانت تلك

أهم محتويات المادة التي تغطي ساعات البث دون وضعها تحت مجهر نقدي علمي

لمحتوياتها، والنتيجة التي يصل إليها الناقد تعتمد على المنهج الذي ينطلق منه

لتقييم مادة البث، وما هي المعايير التي يرجع إليها كمقياس يحكم من خلالها على

نجاح أو إخفاق هذه البرامج، ونتيجة " لم ينجح أحد! " قد تكون طبيعة لأكثر

القنوات لو تم اعتماد معايير ومفاهيم إسلامية دقيقة.

إن القراءة التحليلية المنهجية تحتاج تفصيلات طويلة لا تناسب هذه الدراسة،

ولذا سأكتفي بوضع نقاط عامة وملاحظات تكشف بعض الجوانب حول التحليل

الكمي السابق:

١- بعد سنوات قليلة من بداية البث الفضائي بدأت في الانتشار ظاهرة

القنوات المتخصصة في الأفلام والأغاني والرياضة والأطفال، وهي قنوات مشفَّرة

وبرسوم معينة، وعلى النايل سات توجد باقات من القنوات للتعليم بالمراحل

الابتدائية والإعدادية والثانوي والفني وتعليم اللغات والجامعة، وقنوات متخصصة

بالصحة والأسرة والثقافة، وبدأت مؤخراً القناة الجامعية للتعليم عن بعد لمجموعة

art، وقناة المناهج، وستبدأ قريباً قناة خاصة بالشعر الشعبي، وبدأت أيضاً قناة

اقرأ في البث.

٢ - يلاحظ أن القنوات الحكومية التقليدية في العالم العربي لها نمط متشابه

في النسق العام لبرامجها، وهي تتميز بالقطرية باهتماماتها وخطها الإعلامي

الدعائي، والابتعاد عن حاجات الجمهور وواقعه، مما يعفي من الدخول في

تفصيلات هياكلها البرامجية، والاختلاف الذي يجدر ذكره فيما بينها هو في معايير

الرقابة على الأفلام لبعض المشاهد وبعض الأفكار الثقافية والسياسية.

وقد انقطع حبل السرة الذي يربط محطات التلفزيون العربية العامة بالجمهور، وهذا تعبير الشكوى من أحد المسؤولين العرب من كثرة القنوات المتاحة، بل

حتى داخل الأسرة الواحدة تعددت الاتجاهات؛ فلكل واحد منهم قناة خاصة [٥] .

٣ - هناك أهمية خاصة لمعرفة حجم المشاهدين، ويربط عاد بحصص وحجم

الإعلانات، وتوجد دراسات متعددة في بعض المجلات على مدار السنوات الماضية

حول حجم الإعلان لبعض القنوات، ولكن التغيرات تحدث سنوياً في هذا الشأن،

وقد أشارت مؤخراً مجلة الاقتصاد والأعمال، تحت عنوان: (الإعلام المرئي

والمأزق المخفي) الذي يبدو فيه أن جميع القنوات تعاني من أزمة في هذا الشأن؛

حيث تدنت أسعار الإعلان بصورة كبيرة نظراً للتنافس الشديد، وأيضاً لتدني أسعار

النفط بالفترة الأخيرة؛ حيث أشارت إلى أن حصة الأسد تتوزع على منافسين هم:

mbc، LBC، المستقبل تبالغ كثير من المحطات الفضائية بالتركيز على الترفيه

والإغراءات بالمعنى المبتذل، art، أوربت، شوتايم، الجزيرة، وهناك من

يضيف قناة دبي والفضائية المصرية [٦] ويُلاحظ في المستقبل، LBC، حجم

أكثر في الإعلانات لعدة أسباب منها منهجها الإعلامي القائم على إثارة الغرائز. أما

القنوات الإخبارية فلا يمكن لها أن تنافس في الإعلانات التي تخص المرأة والطفل.

٤ - إن التحليل الكمي للبرامج من خلال عينة زمنية لمدة أسبوع أو شهر أو

أكثر ربما لا يسعف كثيراً في إيجاد دلالات عميقة ما لم توضع المعطيات ضمن

إطار تحليل النسق من أجل استيعاب الكيفية التي يقوم عليها هذا المضمون أصلاً

وفروعاً [٧] ، خاصة أنه يلاحظ عدم وضوح الأهداف والوظائف لدى المحطات،

مما أدى إلى استحالة وضع خطة برامجية شاملة ومتوازية في القنوات الفضائية؛

خطة قادرة على تحديد نسب متوازية لمواد البرامج المختلفة حسب أولويات معروفة

مسبقاً.

لهذا يلاحظ في الدورة البرامجية لقنوات عديدة أن ما يخصص للثقافة - مثلاً- يختلف كلياً بين دورة وأخرى، سواء من حيث الزمن المخصص أو من حيث

المواضيع المطروحة، والأمر نفسه بالنسبة للمواد الأخرى، ويلاحظ أن النسبة

ترتفع أحياناً للمادة وتنخفض أحياناً أخرى دون سبب واضح؛ لذا فإن تذبذب

الأولويات في الدورات البرامجية وعدم تناسب البرامج مع حاجات التنمية واضح؛

وكثيراً ما تلعب المصادفة أو مدى توفر مادة معينة دولاً في زيادة حجم المواد

المخصصة لموضوع ما؛ لذا فهي تتميز بالعشوائية والمصادفة لبعض القنوات،

ومع هذا فالتغيرات ليست كبيرة، والنسق العام للبرامج لقنوات مضت عليها سنوات

عديدة يعطي التوجه والاستراتيجية العامة لهذه القناة أو تلك.

٥ - النسب العامة التي سبق استعراضها تشير بوضوح إلى الحضور الكبير

للبرامج الفنية وما يلحق بها من أفلام وأغانٍ ومسلسلات تقترب من نصف ساعات

البث، وهي مؤشر واضح إلى العجز الكبير الذي تعانيه هذه القنوات في إنتاج

برامج متنوعة وجادة تغطي ساعات البث الذي تلتزم بها كل قناة.

وهناك حضور لا بأس به للبرامج الجادة، ويمكن اعتبارها نسبة ضئيلة إذا تم

توزيعها على عدة أنواع من البرامج في الدين والقضايا السياسية والاقتصادية

والثقافية، ويستثنى منها الحضور القوي لقناة الجزيرة باقترابها من أن تكون

إخبارية متخصصة، وما تحويه من مضامين جادة تصل إلى ٩٠%، وقد شكلت

قفزة نوعية كبيرة في عالم الفضائيات العربية أربكت استراتيجيات مستقبلية لدى

قنوات أخرى، وساهمت في تحسن بعض القنوات الأخرى من أجل المنافسة،

والنخبة المثقفة في المجتمع هم أكثر المتابعين لها.

أما البرامج العائلية والخاصة بالمرأة والطفل، والبرامج المنوعة، فلا يبدو

أن هناك إشكالية في الوقت المخصص لها، إلا أن بعض المضامين تحتاج شيئاً من

المراجعة.

٦ - تبالغ الكثير من المحطات الفضائية العربية في التركيز على جوانب

الترفيه والتسلية - بالمعنى المبتذل لمفهوم الترفيه - مع التركيز على جانب الأفلام

والمسلسلات وإبراز شخصيات فنية، وبالمقابل يحدث نقص واضح في الاهتمام

بجوانب تهمُّ المواطن العربي بما يتعلق بالتنمية ومشكلاته الحياتية. وفي العالم

النامي تسود عقلية من أصحاب القطاع الخاص في الابتعاد عن الأشياء الجوهرية

والميل إلى القضايا الهامشية، بمعنى أن الهرم مقلوب كما هي عادتنا في كثير من

الأمور!

٧- التحليل الكمي ربما يعطي صورة موضوعية بوجه عام، إلا أن تقارب

النسب بين بعض القنوات في هيكلة برامجها، لا يدل على تقارب مضمونها السلبي

أو الإيجابي فيما بينها؛ لأن بعض القنوات كالمستقبل، و LBC غالبية برامجهما

تملك منهجاً تغريبياً واضحاً وبنسبة كبيرة في كافة ما يُبث حتى في البرامج العائلية

والأطفال.

٨ - هناك أوقات ميتة تتخلل البث اليومي وأوقات حية يدركها صاحب

الرسالة الإعلامية، لذا تتركز معظم البرامج الرئيسة لكل قناة في الوقت الذهبي،

أما الأوقات الميتة فيتم استغلالها في إعادة البرامج، وبرامج أخرى ليست جماهيرية، والوقت الذهبي يكون عادة فيما بين الساعة السادسة والساعة العاشرة مساء

بتوقيت جرينتش، ويلاحظ أن هذه الفترة الحية كانت تشكو في بدايات نشوء هذه

القنوات في أول التسعينات من طغيان المادة الفنية والترفيهية إلى حد التخمة،

وتدريجاً بدأت تزداد المساحة في هذه الفترة للبرامج الجادة والحوارية؛ نظراً للملل

الذي أصاب المتابع، ولظهور قنوات متخصصة وأخرى جادة مما أشعر بعض

القائمين أن المشاهد لا تستهويه دائماً المواد الهابطة، حتى بدأ يلاحظ أنه - في

وقت واحد - تبث عدة برامج حوارية جادة على الهواء مباشرة في أكثر من قناة.

وهذا التحسن يبقى محدوداً؛ خاصة مع إصرار بعض القنوات على جعل المواد

الدينية دائماً في الأوقات الميتة، واستغلال هذه الفترة الذهبية في عرض برامج

وأفلام تتكئ على إثارة الغرائز.

٩ - وجود عدد كبير من البرامج الحوارية المباشرة وغير المباشرة، وهي

تأخذ مساحة واسعة من الوقت يصعب عادة وضع ميزان دقيق لها وتصنيفها من

خلال عينة زمنية محددة؛ لأن البرامج الحوارية قد يكون ضيوفها من أصحاب الفن

من الممثلين والمغنين والعاملين في المجال الفني، أو شخصية سياسية أو عسكرية، أو شخصيات ثقافية أو دينية، إلا أن توجه القناة العام من خلال سنوات عديدة

يعطي مؤشراً على نسبة الضيوف ونوعيتها، ولكن المتابع يجد أن أغلب القنوات

التي يطغى التوجه الفني على برامجها هو التركيز على الضيوف من أهل الفن

بكافة تخصصاتهم، لدرجة أن الشخصية الفنية ربما أُجريت لها مقابلات متعددة في

أكثر من قناة في أوقات متقاربة، ولا تُترك شاردة ولا واردة إلا قيلت في حياة

الفنان، مما يشعر المشاهد بالتشبع حتى لمن يهوى الجانب الفني.

١٠ - من الأشياء التي لا تخفى على المتابع أن البث الفضائي الأجنبي أكثر

تنظيماً ولا يعمل في فراغ، ولديه حسابات تبعده عن التسلية المجردة لإنجاح

مشاريعه، وهي تمثل أفكار مالكيها من دول أو مؤسسات أو أفراد، ووجود هذا

البث بما يملكه من آليات وتكنولوجيا متقدمة ظاهرة موضوعية نتيجة اختلاف

موازين القوى في العالم لصالح الجانب الغربي.

والبث الأجنبي يحتاج إلى وقفة مستقلة لحصر القنوات الأجنبية التي يصل

بثها إلى المنطقة العربية. ففي عرب سات توجد قناة الـ CNN الأمريكية وهي

قناة إخبارية تمثل الثقافة والسياسة الأمريكية، وقناة TV٥ الفرنسية وهي أيضاً قناة

إخبارية تمثل الثقافة والسياسة الفرنسية، وللقناتين جمهور محدود من النخب،

ويغلب عليهما البرامج الجادة التي تهتم بالشؤون العالمية.

والقنوات المشفرة التي تعرض الأفلام الأجنبية بدأت تأخذ مساحة متزايدة في

الساحة العربية، وهي تحمل مخاطر تستحق الدراسة خاصة أن بعض هذه القنوات

تقوم بالترجمة إلى اللغة العربية، وهذا يعني أن الخطورة لا تقتصر على المشاهد

الفاضحة وإنما الأفكار والمضامين التي تصل إلى عقل المشاهد البسيط.

لا تكاد تفرق بين الإعلام العربي والغربي لتداخل مفاهيم عدة في ظل غياب

الميزان الأخلاقي.

ومما يؤسف له أنك قد لا تجد فوارق كبيرة بين ما يبثه الإعلام العربي

والإعلام الغربي؛ حيث تداخلت مفاهيم عديدة في ظل غياب الوعي الإسلامي الذي

يحافظ على القيم والأخلاق، وغياب القدرة على إنتاج مواد محلية لتغطي ساعات

البث الذي يزداد بصورة عشوائية؛ حيث تشير أرقام اليونسكو إلى أن المحطات

التلفزيونية في العالم النامي تستورد أكثر من ٥٠% مما تقدمه، وأن أكثر من ٧٥%

من هذه المادة المستوردة من منشأ أمريكي [٨] .

وبعيداً عن أدبيات اتهام الآخر فإن الثقافة أصبحت صناعة وسلعة تُنتج وتُباع

وتُشترى ويتم تبادلها، وتسيطر عليها الشركات المتعددة الجنسيات، وتَحوَّل

الجمهور إلى سوق واسعة يجب استثمارها، وظهرت أسواق تجارية لمحاصيل

ثقافية وفيرة وجاهزة، ففي ١٩٩١م بلغت قيمة صادرات بريطانيا من المواد الثقافية

٢٥ مليار دولار - المرتبة الثانية في الدخل القومي بعد السياحة - بينما الصناعة

تحتل المرتبة الخامسة. وفي العام ذاته بلغت قيمة الصادرات الأمريكية ٦٠ مليار

دولار، وهو رقم قريب من صادرات السلاح.

١١ - مع حقيقة طغيان المواد السطحية في الإعلام العربي، إلا أنه توجد

برامج رصينة وبرامج حوارية ذات فائدة، خاصة أن أغلبها ليست مغلقة، وإنما

أصبحت ندوات مفتوحة للجميع على الهواء مباشرة، وتطرح فيها قضايا هامة

للمجتمع العربي، فلم يعد الضيف الذي يختاره معد البرنامج داخل غرفة مغلقة يقول

ما يريد دون أن يأخذ في حساباته أن التحليل والمعلومة الخاطئة يمكن تعديلها من

أحد المتصلين للمشاركة، فأصبح المشاهد في كل مكان رقيب على ما يقوله

الضيوف في مثل هذه البرامج، وهذه الأنواع من البرامج تجعل التلفزيون يتجه إلى

أن يكون تفاعلياً وليس من طرف واحد.

قراءة في التأثيرات:

ليس من السهل في هذه القراءة الموجزة استعراض النظريات الرئيسة التي

توصلت إليها الدراسات في وسائل الإعلام وتأثيراتها، والتي مرت بثلاث مراحل

خلال هذا القرن؛ حيث (لا توجد نظرية واحدة متفق عليها عن كيفية عمل وسائل

الإعلام وعن تأثرها وتأثيراتها في الأفراد والنظم والمؤسسات الاجتماعية المختلفة؛

وإنما يوجد عدد من النظريات الاجتماعية التي تقدم لنا تصورات مختلفة عن العملية

الإعلامية وآثارها الاجتماعية) [٩] .

(ولا يختلف اثنان في أن وسائل الإعلام تقوم بدور رئيس في كثير من

القضايا، غير أننا لا نعرف حتى الآن تفسيراً علمياً كاملاً عن طبيعة تأثيرات

وسائل الإعلام، وعن النظم الاجتماعية العامة من ثقافة وفكر وسلوك ممارَس؛ لأن

طبيعة هذه التأثيرات والنظم لها جذور تاريخية واجتماعية ضاربة في القِدَم. ومما

يقلل من معرفتنا عن تأثيرات وسائل الإعلام أنه من غير المنطقي أن نتحدث عن

وسائل الإعلام وكأنها عنصر فاعل واحد؛ فالحقيقة هي أن العملية الإعلامية تمثل

مجموعة كبيرة ومتنوعة من الرسائل والصور والأفكار التي لا يكون مصدرها

الوسائل الإعلامية ذاتها؛ فمعظم هذه الرسائل والصور والأفكار تنبع من المجتمع

وإليه تعود) .

إنه من المهم أن ندرك (أن مضمون الإعلام ليس له تأثير الحقنة التي يحقن

بها المريض تحت الجلد فتحدث تأثيراتها المباشرة عليه بكل بساطة. وتأثير

التلفزيون هو ثمرة التفاعل الواقعي الحيوي بين خصائص التلفزيون وخصائص

مشاهديه، وليس من الإنصاف والموضوعية العلمية أن ننظر إلى التلفزيون على

أنه السبب الوحيد في الانحراف؛ لأن الانحراف سلوك معقد للغاية ينجم عن

مؤثرات متشابكة لها جذورها في الأسرة والأقران والمدرسة.


(١) مايكل أونيل، طبيعة المعرفة التلفزيونية، ت/د عماد خضور، المكتبة الإعلامية، دراسات تلفزيونية.
(٢) حسين العودات كيف يمكن أن نجعل القنوات الفضائية العربية أداة للتعريف بالثقافة العربية الإسلامية، المجلة العربية للثقافة، مجلة نصف سنوية العدد ٣٣ جمادى الأولى ١٤١٨هـ.
(٣) المصدر السابق.
(٤) المصدر السابق.
(٥) د أديب خضور، القنوات الفضائية العربية، المكتبة الإعلامية دراسات تلفزيونية.
(٦) جريدة الحياة، العدد ١٢٣٢٩٠، ٢٧ أكتوبر ١٩٩٦م.
(٧) مجلة الاقتصاد والأعمال، العدد ٢٣١، مارس ١٩٩٩م.
(٨) د زكي الجابر (قراءة في المضمون الثقافي والإعلامي في القنوات العربية) المجلة العربية للثقافة، العدد ٣٣، جمادى الأولى ١٤١٨هـ.
(٩) د أديب خضور (الدور التثقيفي للتلفزيون) المكتبة الإعلامية، دراسات تلفزيونية.
(١٠) دنيس مكويل، الإعلام وتأثيراته، دراسات في بناء النظرية الإعلامية، ت/د عثمان العربي.
(١١) د إبراهيم إمام: حول أثر التلفزيون على الأطفال والشباب، جريدة الندوة السعودية، العدد ٨٩٠٣، ٢١/١٠/١٤١٨.
(١٢) التلفزيون والأطفال، مجموعة من الباحثين ترجمة وإعداد: د أديب خضور.
(١٣) بيل جيتس، المعلوماتية بعد الإنترنت (طريق المستقبل) ، الكويت سلسلة عالم المعرفة، رقم ٢٣١، ترجمة: عبد السلام رضوان.
(١٤) كانت الثورة الثقافية الأولى سياسية الثقافة وطرحت مسألة طبقية الثقافة، وكانت الثورة الثقافية الثانية ذات مضمون حقوقي طرحت حق كل فرد في الثقافة، وكانت الثورة الثالثة الثورة العلمية.
(١٥) مجلة ستالايت، ٣٠يناير ١٩٩٩م، العدد ٢٨٢.
(١٦) د علي جريشة، نحو إعلام إسلامي التلفزيون وثورة الاتصالات، ملحق خاص عن التلفزيون نشرته مجلة الأيكونوميست ١٢/٢/١٩٩٤م، ت/ د عماد خضور، المكتبة الإعلامية، دراسات تلفزيونية.