المسلمون والعالم
[الشرق الأوسط ومشروع (إسرائيل الكبرى)]
د. إبراهيم نصر الدين [*]
لا يمكن فهم الاستراتيجية الصهيونية الأمريكية في عالمنا العربي إلا في إطار
صراع الإيديولوجيات على هذا العالم، وما أسفر عنه هذا الصراع من نتائج؛ ذلك
أنه كما أن لكل إيديولوجية استراتيجية؛ فإن أي استراتيجية لا يمكن أن ترسم وتنفذ
إلا في ظل إيديولوجية.
وقد كان عالمنا العربي منذ بدايات القرن العشرين ميداناً لصراع ست
إيديولوجيات، حاولت كل منها أن تفرض نفسها بالفكر، وبالحركة «الاستراتيجية»
بالتحالف تارة، وبالصدام تارة مع غيرها من الإيديولوجيات.
ولقد تمثلت هذه الإيديولوجيات في: الجامعة الإسلامية، والقومية العربية،
والاشتراكية، والرأسمالية، والصهيونية، والـ «شرق أوسطية» .
ومع بدايات القرن الحادي والعشرين خضع العالم العربي خضوعاً كلياً للهيمنة
الرأسمالية التي تعززت بانهيار الكتلة الاشتراكية، وما أفرزته عملية العولمة من
ضغوط التكيف الهيكلي، والحكم الجيد. ومن جهة ثانية؛ فإن المشروع الصهيوني
قد حقق بعضاً من غاياته في إقامة دولة (إسرائيل) ، وتوسيع حدودها بعد عام
١٩٦٧م، وتحقيق أمنها، والاعتراف بشرعيتها؛ ليتجه هذا المشروع بعد ذلك إلى
تحقيق الهيمنة على المشرق العربي تحت راية الـ «شرق أوسطية» ؛ في
صياغة أمريكية وصهيونية تجعلها مقبولة عربياً.
ومن الغريب أن مصطلح الـ «شرق أوسطية» بات مقبولاً لدى الساسة
والمفكرين على طول العالم العربي وعرضه، بوعي أو دون وعي، على الرغم
من أنه مصطلح يُقصد من ورائه أن يكون بديلاً عن مصطلح «العالم العربي» ،
وهو ما حدث بالفعل.
ونشير هنا إشارات سريعة لتطور استخدام المصطلح، فقد وصفت حرب عام
١٩٤٨م بـ (الصراع العربي الإسرائيلي) ، وحرب عام ١٩٥٦م بـ (العدوان
الثلاثي على مصر) ، ومنذ حرب ١٩٦٧م بدأ وصف الصراع بـ (الصراع في
الشرق الأوسط) ، ووُثِّق ذلك في وثائق الأمم المتحدة، ومنظمة الوحدة الإفريقية،
والجامعة العربية ... إلخ، وظهر هذا الوصف في الكتابات الأكاديمية والصحفية
العربية، بل وعلى لسان المسؤولين الرسميين العرب!
ومنذ حرب الخليج الثانية بدأ بث برنامج في إذاعة صوت أمريكا يحمل
عنوان: (الشرق الأوسط والمغرب العربي بين العناوين والأخبار) ، وهنا لم
تضف كلمة «العربي» إلا ملحقة بالمغرب فقط، وكأنما عز على أولئك الذين
صاغوا توجه الـ «شرق أوسطية» مجرد ذكر كلمة «العربي» حتى لو كانت
ملحقة فقط بالمغرب! فإذا بهم يلغونها كلية من اسم «المؤتمر الاقتصادي للشرق
الأوسط وشمال إفريقيا مينا» ، والذي كان يعقد تحت مظلة المفاوضات الجماعية
الـ «شرق أوسطية» .
هكذا تحالف الغرب الصليبي تحت قيادة الولايات المتحدة مع الصهيونية،
وتحت راية الـ «شرق أوسطية» لمحو الهوية العربية الإسلامية كلية لعالمنا
العربي؛ تمهيداً لفرض الهيمنة عليه وإقامة (إسرائيل الكبرى) .
المسألة إذن ليست عملية السور الواقي، ولا مخيم جنين، ولا رام الله، ولا
كنيسة المهد، ولا تدمير أسلحة الدمار الشامل لدى العراق ... إلخ؛ إنها مجرد
بالونات اختبار، أو فلنقل إنها مجرد عمليات قُصد بها صرف الأنظار بعيداً عن
الاستراتيجية الأمريكية الصهيونية لإقامة (إسرائيل الكبرى) ؛ بناءً على أن
الظرف الحالي أكثر ملاءمة لتحقيق هذا الهدف الذي طال انتظاره وتعرقل تحقيقه؛
إما بسبب توازن القوى في فترة الحرب الباردة، وإما بسبب العجز العربي الذي
دفع بالدول العربية إلى رفع شعار السلام بوصفه خياراً استراتيجياً، فلم تتخذ موقفاً
متشدداً يدفع الخصم إلى القيام بعمل عسكري يحقق به استراتيجيته.
إن ما سبق قوله يحتاج مرة أخرى إلى الاستدلال عليه فكرياً وحركياً.
فعلى المستوى الفكري تكفينا الإشارة هنا إلى بعض ما كتبه «ناحوم جولدمان»
رئيس المنظمة الصهيونية العالمية بين عامي ١٩٥٦ - ١٩٦٨م في كتابه
الصادر في يونيو ١٩٧٥م، والذي يحمل عنوان: (إسرائيل إلى أين؟) ، حيث
يحدد فيه طبيعة الدولة اليهودية، يقول «جولدمان» : «أكد كل المفكرين والآباء
المؤسسين للصهيونية على الصفة الإنسانية والكونية لهذه الدولة، وبالقدر نفسه على
صفتها الوطنية والخاصة، ولم يقم طموح هؤلاء المحركين الإيديولوجيين للحركة
الصهيونية، على إيجاد أرض غالبيتها من اليهود فقط، حيث يصبح اليهود سادة
مصيرهم، بل استخدام هذه البقعة لتطبيق الأفكار الأساسية في التاريخ اليهودي» .
ويضيف «جولدمان» : «إن الخطر الكبير الذي تقع فيه (إسرائيل) هو نسيان
صفتها الفريدة؛ إذ أنشئت في محاولة لخلق دولة وحيدة من نوعها، من المؤكد أن
دولة (إسرائيل) لا يمكن أن تبقى إلا إذا شكلت ظاهرة لا مثيل لها في العالم» .
ويرفض «جولدمان» أي محاولة لجمع كل يهود الشتات في داخل دولة
(إسرائيل) ؛ لأن لهم مهمة خارج (إسرائيل) قائلاً: «إن ما يمكن تسميته
تطبيع الحياة اليهودية؛ لن يكون بإلغاء التشتت وجمع الشعب بأكمله على أرضه،
بل بنوع من الحياة المركبة من (إسرائيل) في الوسط، والمناطق المتاخمة
على السواء، وأحدهما مرتبط بالآخر، ويمثلان معاً الشعب الواحد، إن للشعب
اليهودي مهمة فريدة لا مثيل لها في الزمن الحاضر ولا في الماضي» .
ويتضح مما تقدم عدة حقائق نذكر منها:
١ - الاستمرار في تأكيد الصفة العنصرية والاستعمارية للكيان الصهيوني،
وللشعب اليهودي. يظهر ذلك في تأكيد «الصفة الكونية» للدولة، والصفة
«الفريدة» لها، والعمل على إشاعة أنها دولة وحيدة من نوعها، وأنها تشكل
ظاهرة لا مثيل لها في العالم، وأن للشعب اليهودي مهمة فريدة لا مثيل لها.
٢ - الإصرار على انتهاك سيادة الدول الأخرى؛ بالزعم بأن اليهود أينما
وجدوا يشكلوا جزءاً من الشعب اليهودي، وأن ولاءهم لدولة (إسرائيل) يتوازى
مع إن لم يكن يجب ولائهم للدول التي يعيشون فيها، مع التأكيد على استمرار قطاع
كبير من يهود الشتات خارج (إسرائيل) ؛ في رفض واضح لمبدأ حق تقرير
المصير بمفهومه الحديث؛ حيث يصير من حق كل أمة أن يكون لها دولة،
فالشعب اليهودي أينما وجد يشكل أمة تعمل بتوجيه من المركز (إسرائيل) .
٣ - ويظهر مما سبق استمرار «عقدة الحصار» ؛ إذ على الرغم من رغبة
القادة الصهاينة في تجميع الشعب اليهودي في (إسرائيل) ؛ فإن الخوف من نتائج
هذا التجمع تبدو واضحة، خوفاً من توجيه ضربة عسكرية لكل الشعب اليهودي
المتجمع في (إسرائيل) ، وخوفاً من فقدان التأثير على سياسات الدول الموجود
فيها يهود الشتات، وخوفاً من فقدان مصادر التمويل الخارجية.
وعلى المستوى الحركي، وتنفيذاً للإيديولوجية الصهيونية الرأسمالية الشرق
أوسطية التي باتت تحس بأنها أقرب إلى تحقيق غاياتها في الوقت الراهن؛ انطلقت
الاستراتيجية التوسعية من عقالها، وبشكل سافر دفع بعض الناس إلى عدم التصديق؛
حيث تزايدت عملية التنسيق الأمريكي الصهيوني في المشرق العربي منذ عقد
اتفاقات كامب ديفيد، ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، وهو التنسيق الذي
وصل إلى حد التحالف الاستراتيجي بينهما، ولتظهر خريطة جديدة لـ (إسرائيل)
عام ١٩٨٩م تحدد حدودها الجديدة المتصورة (إسرائيل الكبرى) .
كما أن حرب الخليج الثانية قد مهدت لتحديد حدود (إسرائيل الكبرى) ،
عندما قامت القوات الأمريكية بحصار معظم المنطقة الواردة بهذه الخريطة؛ ذلك أن
الخريطة تضم النصف الشرقي لسيناء، حيث القوات المتعددة الجنسيات تحت
المظلة الأمريكية موجودة بحكم معاهد السلام المصرية الإسرائيلية، وشمال المملكة
العربية السعودية، وقلب العراق السنّي، فيما عدا الجنوب الشيعي، والشمال
الكردي.
لاحظ أن فرض أمريكا وبريطانيا لمناطق الحظر الجوي على العراق والذي
يخالف الشرعية الدولية يكاد يتطابق مع حدود هذه الخريطة، وكل الأردن وجنوب
سوريا، ومعظم الأراضي اللبنانية ما عدا شريط ساحلي يمتد من بيروت في اتجاه
الشمال.
وها هنا عدة ملاحظات:
١ - أن الخريطة السابقة قد نشرتها الجامعة العربية على غلاف مجلة لها
تحمل عنوان «القضية الفلسطينية في شهر» عدد خاص «رقم ٨» ، لكنها لم
تعقب عليها من قريب أو من بعيد!
٢ - أن هذه الخريطة مرسومة على خلفية شعار دولة إسرائيل؛ حيث
شمعدان الهيكل المزعوم ذو الأفرع السبعة، ألا تشير الأفرع السبعة إلى أراضي
الدول العربية السبع الداخلة في الخريطة، وهي: فلسطين، مصر، الأردن،
السعودية، العراق، سوريا، لبنان؟!
٣ - أن الخريطة نفسها مرسومة على العملة (الإسرائيلية) «الشيكل» بكل
فئاتها، فيما يبدو وكأنه عملية تنشئة مستمرة للنشء الصهيوني على حدود الدولة
المزعومة، هذا في الوقت الذي بدأت فيه خريطة فلسطين تختفي من بعض الكتب
المدرسية العربية، ويتوارى الحديث عن العالم العربي، أو الوطن العربي؛ ليعلو
مصطلح (الشرق الأوسط) !
٤ - أن المخطط الصهيوني الأمريكي على نحو ما تظهره الخريطة يصل
بحدود (إسرائيل الكبرى) إلى قرب المدنية المنورة من جهة، ويبدو أنه يتجه إلى
إعطاء جنوب العراق الشيعي لإيران من جهة ثانية (لاسترضائها؛ لكونها دولة
منبوذة من المحيط العربي المجاور) ، فيما يتجه إلى إقامة (دولة كردية) عازلة
شمال العراق، وشمال سوريا يتجمع فيها الأكراد من كل الدول المجاورة وخاصة
من تركيا وإيران تكون معادية للعرب، ومتحالفة مع الصهيونية من جهة ثالثة.
٥ - أن المخطط الصهيوني الأمريكي على نحو ما تظهره الخريطة لا يبدو
أنه يتجه في الوقت الراهن إلى إقامة (إسرائيل الكبرى) بمفهوم السيطرة الكاملة
على حدود هذه الخريطة، فذلك أمر يفوق قدرة (إسرائيل) ، وإنما بمفهوم
«الهيمنة» ؛ حيث تتم محاصرة هذه المنطقة عسكرياً، وضرب قدراتها العسكرية؛
بغية تطويع الإدارة السياسية لكل من «العراق، وسوريا، والمقاومة اللبنانية» ؛
مرة تحت دعوى تدمير أسلحة الدمار الشامل، ومرة تحت دعوى مكافحة الإرهاب،
ثم إحكام الحصار حول حدود هذه المنطقة عسكرياً واقتصادياً وسياسياً؛ لتقبل
الخضوع لمفهوم الـ «شرق أوسطية» تحت المظلة الأمريكية الصهيونية؛ تمهيداً
في مرحلة تالية قريبة لإعلان (إسرائيل الكبرى) .
ولعل ما سبق يشير إلى ضرورة اهتمام العرب شعوباً وحكومات بفضح هذا
المخطط بجميع السبل، وإظهار النية التوسعية للكيان الصهيوني في المحافل
الدولية، وألا يتوقف العرب طويلاً أمام العمليات الجزئية «على أهميتها»
مثل مخيم جنين، ورام الله، وكنيسة المهد، ورفض الليكود قيام دولة فلسطينية..
إلخ، فهذه العمليات؛ إما أنها جزء من المخطط، وإما أنها تهدف إلى جر العرب
بعيداً عن فهم طبيعة الكيان الصهيوني التوسعية، والعنصرية، والإحلالية.
ويفرض كل هذا وذاك ضرورة التنسيق العربي لمواجهة هذا المخطط (الصهيوني
الأمريكي) قبل فوات الأوان.
(*) أستاذ العلوم السياسية، ورئيس الجمعية الإفريقية للعلوم السياسية، بريتوريا، جنوب إفريقيا.