للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الورقة الأخيرة

[الابتلاءات]

عبد الله بن سليمان القفاري

كثيرون نحن الذين قد نجهل معنى الابتلاء والامتحان أو على الأقل نجهل

جانباً مهماً وخطيراً من جوانب الابتلاء، إننا عندما نسمع بالابتلاءات التي تحدث

لدعاة الإسلام وعلمائه أو غيرهم كثير في عالمنا اليوم من سجن واضطهاد وتشريد

يتبادر إلى أذهاننا مبلغ العزيمة والصبر الذي يتحلى به أولئك الرجال، ويحضر

أمامنا معنى الابتلاء والتضحية، وحُق لتلك العزائم أن تقدَّر.

لكن الجانب الأخطر والأشد الذي ربما غفل عنه الكثيرون: جانب الابتلاء

بالسراء: النعم، المناصب، الصحة، الشهرة.

حيث إن عدداً ليس قليلاً قد ينجح في الاختبار الأول أعني الضراء لكنَّ

الكثيرين قد ينهزمون في مواجهة الاختبار الثاني أعني السراء ذلك أن الابتلاء

الأول ربما أعطى النفس مبدأ التحدي والمواجهة خشية الرأي العام المؤثر أو غير

ذلك من العوامل التي قد تساعد في الثبات على المبدأ.

أما الابتلاء الثاني فقد يُفقِد النفس عوامل التحدي، ويخترق الذات حيث

الباطن يوافق شيئاً مما تشتهي النفس بعيداً عن هذا وذاك مما تخشاه تلك الروح

البشرية الضعيفة! والنفس والهوى والشيطان ثالوث ينمو في مثل هذه البيئات إن لم

يجد الوقاية الكافية والمكافحة لهذا الوباء الخطير.

ومن هذا الابتلاء وذاك: تُجسِّده لنا تلك النفس الطاهرة في شخصية

الصحابي الجليل كعب بن مالك رضي الله عنه عندما ابتلاه الله هو وصاحبَيْه

لتخلُّفهم عن غزوة تبوك في الحديث المتفق عليه؛ فقد وقع رضي الله عنه أسيراً

بين هذين الابتلاءين: الأول: بالمقاطعة والهجران، والثاني: بالترغيب والتشويق

من ملك من ملوك الأرض في حديث طويل رواه بنفسه؛ حيث قال: «نهى النبي

صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامنا أيها الثلاثة قال: فجعلْتُ أخرج إلى السوق

فلا يكلمني أحد، وتنكَّر لنا الناس حتى ما هُم بالذين نعرف، وتنكَّرت لنا الحيطان

التي نعرف حتى ما هي الحيطان التي نعرف، وتنكَّرت لنا الأرض حتى ما هي

الأرض التي نعرف، وكنت أقوى أصحابي فكنت أخرج فأطوف بالأسواق» .

إنه بلاء يتلوه بلاء، فهل انتهى عند هذا الحد؟ .. «فلمَّا مضت أربعون ليلة

إذا رسول من النبي صلى الله عليه وسلم قد أتاني فقال: اعتزل امرأتك. فقلت:

أطِّلقُها؟ قال: لا، ولكن لا تقربنَّها. فلما طال عليَّ البلاء اقتحمت على أبي قتادة

حائطه وهو ابن عمي فسلَّمت عليه، فلم يردَّ عليَّ، فقلت: أنشدك الله يا أبا قتادة!

أتعلم أني أُحب الله ورسوله؟ فسكت، ثم قلت: أنشدك الله يا أبا قتادة! أتعلم أني

أُحب الله ورسوله؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: فلَمْ أملك نفسي أن بكيت، ثم

اقتحمت الحائط خارجاً» .

ومع شدة البلاء بالضراء كان الصبر واليقين، وفي أثناء هذا الابتلاء لكعب

جاء الابتلاء الثاني الأشد والأنكل..! إنه الابتلاء بالنعمة والثراء؛ حيث يقول:

«فبينا أنا أطوف السوق إذا رجل نصراني جاء بطعام يبيعه يقول: من يدل

على كعب بن مالك؟ فطفق الناس يشيرون له إليَّ، فأتاني بصحيفة من ملك غسان

فإذا فيها: (أما بعد: فإنه بلغني أن صاحبك قد جفاك وأقصاك، ولست بدار

مضيعة ولا هوان؛ فالْحَقْ بنا نواسِكَ) فقلت: هذا أيضاً من البلاء والشر،

فسجرت لها التنور وأحرقتها فيه» .

لم يكن هذا الابتلاء يحتاج إلى مجرد تفكير، بل سارع إلى حسم مادته من

جذورها، وذلك بتسجِيرها لأول وهلة وعدم الجواب على تلك الرسالة؛ فالأمر جد

خطير، والبلاء عظيم، هكذا الصبر والعزيمة.

ولهذا وذاك جاء الفرج: «حتى إذا مضت خمسون ليلة من حين نهى النبي

صلى الله عليه وسلم الناس عن كلامنا صليت على ظَهْر بيت لنا صلاة الفجر، ثم

جلست وأنا في المنزلة التي قال الله عز وجل قد ضاقت علينا الأرض بما رحبت

وضاقت علينا أنفسنا؛ إذ سمعت نداءً من ذروة سَلْع أن أبشر يا كعب بن مالك!

فخررت ساجداً وعرفت أن الله قد جاءنا بالفرج» .

والله يقول جل وتقدس: [وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ]

(الأنبياء: ٣٥) .

وما أجمل ما قاله صاحب الظلال في ظلال هذه الآية: «إن الابتلاء بالخير

أشد وطأة وإن خُيِّل للناس أنه دون الابتلاء بالشر، إن كثيرين يصمدون للابتلاء

بالشر، ولكن القلة القليلة هي التي تصمد للابتلاء بالخير.

كثيرون يصبرون على الابتلاء بالمرض والضعف، ولكنَّ قليلين هم الذين

يصبرون على الابتلاء بالصحة والقدرة، ويكبحون جماح القوة الهائجة في كيانهم

الجامحة في أوصالهم.

كثيرون يصبرون على الفقر والحرمان فلا تتهاوى نفوسهم ولا تذل، ولكنَّ

قليلين هم الذين يصبرون على الثراء والوجدان.

كثيرون يصبرون على التعذيب والإيذاء فلا يخيفهم، ويصبرون على التهديد

والوعيد فلا يرهبهم، ولكنَّ قليلين هم الذين يصبرون على الإغراء بالرغائب

والمناصب والمتاع والثراء» .

فمن منَّا يعي هذه الحقيقة ويبادر إلى الوقاية في الحالين؟ وإن كانت حالة

السراء أشدَّ وآكد، ومن توكل على الله كفاه.