للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

دراسات في الشريعة والعقيدة

[الإجماع.. حقيقته وحجيته]

محمد عبد العزيز الخضيري

تعريف الإجماع لغة:

هو لفظٌ مشترك يطلق على معنيين في اللغة [١] :

الأول: العزم على الشيء، يقال: أجمع فلان على السفر: إذا عزم عليه،

ومنه قوله تعالى: [فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ] [يونس: ٧١] .

الثاني: الاتفاق، يقال: أَجْمعَ القوم على كذا: أي اتفقوا عليه.

وكلا المعنيين مأخوذ من الجمع؛ فإن العزمَ فيه جمعُ الخواطر، والاتفاقَ فيه

جمعُ الآراء [٢] .

واختلف الأصوليون في تعريف الإجماع اصطلاحاً تبعاً لاختلافهم في كثير من

مسائل الإجماع المتعلقة بأركانه وشروطه وأحكامه.

التعريف المختار:

الإجماع: هو اتفاق مجتهدي الأمة، بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-

في عصر على أي أمر كان [٣] .

شرح التعريف وذكر محترزاته:

اتفاق: ومعناه الاشتراك في الرأي أو الاعتقاد، سواء دَلّ عليه الجميع

بأقوالهم جميعاً، أم بأفعالهم جميعاً، أم بقول بعضهم وفعل بعض - وهذا كله يسمى

بالإجماع الصريح -، أم بقول بعض أو فعله مع سكوت بعض آخر - وهذا يسمى

بالإجماع السكوتي -، وبهذا يكون التعريف شاملاً لقسمي الإجماع: الصريح

والسكوتي.

مجتهدو الأمة: المجتهد: هو الذي يبذل وُسْعَه في طلب الظن بحكم شرعي

على وجه يُحِسّ معه بالعجز عن المزيد عليه.

والأمة: هي الطائفة من الناس تجمعها رابطة، والمراد بها: أمة محمد -

صلى الله عليه وسلم-، أي: أتباعه المؤمنون به في أي زمان، وهم أمة الإجابة لا

أمة الدعوة.

وقد خرج بـ (اتفاق مجتهدي الأمة) :

١- اتفاق المقلدين والعوامّ؛ فإنه لا يعد إجماعاً شرعياً.

٢- اتفاق بعض المجتهدين؛ فإنه لا يعد إجماعاً.

٣- اتفاق مجتهدي غير هذه الأمة [٤] .

بعد وفاة الرسول -صلى الله عليه وسلم-: خرج به اتفاقهم في حياته فإنه لا

عبرة به، قال الآمدي: (وإجماع الموجودين في زمن الوحي ليس بحجة في زمن

الوحي بالإجماع، وإنما يكون حجة بعد النبي -صلى الله عليه وسلم-) [٥] .

في عصر: والمراد به الاتفاق في أي عصر كان، فدخل بهذا القيد: اتفاق

المجتهدين في أي زمان كان، سواءً كان في زمن الصحابة أم من بعدهم [٦] .

وفي هذا دفعُ توهّم أن الإجماع لا يتحقق إلا باتفاق المجتهدين في جميع

العصور، وهو محال [٧] .

(على أي أمرٍ كان) : المراد به الحكم الذي اتفق عليه المجتهدون، ويشمل:

١- الأمر الديني: كأحكام الصلاة، وتفسير آيةٍ أو حديثٍ.

٢- الأمر الدنيوي: كترتيب الجيوش والحروب، وتدبير أمور الرعية.

٣- الأمر العقلي: كحدوث العالم.

٤- الأمر اللغوي: ككون الفاء للترتيب والتعقيب [٨] .

وفي بعض التعريفات خُصّ الأمر المتفق عليه: بالأمر الديني [٩] ، ويمكن

التوفيق بين من عمم ومن خصص بأن يقال:

إن المُعمّم قصد بالأحكام الدنيوية أو اللغوية أو العقلية: الأحكام التي يتعلق بها

حكم شرعي، فيكون الإجماع حينئذٍ ليس مقصوداً لذاتها بل لما يلزم منها.

وأما من خصص فمراده من الأمور الدينية ما هو أعم من الأحكام الشرعية،

وما يستلزمها.

مكانة الإجماع ومرتبته:

الإجماع حق مقطوع به في دين الله - عز وجل - وأصل عظيم من أصول

الدين، ومصدر من مصادر الشريعة، مستمد من كتاب الله الكريم، وسنة رسوله -

صلى الله عليه وسلم-، وتالٍ في المنزلة.

قال القاضي أبو يعلى - رحمه الله -: (الإجماع حجة مقطوع عليها، يجب

المصير إليها، وتحرم مخالفته، ولا يجوز أن تجتمع الأمة على الخطأ) [١٠] .

وقال ابن حزم - رحمه الله -: (الإجماع قاعدة من قواعد الملة الحنيفية،

يُرْجع إليه، ويُفْزَعُ نحوه، ويكفر من خالفه، إذا قامت عليه الحجة أنه

إجماع) [١١] .

ولذلك كان حتماً على الطالب للحق، المتبع لسبيل جماعة المؤمنين، المبتعد

عن مشاقّة الله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-: أن يعرف ما أجمع المسلمون عليه

من مسائل الشريعة العلمية والعملية، ليستن بسلفه الصالح، ويسلك سبيلهم، ولئلا

يقع في عداد من اتبع غير سبيل المؤمنين، فيحق عليه الوعيد المحكم في قوله -

جل ذكره -: [وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ

المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً] [النساء: ١١٥] .

قال ابن حزم - رحمه الله -: (ومن خالفه - أي الإجماع - بعد علمه به، أو

قيام الحجة عليه بذلك، فقد استحق الوعيد المذكور في الآية) [١٢] .

وستأتي في ذكر حجية الإجماع الأدلة التي يتضح بها مكانه من الدين.

أما مرتبة الإجماع فإنها تلي مرتبة الكتاب والسنة، وهذا هو مذهب السلف

الصالح؛ كما قرر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله - مستدلاً على ذلك بما

ثبت عنهم من الآثار، ومن ذلك:

١- ما جاء في كتاب عمر - رضي الله عنه - إلى شريح - رحمه الله -

حيث قال له: (اقض بما في كتاب الله، فإن لم تجد فبما في سنة رسول الله -صلى

الله عليه وسلم-، فإن لم تجد فبما قضى به الصالحون قبلك) ، وفي رواية: (فبما

أجمع عليه الناس) [١٣] .

٢- ما ورد عن ابن مسعود - رضي الله عنه - أنه قال: (قدّم الكتاب ثم

السنة ثم الإجماع) [١٤] .

٣- وكان ابن عباس يفتي بما في الكتاب، ثم بما في السنة، ثم بسنة أبي

بكر وعمر [١٥] ، لقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: (اقتدوا باللذيْن من بعدي: أبي بكر وعمر) [١٦] .

قال شيخ الإسلام: (وهذه الآثار ثابتة عن عمر وابن مسعود وابن عباس،

وهم من أشهر الصحابة بالفتيا والقضاء، وهذا هو الصواب) [١٧] .

وقد نعى شيخ الإسلام على بعض المتأخرين الذين قالوا: يبدأ المجتهد بأن

ينظر أولاً في الإجماع، فإن وجده لم يلتفت إلى غيره، وإن وجد نصاً خالفه اعتقد

أنه منسوخ بنص لم يبلغه، كما نعى - أيضاً - على الذين يقولون: إن الإجماع

نفسه ينسخ النص، وخطّأ هذا الرأي، واختار طريقة السلف لأنها الصواب [١٨] .

يقول شيخ الإسلام: (فلما انتهت النّوبة إلى المتأخرين ساروا عكس هذا السير، وقالوا: إذا نزلت النازلةُ بالمفتي أو الحاكمِ فعليه أن ينظر أولاً: هل فيها اختلاف

أم لا؟ فإن لم يكن فيها اختلاف لم ينظر في كتاب ولا سنة، بل يفتي ويقضي فيها

بالإجماع، وإن كان فيها اختلاف اجتهد في أقرب الأقوال إلى الدليل فأفتى به،

وحكم به، وهذا خلاف ما دل عليه حديث معاذ [١٩] ، وكتاب عمر، وأقوال

الصحابة ... ) [٢٠] .

وبيّن - رحمه الله - أن معرفة النصوص والاطلاع عليها أسهل بكثير من

معرفة الإجماع؛ فلعل الناس اختلفوا وهو لا يعلم. وعدم العلم بالنزاع ليس علماً

بعدمه، وإذا كان الأمر كذلك فكيف نحالُ على شيء شاق، ولدينا ما هو أيسر منه

وأدل على الحق؟ [٢١] .

كما بيّن أيضاً أنه (حين نشأت هذه الطريقة تولد عنها معارضة النصوص

بالإجماع المجهول، وانفتح باب دعواه، وصار من لم يعرف الخلاف من المقلدين

إذا احتُجّ عليه بالقرآن والسنة قال: هذا خلاف الإجماع، وهذا هو الذي أنكره أئمة

الإسلام، وعابوا من كل ناحية على من ارتكبه، وكذبوا من ادعاه) [٢٢] .

لكن العلماء - رحمهم الله - يقدمون الإجماع القطعي - كالإجماع على المعلوم

بالضرورة من الدين - على النص؛ لأن واقع الأمر أنه تقديم للنصوص القطعية

الثبوت والدلالة على النصوص الظنية الثبوت أو الدلالة؛ لا أنه تقديم للإجماع على

النص، وهذا - كما يقول بعض العلماء - لاخلاف فيه [٢٣] .

قال شيخ الإسلام: (الإجماع نوعان) :

قطعي: فهذا لا سبيل إلى أن يُعلم إجماع قطعي على خلاف النص.

وأما الظني: فهو الإجماع الإقراري والاستقرائي، بأن يستقرئ أقوال العلماء

فلا يجد في ذلك خلافاً، أو يشتهر القول في القرآن ولا يَعْلم أحداً أنكره، فهذا

الإجماع وإن جاز الاحتجاج به، فلا يجوز أن تُدْفع النصوصُ به؛ لأن هذا حجة

ظنية لا يجزم الإنسان بصحتها؛ فإنه لا يجزم بانتفاء المخالف، وحيث قطع بانتفاء

المخالف فالإجماع قطعي، وأما إذا كان يظن عدمَه، ولا يقطع به، فهو حجة ظنية، والظني لا يُدفع به النصّ المعلوم؛ لكن يُحتجّ به، ويُقدّم على ما هو دونه بالظن، ويُقدّم عليه الظنّ الذي هو أقوى منه، فمتى كان ظنّه لدلالة النص أقوى من ظنه

بثبوت الإجماع قدّم دلالة النص، ومتى كان ظنه للإجماع أقوى قدم هذا. والمصيبُ

في نفس الأمر واحد) [٢٤] .

أهم فوائد الإجماع:

وبعد هذا التقرير لمكانة الإجماع في الدين، يحسن أن أذكر أهم فوائد الإجماع

التي ذكرها أهل العلم، وكان من دواعي ذكر هذه الفوائد: الإجابة عن تساؤل

ينقدح في الذهن عن مدى فائدة الإجماع والجديد فيه، مع القول بأن من شروط

الإجماع الثابتة أنه لا بد أن يستند الإجماع إلى دليل من الكتاب والسنة، وأنه لا

يمكن أن تجتمع الأمة على خلاف النصوص، كما أنه لا يمكن أن يكون الإجماع

ناسخاً لنص؟

وقد أجاب العلماء على هذا؛ فذكروا أهم فوائد الإجماع [٢٥] ، وهذا ملخص

ما سطروه:

الفائدة الأولى: الإجماع على المعلوم من الدين بالضرورة يُظهِرُ حجم الأمور

التي اتفقت فيها الأمة؛ بحيث لا يستطيع أهلُ الزيغ والضلال إفساد دين المسلمين.

ومن طالع حال الأمم السابقة، من أهل الكتاب وغيرهم، في اختلافهم في أصول

دينهم العلمية والعملية علم النعمة العظيمة التي اختُصّت بها هذه الأمة؛ حيث أجمع

أئمة الدين على مئات من الأصول بَلْهَ الفروع؛ بحيث لا يخالف فيها أحد من

المسلمين، ومن خالف بعد العلم: حُكِم عليه بما يقتضيه حاله من كفر أو ضلال

وفسق.

الفائدة الثانية: العلمُ بالقضايا المجمع عليها من الأمة يعطي الثقة التامة بهذا

الدين، ويؤلّف قلوبَ المسلمين، ويسدّ الباب على المتقوّلين الذين يزعمون أن الأمة

قد اختلفت في كل شيء؛ فكيف يجمعها جامعٌ، أو يربطها رابط؟ !

الفائدة الثالثة: أنه قد يخفى النصّ الدالّ على حكم مسألة بعينها على بعض

الناس، ويُعلم الإجماع الذي قد تقرر أنه لا بد أن يستند إلى نص، فيُكتفى به في

النقل والاستدلال.

الفائدة الرابعة: أن السند الذي يقوم عليه الإجماع قد يكون ظنياً، فيكون

الإجماع عليه سبباً لرفع رتبة النص الظنية والحكم المستنبط منه إلى رتبة القطع؛

لأنه قد دلّ الإجماع على أنه لا خبر عن النبي -صلى الله عليه وسلم- يخالف ما

أجمعوا عليه.

الفائدة الخامسة: تحتملُ النصوصُ في جملتها التأويلَ والتخصيصَ والتقييدَ

والنسخَ وغيرَ ذلك، فإذا كانت هي المرجعَ وحدها كَثُرَ الخلاف بين الأئمة

المجتهدين الذين يستنبطون الأحكام منها؛ لاختلاف المدارك والأفهام، فإذا وُجد

الإجماعُ على المراد من النص ارتفعت الاحتمالات السابقة، واتقى المجتهدون بذلك

متاعبَ الخلافِ والنظرِ والاستنباط.

الفائدة السادسة: أن بعضَ نصوصِ السنة التي هي من مستند الإجماع قد

يكون مختلفاً في صحتها، فيكون الإجماع على مضمونها قاطعاً للنزاع الناشئ من

اختلافهم في تصحيحها.

الفائدة السابعة: التشنيع على المخالفين بالجُرأة على مخالفة الإجماع، فيكون

ذلك سبباً قوياً لزجرِ المخالف؛ لئلا يتمادى في باطله بعد أن يعلم أن الأمة مجمعة

على خلاف مقالته. قال ابن حزم رحمه الله: (مال أهلُ العلم إلى معرفة الإجماع؛

ليعظّموا خلافَ من خالفه، وليزجروه عن خلافه، وكذلك مالوا إلى معرفةِ اختلاف

الناس؛ لتكذيب من لا يبالي بادعاء الإجماع جُرْأة على الكذب، حيث الاختلاف

موجود، فيردعونه بإيراده عن اللجاج في كذبه) [٢٦] .

الفائدة الثامنة: الإجماع دليلٌ يؤكد حكم المسألة، ويكثّر أدلتها؛ فقد تدل جملة

من الأدلة على حكم مسألة من المسائل فيكون الإجماع مكثراً لها موثقاً لما جاء

فيها [٢٧] .

حجية الإجماع:

إن مما فضل الله به هذه الأمة، وميزها به على سائر الأمم: أن إجماع

علمائها على أمر من أمور دينها معصومٌ من الزلل والخطأ؛ ليحفظ الله سبحانه

بسبب إجماعهم الشريعة من كيد الكائدين، وتحريف الضالين [٢٨] .

وقد اتفق أهل العلم على أن الإجماع حجة شرعية يجب اتباعها والمصير

إليها [٢٩] .

قال ابنُ حزمٍ رحمه الله: (اتفقنا نحن وأكثر المخالفين لنا على أن الإجماع من

علماء أهل الإسلام حجة، وحجةٌ مقطوع بها في دين الله عز وجل) [٣٠] . وقال

شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (أما إجماع الأمة فهو حق، لا تجتمع الأمة ولله

الحمد على ضلالة) [٣١] .

الأدلة على حجية الإجماع:

الدليلُ على ثبوت الإجماع إنما هو دليل الشرع لا العقل [٣٢] ومن الأدلة

على كون الإجماع حجة:

الدليل الأول: قوله الله - تعالى -: [وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ

لَهُ الهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً]

[النساء: ١١٥] [٣٣] .

وجه الاستدلال من الآية:

أن معنى مشاقّة الرسول -صلى الله عليه وسلم-: منازعته ومخالفته فيما جاء

به عن ربه. ومعنى [سَبِيلِ المُؤْمِنِينَ] : ما اختاروه لأنفسهم من قول أو فعل أو

اعتقاد؛ لأن سبيل المؤمنين مفرد مضاف فيعم هذه كلّها، وقد جعل الله كلاً من

المشاقة واتباع غير سبيل المؤمنين موجباً للعقاب؛ لأنه عطف بعضها على بعض

بالواو المفيدة للتشريك في الحكم، فيلزم أن يكون اتباعُ غير سبيل المؤمنين محرّماً

، كما حرمت مشاقة الرسول -صلى الله عليه وسلم-؛ إذ لو لم يكن محرماً لما جمع

بين الحرام والمباح في الوعيد، وإذا حَرُمَ اتّباع غير سبيل المؤمنين وجب تجنّبه إلا

باتباع سبيلهم؛ لأنه لا واسطة بينهما، ولزم من وجوب اتباع سبيلهم كون الإجماع

حجة [٣٤] .

الدليل الثاني: قوله - جل ذكره -: [وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُوا

شُهَدََاءََ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً] [البقرة: ١٤٣] .

وجه الاستدلال بهذه الآية من جهتين [٣٥] :

الأولى: أن الله - تبارك وتعالى - عدّلهم بقبول شهادتهم، ولما كان قول

الشاهد حجة يجب العمل بمقتضاه - إذ لا معنى لقبول شهادته إلا كون قوله حجة -

فيدل هذا على أن إجماع الأمة حجة يجب العمل بمقضاه وهو المطلوب.

الثانية: أنه - تعالى - جعل شهادتهم حجةً على الأمم السابقة في الآخرة،

كما جعل شهادة الرسول -صلى الله عليه وسلم- حجة علينا حينئذٍ، فيكون قولهم في

الأحكام في الدنيا حجة أيضاً، قياساً على قولهم في الآخرة؛ لأنه لا معنى لكون

الإجماع حجةً سوى كون أقوالهم حجةً على غيرهم.

الدليل الثالث: قوله - جل وعلا -: [كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَاًمُرُونَ

بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ] [آل عمران: ١١٠] .

وجه الدلالة من جهتين [٣٦] :

الأولى: أن (الألف واللام) إذا دخلت على اسم جنس دل على العموم، وعلى

ذلك تكون الآية إخباراً من الله - سبحانه - عن أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-

بأنهم يأمرون بكل معروف، وينهون عن كل منكر، وصِدْقُ خبر الله - تعالى -

يستلزم أنهم إن نهوا عن شيء علمنا أنه منكر، وإذا أمروا بشيء علمنا أنه معروف، فكان نهيهم وأمرهم حجة يجب اتباعه.

الثانية: أن النهاية في الخيرية الموصوفة بها الأمة - المستفادة من لفظ (خير)

الذي هو بوزن أفعل [٣٧]- تقتضي أن يكون ما أجمعوا عليه حقاً؛ لأنه لو لم يكن

حقاً لكان ضلالاً؛ لأنه ليس بعد الحق إلا الضلال، والحق واجبُ الاتباع، فيكون

إجماعهم على الحق واجبَ الاتباع.

الدليل الرابع: قوله - تبارك وتعالى -: [يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ

وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إلَى اللَّهِ

وَالرَّسُولِ] [النساء: ٥٩] .

وجه الدلالة: أن الله - سبحانه - شرط لوجوب الرد إلى الكتاب والسنة

وجود التنازع، فدل ذلك على أنهم إذا لم يتنازعوا لم يجب الرد، وأن الاتفاق منهم

كافٍ حينئذٍ عن الرد إلى الكتاب والسنة، ولا معنى لكون الإجماع حجة إلا

هذا [٣٨] .

الدليل الخامس: جملة الأحاديث الدالة على لزوم الجماعة، وتعظيم شأنها،

والإخبار بعصمتها عن الخطأ، ومنها:

١- قوله -صلى الله عليه وسلم-: (لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على

الحق حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون) [٣٩] .

٢- وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (من فارق الجماعة قِيدَ شبر فقد خلع

رِبقة الإسلام من عنقه) [٤٠] .

٣- وقوله -صلى الله عليه وسلم-: (من فارق الجماعة مات مِيتَةً

جاهليةً) [٤١] .

ووجه الاستدلال بهذه الأحاديث وغيرها من وجوه [٤٢] :

أولها: هذه الأحاديث ونحوها، وإن لم يتواتر كلّ واحدٍ منها لفظاً إلا أن القدر

المشترك بينها - وهو عصمة الأمة - متواتر فيها؛ لوجوده في كل منها، وإذا ثبت

عصمة الأمة تواتراً كان دليلاً على حجية الإجماع.

ثانيها: أن هذه الأحاديث لم تزل ظاهرةً مشهورةً بين الصحابة والتابعين،

يتمسكون بها في إثبات حجية الإجماع، ولم يظهر من السلف والخلف من يدفعها أو

ينكرها، وهذا التوافق من أهل الأعصار المتعاقبة على قبولها دليلٌ على صحتها؛

لأنه من المستحيل عادة توافق الأمم في عصور مختلفة على قبول ما لم يقم الدليل

على صحته؛ خاصة إذا كان مثبتاً لأصل من أصول التشريع.

ثالثها: أن المحتجين بهذه الأحاديث قد أثبتوا بها الإجماع الذي هو أصل

مقطوع به. ومن المعلوم أنه من المستحيل قبول دليل كالإجماع إلا إذا كان مستنداً

إلى دليل قطعي [٤٣] .

وقد دلت هذه النصوص على أمرين مهمين:

الأول: أنها أفادت أن العصمة ثابتة للأمة دون اشتراط عدد معين، بل إن

أهل الإجماع متى ثبت اتفاقهم وجب اتباع قولهم، وثبتت العصمة لهم، وبناءً على

ذلك فلا يشترط لصحة الإجماع أن يبلغ المجمعون عدد التواتر؛ لأن الدليل الشرعي

لم يشترط ذلك، بل إنه علّق العصمة على الإجماع والاتفاق فقط.

الثاني: أن هذه النصوص تدل على أن الإجماع حجة ماضية [٤٤] في جميع

العصور، سواء في ذلك عصر الصحابة أم عصر من بعدهم. ولا يصح حصر

حجية الإجماع في عصر الصحابة دون غيرهم؛ لأن أدلة حجية الإجماع عامة

مطلقة، وتخصيصُ تلك الأدلة أو تقييدها من غير دليل شرعي معتبرٍ مردودٌ غيرُ

مقبول.


(١) انظر في المعنى اللغوي: الصحاح ٣/١١٩٨، ومعجم مقاييس اللغة ١/ ٤٧٩.
(٢) انظر: شرح مسلم الثبوت، ٢/٢١١.
(٣) هذا تعريف ابن السبكي في كتابه: (جمع الجوامع، ١/١٧٦ مطبوع مع حاشية البناني) وقد اختاره كثيرون.
(٤) انظر: التمهيد لأبي الخطاب، ٣/٢٥٠، والإحكام للآمدي، ١/١٩٥، ١٩٦.
(٥) الإحكام للآمدي، ١/١٠٩.
(٦) انظر: الإحكام للآمدي، ١/١٩٦.
(٧) انظر: الإحكام للآمدي، ١/١٩٦، وحاشية البناني على المحلي، ١/ ١٧٦.
(٨) انظر: حاشية البناني على المحلي، ١/١٧٦، وإرشاد الفحول، ص ٧١.
(٩) كما فعل الغزالي حيث قال: (على أمر من الأمور الدينية) ، المستصفى، ١/١٧٣.
(١٠) العُدة، ٤/١٠٥٨.
(١١) مراتب الإجماع لابن حزم، ص ٧.
(١٢) النبذ في أصول الفقه لابن حزم، ص ٣٨.
(١٣) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، ٧/٢٤٠، والبيهقي، ١٠/١١٥، والنسائي، ٨/٢٣١.
(١٤) أخرجه بنحوه عبد الرزاق في مصنفه، ٨/٣٠١، والنسائي، ٨/ ٢٣٠، والبيهقي،
١٠/١١٥، وابن أبي شيبة، ٧/٢٤١، ٢٤٢.
(١٥) أخرجه ابن أبي شيبة في المصنف، ٧/٢٤٢، والبيهقي، ١٠/١١٥.
(١٦) أخرجه أحمد، ٥/٣٨٢، والترمذي، ٥/٦١٠، وابن ماجة ١/٣٧.
(١٧) مجموع الفتاوى، ١٩/٢٠١.
(١٨) انظر: الفتاوى، ٩/٢٠٠، ٢٠١.
(١٩) لفظه: (لما بعث رسول الله معاذاً إلى اليمن قال له: بِمَ تقضي؟ قال: أقضي بكتاب الله،
قال: فإن لم تجد؟ قال: بسنة رسول الله قال: فإن لم تجد) الحديث، رواه أحمد٥/٢٣٠، ٢٤٢، وأبو داود الطيالسي في مسنده (منحة المعبود ١/٢٨٦) .
(٢٠) نقله عنه ابن القيم في إعلام الموقعين، ٢/٢٣٧.
(٢١) نقله عنه ابن القيم في إعلام الموقعين، ٢/٢٣٧.
(٢٢) نقله عنه ابن القيم في إعلام الموقعين، ٢/٢٣٨.
(٢٣) انظر: نظرة في الإجماع الأصولي، ص ٧٧.
(٢٤) مجموع الفتاوى، ١٩/٢٦٨.
(٢٥) انظر في هذه الفوائد: الفتاوى، ١٩/١٩٥، وكتاب نظرة في الإجماع الأصولي، ص ٧٣، وما بعدها، وغالب هذه الفوائد مستفاد منه، وكتاب علم أصول الفقه لأحمد إبراهيم، ص ٨٥.
(٢٦) الإحكام، ١/٥٠٦.
(٢٧) انظر: الفتاوى، ١٩/١٩٥.
(٢٨) انظر: حجية الإجماع، ص ٤٥، وفي المسألة خلاف، قال الزركشي في البحر المحيط،
٤/٤٤٩: (والسرّ في اختصاص هذه الأمة في الصواب في الإجماع: أنهم الجماعة بالحقيقة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- بعث إلى الكافة، والأنبياء قبله إنما بُعث النبي لقومه، وهم بعض من كل، فيصدق على كل أمة أن المؤمنين غير منحصرين فيهم في عصر واحد، وأما هذه الأمة فالمؤمنون منحصرون فيهم، ويد الله مع الجماعة، فلهذا والله أعلم خَصّها بالصواب) .
(٢٩) انظر: جماع العلم، ص ٥١، ومجموع الفتاوى، ١١/٣٤١، هذا، وقد خالف في حجية الإجماع من لا يُعتدُ بخلافه كبعض الخوارج وبعض الرافضة وبعض النظامية، وهم أتباع النظام المعتزلي، وقد نسب هذا القول إليه أيضاً، قال في مسلم الثبوت، ٢/٢١٣: (الإجماع حجة قطعاً عند الجميع، ولا يعتدّ بشرذمةٍ من الخوارج والشيعةِ؛ لأنهم حادثون بعد الاتفاق) .
(٣٠) الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم، ٤/١٢٨.
(٣١) الفتاوى، ١٩/١٧٦.
(٣٢) شرح الكوكب المنير، ٢/٢١٤.
(٣٣) أول من استدل بهذه الآية: الشافعي، ثم تبعه الناس على الاستدلال بها.
(٣٤) انظر في هذا الدليل: أحكام القرآن للشافعي، ٣٩، والعدة لأبي يعلى، ٤/١٠٦٤.
(٣٥) انظر: العدة لأبي يعلى، ٤/١٠٧٠، والفقيه والمتفقه، ١/١٦٠.
(٣٦) انظر: الإحكام للآمدي، ١/٢١٤، والفتاوى، ١٩/١٧٦.
(٣٧) لأن أصلها: (أخير) وحذفت الهمزة لكثرة الاستعمال.
(٣٨) انظر: الإحكام للآمدي، ١/٢١٨، والفتاوى، ١٩/٩١.
(٣٩) رواه البخاري، ١٣/٢٩٣.
(٤٠) أخرجه أحمد عن أبي ذر - رضي الله عنه -، ٥/١٨٠، وأبو داود، ٢/٥٤٢، باب قتل الخوارج.
(٤١) رواه البخاري، ٩/٧٨، ومسلم، ٣/١٤٧٥.
(٤٢) انظر: العدة لأبي يعلى، ٤/١٠٨١، والمستصفى، ١/١٧٦.
(٤٣) ثمة أدلة عقلية استدل بها على حجية الإجماع، لم أشأ أن أطيل بذكرها، اكتفاء بأدلة الكتاب والسنة لظهورها، وقوة دلالتها على المقصود، هذا فضلاً عن كون الإجماع ثبت بدليل الشرع لا العقل.
(٤٤) نقل عن الإمام أحمد مقولته المشهورة: (من ادعى الإجماع فهو كاذب) وليس مراده بها نفي وقوع الإجماع أو حجيته قطعاً؛ لكون الإمام يحتج به، ويستدل به في كثير من الأحيان، وقد حملها العلماء على عدة أوجه، ومن أحسنها: أنه قال ذلك على سبيل الورع، لجواز أن يكون هناك خلاف لم يبلغه، أو أنه قال ذلك في حق ليس له من معرفة بخلاف السلف، ويدل لذلك تتمة كلامه السابق حيث يقول: (من ادعى الإجماع فهو كاذب، لعل الناس اختلفوا، هذه دعوى بشر المريسي والأصم، ولكن يقول: لا نعلم الناس اختلفوا، إذا هو لم يبلغه) أي إذا لم يبلغه في المسألة خلاف، وقال
أيضاً: (كيف يجوز للرجل أن يقول: أجمعوا؟ إذا سمعتهم يقولون أجمعوا فاتهمهم لو قال: إني لا أعلم مخالفاً جاز) وقال مرة: (هذا كذب؛ ما أعلمه أن الناس مجمعون؟ ولكن يقول: لا أعلم فيه اختلافاً فهو أحسن من قوله: إجماع الناس) وهذه الروايات توضح بجلاء مراد الإمام أحمد من مقالته تلك قال ابن القيم: (وليس مراده - أي الإمام أحمد - استبعاد وجود الإجماع، ولكن أحمد وأئمة الحديث بُلوا بمن كان يرد عليهم السنة الصحيحة بإجماع الناس على خلافها) انظر: المسودة،
ص ٣١٦، ومجموع الفتاوى، ١٩/٢٧١، ٢٠/ ٢٤٧، ومختصر الصواعق، ص ٥٠٦.