يروي المقريزي في تاريخه أن تجار القاهرة أغلقوا أسواقهم في أحد الأيام وتجمعوا مع الأهالي احتجاجاً على زيادة الضرائب والمكوس، التي فرضها الحكم المملوكي، ولما أراد الحرس تفريقهم رفضوا وأصروا على موقفهم، فرفع الأمر إلى الوالي الذي استدعى كبار التجار المحتجين، وفاوضهم وسمع مطالبهم فوعدهم خيراً. يقول المقريزي: فتفرق الناس وبردت القضية، وطبعاً لم يتحقق أي من مطالب الجماهير.
هذه القصة تشير في الحقيقة إلى ظاهرة خطيرة تصيب الشعوب الإسلامية، وهي العجز عن الاحتفاظ بالقضايا الحيوية الساخنة لأطول فترة ممكنة؛ إذ سرعان ما تنطفئ جذوة الحماس وتفقد القضية بريقها وتذوب المطالب ويتراجع الرأي العام في انتظار الحدث الساخن التالي.
ويأتي في مقدمة أسباب هذه الظاهرة المرضية افتقاد الجماهير لجهة قيادية مؤثرة تمتلك القدرة على تحريك الشعوب. وإذا كان العلماء والمفكرون والدعاة يتحملون العبء الأكبر في هذا المجال فإن واقع الحال يكشف عن تراجع كبير لرموز الأمة عن أداء دورهم؛ فقد غلبت القيود والاحتياطات، وسيطرت المشروعات الفردية على الساحة، واختار الأكثرون خطاباً عاماً لا يقدم للشعوب خريطة طريق واضحة.
سبب آخر يكمن في طريقة تناول وسائل الإعلام العربية لقضايا الأمة وهي طريقة غربية المنشأ تعتمد على إثارة العواطف وفق منحنيات رأسية صاعدة وقت اللزوم، أو تفريغ العواطف بطريقة آمنة، أو اختزال القضايا الكبرى في مواقف أو أحداث أو شخصيات محدودة التأثير، وهذه الأخيرة يمكن أن يكشف لنا تتبعها عن تناقضات لا محدودة في ردود الفعل الجماهيرية الإسلامية. وقد اعتادت وسائل الإعلام الغربية على تطبيق مبدأ الاختزال الرمزي هذا بكثرة؛ فالمقاومة في العراق اختُزلت في شخص الزرقاوي، وبسالة الجنود الأمريكان اختُزلت في شخص الجندية الأمريكية ميريل لينش ذات البطولات المزعومة، والرأفة الأمريكية في التعامل مع الشعب العراقي اختزلت في طفلين معاقين سلطت عليهما الأضواء. والنتيجة أن الرأي العام العربي أصبح يتفاعل مع أحداث رمزية تنقله بعيداً عن القضية الرئيسية؛ ولذلك خرجت الجموع، واحتج الساسة، وثارت الجماهير عندما قُتِل محمد الدرة. وفي المقابل مر تفجير رأس الشيخ ياسين وتدمير جسد الرنتيسي مرور الكرام. وهكذا تختزل الأحداث الجسام في حياتنا، وقد كان محمد الدرة مع والده يشتريان سيارة وكان الشيخ ياسين عائداً من مسجده وهو يبغي شراء أمة، ولكن إعلامنا الهمام أبكانا على الدرة أشهراً، وأبكانا على الشيخ ياسين ساعات معدودة.
سبب آخر لبرودة القضايا الجماهيرية وهو انحصار المسارات التي يمكن أن تحرك فيها الجماهير في أنماط محدودة تتلاقى كلها عند التظاهر كشكل رئيس لتفريغ طاقة الجماهير. والتظاهر نمط غربي الأصل على الأقل في العصر الحديث وهو يتناسب مع طبيعة وثقافة المجتمعات الغربية أكثر مما يتناسب عندنا ولذلك تنتج عنه آثار نراها لديهم ولا نجدها في واقعنا، وفي كثير من الأحيان يحدث الخلط بين حشد الأتباع وحشد الجماهير؛ وأقرب مثال على ذلك حركة (كفاية) في مصر التي لا تزيد تظاهراتها عن العشرات أو مئات قليلة ولكنها ملأت الدنيا صراخاً.
إن التعامل مع الجماهير المسلمة التي هي طاقة الأمة المدخرة يحتاج إلى تأصيل شرعي ورؤية واقعية متبصرة إذا أردنا أن نحقق نجاحاً في ضبط المؤشر الجماهيري على الساخن لأطول فترة ممكنة.