للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

خواطر في الدعوة

[بين القوة والضعف]

أبو أنس

من السهولة على كثير من الناس معرفة الخير والشر، فإن الفرق بينهما

واضح لكل ذي فطرة سليمة، بل إن اتباع الخير أيسر على النفس من تعمد الشر،

ولكن معرفة خير الخيرين واتباع أعلاهما، ومعرفة شر الشرين والسكوت أو

الاضطرار لفعل أدناهما دفعاً لأعلاهما فهذا هو الفقه الدقيق الذي يحتاجه المسلم،

خاصة إذا كثر الدَّخَن، واضطربت المفاهيم، وكثرت الاجتهادات دون علم ينير

الطريق ويوضح المحجة..

والمسلم مضطر للعيش في هذه الأجواء، التي يختلط فيها الحق والباطل

ويكثر فيها الشر مع وجود الخير، فكيف يكون منسجماً مع نفسه ومع مبادئه التي

يحملها ولا يقع في التناقض والحيرة، ويصبح ممزق الشخصية بين الواقع والمثال.

هنا يظهر مصداق حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من يرد الله به

خيراً يفقهه في الدين " فالفقيه حقاً هو من يجنب نفسه والمسلمين الالتفاف حول النصوص والأخذ بالرخص الملفقة، كما يجنب نفسه والمسلمين العنت والحرج المتعارض مع الحنيفية السمحاء.

إن سهولة انتشار كتب العلم في هذا العصر، جعل بعض الناس يقرأ الكتاب

والكتابين، ثم يستنبط ويستخرج الأحكام من غير أن يكون على دراية تامة ومعرفة

بأسرار الشريعة وحكمتها في التدرج بالناس ومراعاة المصالح ومعرفة أسباب

اختلاف العلماء، ومن غير أن ينظر بعين البصيرة إلى تطور مراحل الدعوة

والدولة، وكيف كانت تتنزل الأحكام. والذي يطالب المسلمين بتطبيق تفاصيل

الشريعة، كالتميز عن الكفار في كل شيء أو تطبيق ما جاء في سورة براءة من

قتال المشركين كافة والمسلمون في حالة ضعف، فهذا لم يفقه الإسلام الفقه الصحيح.

ومن الأدلة على أن بعض الأحكام تختلف بين حال القوة والضعف:

١- ما جاء في قصة صبيغ بن عِسل أنه كان يسأل عن تفسير [وَالذَّارِيَاتِ

ذَرْواً * فَالْحَامِلاتِ وقْراً ... ] الآيات، يفتش بذلك عن المعضلات ويتتبع المتشابه، وسمع به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب فدعا الله أن يمكنه منه، فلما حضر بين

يديه وتأكد له أنه يسأل عن هذه الأشياء أمره بوضع عمامته فإذا له وفرة، فقال له:

(لو رأيتك محلوقاً لضربت عنقك) ، لقد خشيَ عمر أن يكون هذا الرجل من ...

الخوارج الذين وردت الأحاديث بذمهم وأن من علاماتهم التحليق، وكان عمر

سيقتله لو تأكد له أنه من هذه الفئة مع أن الرسول - صلى الله عليه وسلم - لم يقتل

ذي الخويصرة التميمي عندما انتقد قسمته لغنائم حنين وقال له: (إنك لم تعدل) فقال - صلى الله عليه وسلم -: (ويلك من يعدل إذا أنا لم أعدل!) ، فيُعلم أن العفو

عن الخوارج كان في حالة الضعف والاستئلاف [١] ..

٢- إن الحال التي أخبر الله -سبحانه- أن المسلمين يسمعون أذىً من الذين

أوتوا الكتاب والمشركين نسخت عند بعض العلماء بحال القوة والأمر بقتالهم،

وبعض الناس يقول: الأمر بالصفح باق عند الحاجة إليه بضعف المسلم عن القتال، ولاخلاف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان مفروضاً عليه لما قوي أن يترك

ما كان يعامل به أهل الكتاب والمشركين ومظهري النفاق من العفو والصفح إلى

قتالهم وإقامة الحدود عليهم سواءً سميّ هذا نسخاً أو لم يُسَمَّ) [٢] .

٣- احتمل الرسول - صلى الله عليه وسلم - من المنافقين أذاهم قبل نزول

براءة ما لم يحتمل من أذى الكفار وهو بمكة ما لم يكن يحتمل بدار الهجرة

والنصرة [٣] .

٤- إن الآيات مثل [وإذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً] [الفرقان: ٦٣] ،

[وأَن تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى] [البقرة: ٢٣٧] ، [وإذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ]

[القصص: ٥٥] ، إن هذه الآيات لا دليل على نسخها بالآيات التي تدعو إلى قتال

المشركين والغلظة عليهم، وأمثال ذلك مما وردت به السنة النبوية، ولا يقول

بالنسخ إلا من يتوهم التعارض في ذلك، ممن خفي عليه حسن اختلاف الأمرين عند

اختلاف الحالين، ولذلك أنزل الله الكتاب والحديد وكان رسول الله - صلى الله عليه

وسلم - نبي الرحمة والملحمة [٤] .

ولا يظن ظان أن اختلاف الأمرين عند اختلاف الحالين هو تغيير لأحكام الله

أو انحراف بها عما وضعت له، فالأحكام الثابتة المفروضة لا تتغير إلى يوم القيامة، ويبقى هناك أمور يراعى فيها حال المسلمين من الضعف أو القوة في كل عصر،

ولا يعقلها إلا العالمون..


(١) انظر ما كتبه ابن تيمية حول هذا الموضوع في (الصارم المسلول) ص ١٨٩ -٢٣٩ /٢٢٤.
(٢) انظر ما كتبه ابن تيمية حول هذا الموضوع في (الصارم المسلول) ص ١٨٩ -٢٣٩ /٢٢٤.
(٣) : انظر ما كتبه ابن تيمية حول هذا الموضوع في (الصارم المسلول) ص ١٨٩ -٢٣٩ /٢٢٤.
(٤) محمد بن إبراهيم الوزير: العواصم والقواصم ١ / ١٧٢.