المسلمون والعالم
الحروب الصليبية
بعد ٩٠٠ عام ... هل انتهت؟
بقلم: عبد العزيز كامل
اختارت الدول الأوروبية الواقعة على سواحل البحر الأبيض المتوسط يوم
٢٧ نوفمبر من عام ١٩٩٥م، لكي يكون موعداً لانعقاد مؤتمر موسع في برشلونة
بأسبانيا يضم ١٥ دولة أوربية و١٢ دولة متوسطية من بينهما ٨ دول عربية إضافة
إلى تركيا وقبرص ومالطة و ... ودولة العدو الصهيوني، فهل جاء هذا الموعد في
زمانه ومكانه محض مصادفة؟ ! كلا.. إن هذا الموعد يوافق بالتمام والكمال ذكرى
مرور ٩٠٠ عام على بدء الحروب الصليبية، ففي مثل ذلك اليوم من ذلك الشهر
في عام ١٠٩٥ للميلاد، أطلق بابا النصارى (أوربان الثاني) دعوته لبدء الحملات
الصليبية على البلدان الإسلامية الواقعة شرق البحر الأبيض المتوسط بغرض
الاستيلاء على بيت المقدس.
منذ سنوات قليلة خلت، اختار الأوروبيون ذكرى أخرى لاتخلو من الدلالات
التاريخية، ليعقدوا فيها في إسبانيا أيضاً مؤتمر مدريد، وكان في ذكرى مرور
خمسئة عام على سقوط الأندلس! ومعلوم أن هذا المؤتمر قد دشنت فيه المرحلة
الحاسمة لإسقاط المزيد من شقيقات الأندلس بأنواع أخرى من السقوط. أما
(برشلونة) فإن مؤتمرها المعقود بين الفرقاء التاريخيين لم يعقد من أجل تعاون
اقتصادي، أو سياسي أو عسكري بالدرجة الأولى، بل لم يكن من همومه حل
ماتبقى من مشكلة الشرق الأوسط أو المغرب العربي، بل كان الهم الأول المسيطر
عليه فيما ظهر: إقحام جسم يراد إقحامه في المنطقة العربية بوسائل مباشرة وغير
مباشرة، فقد اتجه المؤتمر إلى تعزيز جهود دول عديدة تتحرى إدخال إسرائيل في
صميم نسيج المنطقة العربية والشرق أوسطية، تمهيداً للتعاقد على إقامة تحالف بين
دول المنطقة، يضمن توزيع المنافع فيها، ويعمل على احتواء ظاهرة الخوف التي
أصبحت الدول في شمال المتوسط تكثر الشكوى منها.
إن أوروبا تريد باختصار أن تحفظ أمن حدودها الجنوبية بأي ثمن، ولكن
ممن؟ ! هل هناك دولة أو نظام واحد في شمال إفريقيا يصرح أو يلمح بتهديد
الجيران الشماليين؟ كلا. ولكن الخوف كل الخوف من انتفاضة الشعوب الإسلامية
التي طالما استعبدها واستذلها الأوروبيون في التاريخ الحديث، وذلك ليس أول
مؤتمر يعقد لهذا الهدف، فقد عقد في إشبيلية بأسبانيا أيضاً مؤتمر في سبتمبر سنة
١٩٩٤م، للغرض نفسه، وبدعوى ضرورة مواجهة المد الإسلامي الذي يهدد
استقرار حوض البحر الأبيض المتوسط. الغريب أن ثلاث دول كاثوليكية تقف
كرأس حربة في حشد التأييد لهذا التوجه، وبالذات فرنسا التي أصرت من دون
دول أوروبا كلها على عدم خفض ميزانيتها الدفاعية، بدعوى تضاعف الأزمات في
حوض البحر الأبيض المتوسط، فليس البروتستانت الإنجليز والأمريكان أو
الصرب الأرثوذكس وحدهم هم الذين يعانون من حمى (الأصولية الإسلامية) ! .
لقد عقد قبل ذلك بشهور، وفي ٩، ١٠ يونيو عام ١٩٩٤م مؤتمر مشابه،
وكان هذه المرة في مدينة اسطنبول التركية، التي كانت عاصمة للخلافة الإسلامية، وشارك في المؤتمر أربعون وزيراً للخارجية والدفاع بالدول الغربية في اجتماعيين
منفصلين، ضم الأول مجلس وزراء حلف الأطلسي، وضم الثاني مجلس تعاون
شمال الأطلسي، الذي يضم كافة الدول الأوروبية الشرقية، والغربية، وشاركت
فيه روسيا أيضاً، وكان محور الاجتماع يدورحول وضع خطة لمواجهة الخطر
القادم الذي يمكن أن يواجه العالم بعد انتهاء الحرب الباردة، وتكررت جلسات
الاجتماع بين الوزراء أعضاء المؤتمر، ثم كُلف أمين عام الحلف (سابقا) (ويلي
كلاوس) بشكل رسمي بإعداد ورقة عمل للحلف تتضمن كيفية مواجهة المد الإسلامي
أو (الأصولية الإسلامية) .
وخلص (ويلي كلاوس) (فيما يبدو) إلى أن (الأصولية) هي أكبر خطر يواجه
الحضارة الغربية، حتى إنه قال لمجلة (زيتونج) الألمانية الصادرة في ٢ فبراير
١٩٩٤م: (إن الأصولية خطيرة كما كانت الشيوعية، ونرجوكم ألاتقللوا من شأن
هذا الخطر) وأضاف: (إن حلف الأطلسي هو أكثر من تحالف عسكري، فقد أخذ
على نفسه أن يدافع عن المبادئ الأساسية للحضارة الغربية) ! وقال في حديث آخر
نشرته مجلة (الإيندبندنت) البريطانية: (إن الخطر الأصولي الإسلامي هو من أهم
التحديات التي تواجه الغرب بعد تفكك الاتحاد السوفيتي والكتلة الشرقية) وقال:
(من واجبنا أن نتعاون مع الدول التي تواجه ذلك النوع من الصعوبات) .
هل هو إذن تحضير لحروب صليبية جديدة؟ ! ألم تنته الحروب الصليبية بعد؟!
ألم يقل القائد (اللنبي) بعد استيلاء الإنجليز على القدس في الحرب العالمية
الثانية وهو واقف على قبر صلاح الدين: (الآن انتهت الحروب الصليبية) ! هل
كان مخطئاً؟ ! يبدو ذلك.
ويبدو أن أوروبا لم تشبع بعد من دماء المسلمين، ولم تكفها سبع أو ثمان
حملات في القرون الوسطى لإشفاء غليلها من المسلمين الموحدين، ولم تشفها
الحملات المعاصرة قبل وبعد الحربيين الكونيتين في النصف الأول من هذا القرن.
بدليل أن صيحاتهم باتت تصم الآذان مبشرة ومنذرة بقيام المزيد من الحروب
الصليبية بين العالم الإسلامي والعالم النصراني.
إن القائد (اللنبي) قال: إن الحروب الصليبية انتهت باستيلاء النصارى على
القدس في القرن العشرين، ولكن جاء الصرب وافتتحوا حملات جديدة، حتى قال
وزير إعلامهم بالحرف الواحد في إعلان شهير له: (إن الصرب في معاركهم في
البلقان، إنما يمثلون طليعة الحرب الصليبية الأخيرة لاستئصال شأفة الإسلام) . إن
العالم قد رأى بعينيه الصلبان تحفر على صدور ورقاب المسلمين في البوسنة، فهل
تستحق هذه الحرب وصفاً آخر غير (الحرب الصليبية) ؟ !
لقد فرغ النصارى من أمر أكثر الدول والأنظمة في العالم الإسلامي تقريباً،
وأقبلوا على الشعوب المسلمة ذاتها، ليناصبوا كل من بقي على الوفاء للدين العداء، و (الأصولية) التي نصبوها عدواً بديلاً بعد سقوط الشيوعية، ماهي إلا تعبير عن
رغبة قطاعات عريضة من الشعوب الإسلامية في العودة لأصول الدين. هذه
الأصولية بهذا المعنى، هي المستهدفة بالحرب الشعواء التي بشر الغرب بقيامها،
ثم باشر البدء فيها فعلاً، أحياناً بالقوة العسكرية، وأحياناً بالمحاصرة الاقتصادية،
وفي أحايين أخرى بالتسلط الدولي (القانوني) المسمى (الشرعية الدولية (ومهما
حاول الصليبيون الجدد ستر أغراضهم وأحقادهم الدينية بالأقنعة السياسية أو
الاقتصادية أو الثقافية، فإن تلك الأقنعة تسقط، ويظهر الوجه الحقيقي للصراع..
الدين.. [ولايزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا] [ودوا لو
تكفرون كما كفروا فتكونون سواء] ، [ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى
حتى تتبع ملتهم] ، [إن يثقفوكم يكونوا لكم أعداء ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم
بالسوء، وودوا لو تكفرون] .
إن القرآن لم يحدثنا عن الأطماع الاقتصادية، أو الأهداف السياسية
والعسكرية أو الحضارية للنصارى واليهود، ولكنه ركز على الأغراض الدينية لهم، أما الأغراض الأخرى فتأتي بالتبع، لقد كانت هتافات الجنود النصارى الزاحفين
على بيت القدس أيام الحروب الأولى (أمر الله ... أمر الله ... إنها إرادة الله)
ولاندري أي واحد من الثلاثة يقصدون! !
وباسم هذا الإله المُدّعى، ذبح النصارى المسلمين العزل وقت دخولهم القدس
في الحملة الصليبية الأولى، حتى بلغ عدد القتلى من المسلمين في ساحات الأقصى
وطرقات المدينة نحو سبعين ألفاً. وتخبرنا الروايات الصليبية نفسها بأطراف من
المأساة، فيروي شاهد العيان (ريمون داجيل) في رواية موثقة لدى أدعياء
(المسيحية السمحة) طرفاً من الحدث، يقول: (وقعنا على مشاهد لم يسبق لها مثيل، فقد قتل عدد كبير من أبناء المدينة، فكانوا يُرمون بالنبال، أو يجبرون على القفز
جماعات من فوق الأسوار، كما عذب بعضهم قبل أن يرموا في النار، شوارع
المدينة كانت مليئة بالرؤوس والأيدي والأرجل، وكان الجنود في كل مكان يسيرون
فوق الجثث، لقد كانت مجزرة رهيبة بعدها كنا نسير في بحيرات من الدم، لقد
نهب الصليبيون حتى ارتووا) ! ورصد التاريخ الإسلامي الحدث ذاته بكثير من
التفصيل والدقة، سردها ابن الأثير في كتابه (الكامل) (ج١ ص ١٩٤) ، وذكر أن
المذبحة استمرت طوال يوم الدخول وليلته، واقتحم النصارى المسجد الأقصى في
صباح اليوم التالي، وأجهزوا على من احتموا فيه، وصبغت ساحات المسجد بدماء
العباد والزهاد الركع السجود، وتوجه قائد الحملة (ريموند) في الضحى لدخول
ساحة المسجد، متلمساً طريقه بين الجثث والدماء التي بلغت ركبته، وكان النظر
لايقع إلا على أكوام من الرؤوس والأيدي والأقدام المقطعة في الطرقات والساحات،
نهب النصارى جميع الأمتعة وخربوا أثاث المسجد الأقصى وقبة الصخرة، ونهبوا
القناديل التي بلغت نيفاً وأربعين قنديلاً، كل قنديل وزنه ثلاثة آلاف وستمائة درهم، وأخذوا نيفاً وعشرين قنديلاً من ذهب) .
هذا ما حفظته ذاكرة التاريخ عن اليوم الذي أرادوا أن يكون عيداً يحتفل به
المسلمون مع النصارى.. على أنقاض أرض الأندلس الضائعة، بل ليتهم أرادوا
الاحتفال بالذكرى فحسب، بل أرادوا أن يجعلوها بداية انطلاق بالتعاون مع بعض
الخائنين من بني جلدتنا لبدء رحلة جديدة من الحروب الصليبية.. وقبل ذلك
بالتعاون مع العدو القديم اليهود الذين أصبحوا اليوم أصدق أصدقاء النصارى
الصليبيين، وأخلص معاونيهم، حتى إن الغرب النصراني كله قد أجمع على
تحويل الأرض المقدسة إلى ترسانة ضخمة من الأسلحة النووية والكيمائية
والجرثومية الموجهة إلى صدور كل شعوب المنطقة الإسلامية، وإن دولة اليهود
(إسرائيل) هي (حصان طروادة) جديد، حشوه اليهود، ولكن يعتليه النصارى
ويوجهونه، واليهود يعرفون دورهم هذا تماماً، وهم يعلمون أن النصارى يدخرونهم
ليوم معلوم قد يحاول المسلمون فيه استعادة كرامتهم ومقدساتهم.
ولهذا فإن المراقب المسلم لايمكنه أن يتجاهل الدور اليهودي في التبشير
بالصراع القادم ودق الطبول للحرب المرتقبة، وتصريحاتهم القديمة في ذلك كثيرة
ومتواترة، ولايزال قادتهم يرددون وبقوة أشد التحذيرات والصيحات والنذر من
خطورة عودة الروح إلى الإسلامية على يد دعاة (الأصولية) . قال حاييم هيرتزوج
الرئيس الإسرائيلي السابق أثناء زيارة قام بها لبريطانيا عام ١٩٩٣م (إن الأصولية
الإسلامية هي الخطر الأكبر على العالم الحر) . وكان الهالك إسحاق رابين قد كرس
جهده لمحاربة المد الإسلامي في المنطقة وكانت محور اهتمامه في داخل الكيان
الصهيوني وخارجه، وقد قال في مؤتمر لاتحاد المنظمات اليهود في الولايات
المتحدة (إيباك) في إبريل ١٩٩٣م (إننا نريد التأكد من أن الرئيس كلينتون وفريقه
يدركان تماما خطر الأصولية الإسلامية والدور الحاسم الإسرائيلي في محاربتها)
واستطرد قائلاً: (إن مقاومتنا ضد الإرهابيين المسلمين القتلة مقصود منها أيضاً
إيقاظ العالم الذي يرقد في سبات عميق، على حقيقة أن هذا خطر جاد وحقيقي يهدد
السلام العالمي، والآن نقف نحن الإسرائيليين في خط النار الأول ضد الإسلام
الأصولي، ونحن نطالب كل الدول وكل الشعوب أن يكرسوا انتباههم إلى الخطر
الضخم الكامن في الأصولية الإسلامية) .
وتترجم هذه الصيحات اليهودية إلى برامج عملية، فبعد سيطرة الأغلبية
اليهودية الأمريكية على الكونجرس الأمريكي، برزت تلك السياسة أكثر فأكثر وقدم
(بنوت جنجريتش) رئيس مجلس النواب الأمريكي عرضاً شاملاً للسياسة المقترحة
لمواجهة الأصولية في العالم، في جلسة عقدت في واشنطن، وضمت مايزيد على
٤٠٠ من كبار الخبراء في الشؤون الأمنية والعسكرية وقدم خطة من أربع بنود
تحول في مجملها دون نجاح أي محاولة للنهوض الإسلامي، وبخاصة في منطقة
الشرق الأوسط.
وقال بالحرف الواحد أمام هذا المؤتمر: الأصولية تعني إعلان الحرب على
الحضارة الحالية للعالم، وعلينا التعامل مع هذا الموقف على أنه حرب معلنة) ! !
إذن يا (جينجرتش) فالحرب الصليبية على الإسلام الأصولي أصبحت بشكل
رسمي معلنة، وأنتم في الغرب تديرون معركتها، فمن يدير معركتنا..؟ ! ! .