حوار
المستشرق الروسي د. ليونيد سوكيانن
في حوار مثير مع البيان
(٢ - ٢)
في الاستشراق تيارات تخدم الأهداف الاستعمارية
حاوره في الرياض: خالد محمد أبو الفتوح
تطرق الحوار في الحلقة السابقة إلى الحديث عن الشريعة الإسلامية وطبيعتها
والعلاقة بينها وبين الواقع الروسي وأوجه الاختلاف أو الاتفاق بينها وبين النظم
القانونية الأخرى، ثم تناول الحوار تاريخ الاستشراق الروسي وأهدافه وواقعه
المعاصر.. وفي هذه الحلقة يستكمل الحديث عن الاستشراق، ويتطرق إلى
موضوعات أخرى. ونود لفت نظر القارئ إلى أن الحوار أجري منذ شهر ذي
القعدة ١٤١٩هـ وتأجل نشره لظروف فنية خاصة بطبيعة النشر في المجلة، لذا:
سيجد القارئ أن بعض الأحداث والشخصيات قد تغيرت، كالحديث عن الحرب
الكوسوفية أو عن بريماكوف باعتباره رئيساً لوزراء روسيا.
- البيان -
- تطوُّرُ الاستشراق المعاصر يجرنا إلى الحديث عن علاقة الاستشراق
بالصحوة الإسلامية: هناك دراسات كثيرة خصوصاً في فرنسا وفي أمريكا لمتابعة
الصحوة الإسلامية، وبعض الباحثين يقولون: إن الاستشراق الآن يتركز بصورة
كبيرة على ما يخص هذه الصحوة، فما رأيكم في هذا الكلام؟
أنا أقترح أن نناقش هذا الموضوع على ضوء النموذج الروسي عندنا: هل
هناك علاقة بين الصحوة الإسلامية وعلم الاستشراق؟ نعم، توجد علاقة مباشرة،
وقد صدرت أبحاث كثيرة - بعضها لا بأس به - تعكس الصحوة الإسلامية وتحلل
نتائجها وأسبابها وآفاقها المستقبلية. إذا سألتم عن موقفي من هذه الدراسات فأنا
لست من أنصار الدراسات التي ترتبط ارتباطاً مباشراً بالصحوة الإسلامية؛ على
الرغم - طبعاً - من وجود بعض المؤلفين ذوي الخبرة والقلم السيَّال وغالباً ما يكون
سطحياً الذين يرسمون صورة كما يرونها: أسماء المنظمات، أسماء الأشخاص،
الأرقام، الإحصائيات، هذه دراسات قيِّمة ومفيدة في بعض الأحيان، ولكنها تبتعد
عن إيضاح الإسلام باعتباره نظاماً وديانة، عندما أقول كلمة (الإسلام) وأنا نادراً ما
أقول هذه الكلمة؛ لأن كلمة (الإسلام) و (الشريعة) كلمة تستحق ألا تتكرر عفوياً
عندما أقول (الإسلام) و (الشريعة) .. ما هي المترادفات؟ هل مرادف الإسلام:
الحزب السياسي، أو الحركة السياسية، على الرغم من وجود السياسة في الإسلام؟ لا، ولكن قبل كل شيء يترادف مع الإسلام: الروح، الأخلاق، الضمير،
المعتقدات، الدنيا، الآخرة.. للأسف الشديد نحن نبالغ في تحليل الإسلام من خلال
هذه الحركات والتيارات والمنظمات والأصولية والراديكالية ... إلخ، وذلك إيماناً
بأن الإسلام - قبل كل شيء - ديانة وروح، وأخلاق وقيم، ومصير للحياة،
وهدف ومحتوى حياة الإنسان.. عندنا مفكر روسي قانوني كان يقول: لا تبحثوا
عن الجديد، ابحثوا عن الخالد، الأبدي، الباحث يجب أن يبحث قبل كل شيء عن
الثوابت.
وعلى هذا الأساس: إذا قصدنا العلاقة بين الاستشراق والصحوة الإسلامية -
بمعنى ردود الفعل لهذه الصحوة - وانعكاساتها في المؤلفات والأبحاث.. فإن هذا
الانعكاس موجود، ولكني لست من أنصار هذا الأسلوب في الكتابة عن الإسلام
والشريعة رغم اعترافي بوجود مثل هذا الاتجاه.
يوجد البعد الآخر للعلاقة بين الصحوة الإسلامية والدراسات الاستشراقية،
البعد الذي تناولناه، إذا كانت الصحوة الإسلامية التي نشاهدها الآن تدخل المرحلة
الجديدة وتهدف إلى رفع مستوى المسلمين وثقافتهم وإدخال منجزات الثقافة الإسلامية
إلى المجتمع الروسي بمختلف جوانبه، في البرامج الدراسية وغيرها، وإذا كانت
الدراسات الاستشراقية تسهم في هذه العملية وتساعد في تحقيقها - وهذا شيء
ضروري؛ لأنه ليست هناك جهات أخرى يمكن أن تقوم بهذه المهمة - ففي هذه
الحالة يجب أن تكون مثل هذه العلاقة بين الصحوة الإسلامية والدراسات الإسلامية
موجودة. وعلى هذا الأساس: يمكن أن نميز بين الأبعاد المختلفة للعلاقة بين
الصحوة الإسلامية وعلم الاستشراق. ولكني لست من أنصار نظرية هنتنجتون
حول تصادم الحضارات، لا، أنا لا أؤمن بأن أمامنا خطراً ولا أفكر بتصادم
الحضارات.. الفوارق موجودة؛ ولكن المصالح المشتركة أكبر، المصالح
المشتركة بين الحضارات تتجاوز هذه العداوة الثنائية في بعض الأحيان.
إذن لماذا في رأيكم تظهر مثل هذه الدعوات، ولماذا الترهيب من الصحوة
الإسلامية بالذات رغم أن هناك تياراً عاماً في العالم كله يدعو إلى الرجوع للدين
عموماً؟ لماذا التخويف من الإسلام خصوصاً والتركيز عليه وحده؟
أقول لك الأسباب: السبب الأول: أنا أعتقد أن هناك بعض التيارات في علم
الاستشراق تخدم الأغراض السياسية الاستراتيجية، وهي تخدم هذه السياسة
الاستراتيجية للسيطرة على الحضارات والشعوب الأخرى، وطبعاً هي تسوِّغ مثل
هذا الاتجاه وتقول: إن هذا العالم الإسلامي عدوُّنا، ومن الضروري أن نعد أنفسنا
للقتال ضده ومكافحة هذه القيم، وتقول أيضاً: إن هذا العالم يكبر، وعدد سكانه
يزداد باستمرار، وبعد (١٠) سنوات ستكون غالبية العالم مسلمين، ومن الضروري
أن نوقف ذلك بأي طريقة من الطرق.
هناك سبب آخر: وهو ينطلق من العالم الإسلامي نفسه، فنحن لا نستطيع أن
نهمل وننكر وجود الأحداث والتيارات والنداءات والشعارات والأهداف والإجراءات
التي تعلل مثل هذه الصورة للإسلام.. هناك الرهائن، هناك الاقتتال، هناك خطف
الطائرات، هناك الحوادث المؤسفة جداً.. أنا لا أتناول أسبابها، هذا شيء آخر،
ولكن الصورة الظاهرية التي تربط الإرهاب بالمسلمين موجودة.. أكرر مرة أخرى: لا أتدخل الآن في الأسباب، ربما هناك رد فعل شرعي على كثير من الأمور..
نعم.. صحيح، ولكن أنا - فقط - أؤكد على حقيقة أن مثل هذه الأشياء موجودة.
عندنا - مثلاً - بعض الأحزاب السياسية أو المنظمات الإسلامية ذات الطابع
السياسي تقول في برامجها المكتوبة والمنشورة: علينا أن نخضع فقط لإرادة الله -
تعالى - ولن نخضع لأي قوانين وأي دستور إطلاقاً، ولا نعترف بأي سلطة دنيوية
.. فكيف يمكن للقارئ غير المسلم أن يقيِّم مثل هذه الشعارات؟ وكيف يتفهمها؟
النتيجة حتماً ستكون سلبية.. يمكن المناداة بالقيم الإسلامية، ولكن كيف يمكن تفهم
المناداة بإسقاط النظام والدستور وعدم احترام القوانين؟ لا توجد أي دولة يمكن أن
تقبل مثل هذه الشعارات.
د. سوكيانن، رأينا بعض الحوادث الإرهابية الأخرى مثل: حادث
أوكلاهوما، أو الحوادث التي نفذتها جماعة الحقيقة المطلقة باليابان، أو بعض
الجرائم التي قام بها مستوطنون يهود، ومع ذلك تعامل معها الإعلام العالمي بصورة
جرائم محدودة، ولم تأخذ البعد العام، ولم يقولوا: الأصولية المسيحية، أو
الأصولية اليهودية.. إلخ، ولم يهاجموها؛ فهناك أيضاً أفعال في الطرف الآخر قد
تُجَرَّم ويُنظر إليها على أنها أعمال عنف وإرهاب! ولكن لا تتجاوز قدرها على أنها
جريمة؛ بينما في الحالة الإسلامية نرى خلاف ذلك؛ فقد لا تثبت الجريمة أصلاً
ويُهاجَم الإسلام والمسلمون والصحوة الإسلامية ابتداءً.
نعم.. الرد في رأيي بسيط على هذا السؤال: إنها السيطرة الإعلامية الغربية
على العالم، هذه حقيقة؛ إنك إذا ذهبت لأي دولة لتشاهد البرامج التلفزيونية، وإذا
فتحنا أي قناة عفوياً فمن بين (١٠) برامج ستكون (٩) أفلام أمريكية أو برامج
مستوردة عموماً. هناك سيطرة كاملة على الشبكة الإعلامية في العالم، وهي تؤثر
تأثيراً مباشراً دون أي شك، حتى الصحفيون المخلصون المنصفون الذين لا توجد
لديهم أي مواقف سلبية مسبقة نحو الإسلام يتأثرون بهذه الصورة. أنا كثيراً ما ألتقي
مع الصحافيين في روسيا ويقولون لي بعد الحوار معهم: كيف يا ليونيد؟ لم
نتصور أن الإسلام كما تقول! لم نتصور أن الشريعة هكذا! .
إذن: السيطرة الاستعمارية الغربية على العالم كله، بل العالم الإسلامي
بالذات، لها أثر كبير دون شك. إلى جانب ذلك يمكن القول: إن المسلمين أنفسهم
في بعض الأحيان لا يستعملون كل قدراتهم لإزالة ذلك؛ مثلاً: من ينشر المقالات
الأساسية في الصحف الروسية لتصحيح صورة الإسلام؟ الباحثون الأكاديميون
وليس المسلمين، ولا يساهم المسلمون في ذلك.
أنا من أنصار الإسلام والشريعة منذ زمن بعيد، ولكن أنا أحمِّل المسلمين
أنفسهم جزءاً من المسؤولية عن هذه الصورة المشوهة دون شك، هم يكتفون
بالشكوى، ولكن أين الجهود؟ قد يقولون: لن تنشر مقالاتنا، ولكن الحقيقة أنه كما
إن عندنا صحفاً موالية للغرب ولليهود؛ فإنه توجد في الوقت نفسه صحف كثيرة
موالية للديمقراطية، وأنا عندما أكتب أي مقالة فإنها تنشر فوراً، ولم أقل كلمة ضد
الإسلام إطلاقاً؛ بالعكس أنا متهم دائماً بالدفاع عن الإسلام أكثر من المطلوب، ومع
ذلك تنشر مقالاتي، والمسلمون عندنا في روسيا يشْكون فقط. طبعاً أنا أعرف أنه
قد لا تتوفر لديهم الكفاءات المؤهلة للكتابة؛ ولكن قد تتوفر لديهم الإمكانات المادية،
عندنا كثير من رجال الأعمال المسلمين، لماذا لا يقتربون من المتخصصين
والأكاديميين ويطلبون منهم تخصيص بعض أوقاتهم لكتابة مقالات وأبحاث
موضوعية حقيقية عن الإسلام ويساعدونهم مادياً لتحقيق هذا الهدف؟ .. وهذه
الصورة ينبغي ألا تكون في روسيا فقط.. هل يمكن القول: إن كل المفكرين
والمثقفين ورجال الأعمال المسلمين القاطنين في العالم الإسلامي والمسلمين عموماً
استعملوا كل إمكاناتهم لإزالة مثل هذه الصورة، ولاستعراض حقيقة الإسلام؟ أنا لا
أقتنع بأنهم قاموا بذلك.
الحديث عن السيطرة الإعلامية يجرنا إلى الحديث عما يسمى بـ (العولمة
الثقافية) .. كيف ترون مستقبلها؟ وكيف ترون تأثيرها على الثقافات المحلية؟
العولمة الثقافية ظاهرة موضوعية لعالمنا الراهن بدون شك.. كلمة (العولمة)
تتكرر الآن في جميع أنحاء العالم، ولهذه الظاهرة العالمية أبعاد مختلفة، بعضها
إيجابية والأخرى سلبية؛ الأبعاد الإيجابية واضحة كل الوضوح: التقارب والتسامح
والتحاور بين الحضارات والثقافات، وهذا شيء جيد، ليس فقط لتعرِّف الناس
بعضهم ببعض، ولكن لإزالة كثير من العداوات المتبادلة بين الدول والشعوب،
وهو تلقائي لا نستطيع إيقافه؛ فالعولمة ليست قرار أحد الأفراد كان يفكر وأصدر
قراراً: غداً سنبدأ العولمة! هذه ظاهرة طبيعية لحياتنا؛ فالتقارب والتواصل
التجاري والمعلوماتي وغيره يؤدي تلقائياً إلى العولمة، ويستفيد من هذه العولمة
كثير من الباحثين والعلماء؛ بل تستطيع بعض بلاد المسلمين الاستفادة من العولمة
الثقافية والإنترنت وغيرها أكثر من روسيا؛ نظراً لتوفر الإمكانات المادية في
بعض البلاد العربية.
ولكن إلى جانب ذلك توجد أيضاً الجوانب السلبية، وهي متعلقة بالسيطرة
الإعلامية التي أصولها تقنية قبل كل شيء، مما يؤدي إلى السيطرة الفكرية
والثقافية. فمن النتائج والآثار لهذه العولمة السلبية: فرض الثقافة الواحدة على
الثقافات الأخرى، أنا لا أقصد فقط سيطرة الثقافة الغربية على العالم الإسلامي،
ولكن أقصد سيطرة أي ثقافة، فإذا افترضنا الصورة المعاكسة وكانت الثقافة
الإسلامية هي التي ستسيطر أنا أيضاً سأرفض ذلك، فكل واحد يجب أن يكون له
حقه في اختيار نمط حياته ومعتقداته. ولكن العولمة تعد من خصائص عالمنا
الراهن، يجب نقل التيار الفلسفي إلى العلوم الحديثة العالمية؛ الفلاسفة هم الذين
يفكرون في خصوصيات عالمنا الراهن، وهم يميزون بعض الخصائص لحضارة
العالم المعاصر بخمسة أو ستة مميزات: منها: الثورة المعلوماتية وتبادل المعلومات، مما يرتبط إلى حد بعيد مع العولمة الثقافية، هناك القضايا الخاصة بحماية البيئة،
هذه القضية لم تكن موجودة في أي مراحل الإنسانية، ومن الخصوصيات المميزة
لعالمنا الراهن وربما يكون هذا لأول وهلة غريباً: التسامح، والتعددية، التعددية
في كل شيء، في الأفكار، في الأشكال، في الثقافات، في الحضارات، والعالم
الغربي يتميز بهذين التيارين، من ناحية: السيطرة والضغط الثقافي الغربي على
باقي العالم، وفي الوقت نفسه التسامح الموجود في المجتمع الغربي نفسه، في
واشنطن عاصمة أمريكا، أمام البيت الأبيض هناك المسجد، هناك الكنيسة
المسيحية، هناك المعبد البوذي.
- ولكن اسمح لي يا دكتور في هذه النقطة بالذات.. صحيح هناك مظاهر
للتعدد والتسامح في المجتمع الغربي، ولكن في الوقت نفسه نجد على سبيل المثال
في فرنسا التي خرجت منها شعارات (الحرية والإخاء والمساواة.. إلخ) نجد أنهم لا
يقبلون تلميذات لمجرد ارتدائهن حجاباً، فكيف يتفق ذلك مع التسامح والتعددية؟
نعم! هذا صحيح، ولكن لكل مثال يمكن ضرب المثال المقابل، أقول لكم إن
الخميني قائد الثورة الإيرانية كان يعيش في باريس وكان يزاول نشاطاته منها
ويحرك هذه الثورة من فرنسا، والعالم كله يعرف ذلك..
- عفواً، قد نتفق في ظل الاختلافات التي نستعرضها أن هناك تسامحاً في
المجال الشخصي الذي يخص التعبد والشعائر، ولكن ليس هناك تسامح في النظام
الاجتماعي العام، بمعنى أن النظام الاجتماعي يفرض نفسه على الجميع.
طبعاً.. كل شخص يتأثر بالمجتمع وبالبيئة المحيطة حوله في كثير من
الأمور، وربما حتى في الدولة الواحدة توجد بعض مناطق بها تميزات، وبالنسبة
للتلميذات المسلمات في فرنسا: أنا أعرف هذه الصورة، ولكن إذا ذهبت أيضاً إلى
بعض العواصم العربية تجد الأوروبيات يلبسن ملابس محتشمة تتماشى مع تقاليد
هذه المجتمعات، وهذا ليس خيارهن، بل يتأثرن بالمجتمع المحيط.. هذا جزء من
إجابتي على سؤالكم، وعلى هذا الأساس من الضروري ألا ننسى كذلك مثل هذه
الأشياء..
- نعم، ولكن هذا المثال وذاك يقول إن التعددية محدودة ...
ليست محدودة، هي واسعة، حتى هذا الحوار الذي يدور بيننا يدل على أن
التعددية لا بأس بها وموجودة، طبعاً كل شيء في العالم نسبي، لا توجد أشياء
مطلقة في هذا العالم، ولكن قياساً على ظروف العالم منذ قرن ومنذ عشرات السنين: التعددية والتسامح في نمو، هل يمكن القول: إنه في بداية هذا القرن كانت
التعددية أوسع من ذلك؟ لا.. إذن ينبغي ألا نقيس التعددية على مثال في أذهاننا،
من الضروري أن نقيسها على الواقع العملي، كيف كان العالم يعيش منذ عشر
سنوات، منذ نصف قرن، منذ قرن، قرنين؟ هناك حركة وتطور وتقدم، ليس
تقدماً تصاعدياً دائماً ولكن قد تعتريه بعض الصعوبات والعوائق، ولكن عموماً:
الحركة موجودة بدون أي شك في هذا الاتجاه..
- ننتقل إلى موضوع آخر، نتحدث عن روسيا: تعرضتم لصورة الإسلام
في روسيا، وأنها قد تكون مشوهة، وتعرضتم لأسباب وجود هذه الصورة، سواء
من المسلمين أنفسهم أو من خارجهم، هل تعتقدون أن الأحداث السياسية الأخيرة
كالحرب السوفييتية الأفغانية أو الحرب الشيشانية أثرت على هذه الصورة للإسلام
عند المواطن الروسي؟
بالنسبة للحرب السوفييتية الأفغانية: لا أعتقد أن هناك الآثار الملحوظة على
مستوى صورة الإسلام في الرأي العام؛ لأن هذه الحرب لا تعد في رأي الشعب
الروسي حرباً ذات علاقة مع العالم الإسلامي، إطلاقاً.. حركة الطالبان حركة
جديدة، ظهرت بعد توقف الحرب، وأنا لم ألتق أي فرد من الشعب الروسي
ووجدته يربط هذه الحرب بالإسلام ولا كان يحلل هذه الحرب من زاوية الصراع
الديني.
بالنسبة للحرب الشيشانية: فالصورة تختلف: في بداية هذه الحرب لم يلاحَظ
العامل الإسلامي إطلاقاً، ولا بـ (١%) ، أنا مقتنع بذلك، فلم يذكر هذا العامل.
بدأ ذكر اسم الإسلام والعالم الإسلامي والتعاون مع العالم الإسلامي أو وجود من
يسمونهم بالمرتزقة من بعض البلدان الإسلامية، بدأ تداول كل ذلك بعد مرور أشهر
بل سنوات من بداية هذه الحرب؛ فما هو سبب دخول الإسلام عاملاً في هذه
الحرب؟ على ما أعتقد هناك عدة أسباب: السبب الأول: يعود إلى السياسة
الفيدرالية للسلطات الروسية. لا نناقش الآن بداية هذه الحرب؛ ولكن في رأيي
الشخصي أنه اتخذت خطوات خاطئة كثيرة أدت إلى تهيئة الظروف المناسبة لبلورة
العامل الإسلامي في هذه الحرب؛ فمثلاً: بعض الإعلانات التي ألقيت في بداية هذه
الحرب تحمل رفضاً كاملاً لوجود العامل الديني أو الطائفي في هذا الصراع، وكان
التركيز في بعض وسائل الإعلام على عدم وجود أي علاقة لهذا العامل.. ولكن
المجتمع الروسي تعوَّد على تبني رد الفعل المعاكس للبيانات والتصريحات الرسمية. مثلاً: إذا أدلى وزير المالية الروسي بتصريح للإذاعة أو التلفزيون نافياً اتخاذ
قرارات بتغيير قيمة العملة، فإن المواطن الروسي يفهم ذلك على أنه - عاجلاً أم
آجلاً - ستتخذ مثل هذه القرارات.. وعلى هذا أعطى التركيز المستمر على أن
هناك بعض القوى التي تحاول إدخال العامل الديني وتحوِّل هذا الصراع السياسي
إلى صراع طائفي ديني، ونفي ذلك أدى إلى إدخال هذا العامل بالفعل. هذا من
جانب السلطات الفيدرالية.
أما من جانب الشيشان: فإنه عندما بدأت هذه الحرب، اكتسبت وبسرعة
صفة الحرب في سبيل الاستقلال باعتبارها حرباً ضد الاستعمار، فكان من الواجب
البحث عن كل العوامل التي تساعد على تعبئة الشعب كله نحو هذا الهدف. ما هي
الشعارات القوية في مثل هذه الظروف التي تحقق هذا الهدف؟ الإسلام كان أقرب
وسيلة لتعبئة صفوف المجاهدين أو المقاتلين أو غيرهم، هذا إضافة إلى الأخطاء
السياسية والعسكرية للسلطات الروسية التي أثرت تأثيراً سلبياً على سمعة روسيا
والجندي الروسي في الشيشان.. الشيشان الآن يقولون: إنهم انتصروا في الحرب
ضد روسيا.. وهذا شيء غير صحيح، من المستحيل الانتصار على الجيش
الروسي من قِبَلِ الجيش الشيشاني، الجيش الروسي يملك عسكرياً من الإمكانات
والقدرات أن يصل إلى نقاط بعيدة حتى خارج حدوده، وهذا الإخفاق في الشيشان
ليس هزيمة عسكرية إطلاقاً، بل هزيمة سياسية.
وكذلك هناك العامل الخارجي: الشيشان في ذروة الحرب كانوا يزورون
كثيراً من البلدان الإسلامية طلباً لدعمها وتأييدها؛ فتحت أي شعار تدعمهم؟ الإسلام
بالطبع.. أخفقوا في بعض الأماكن في الحصول على هذا الدعم المادي أو المعنوي، ولكن نجحوا مع بعض البلدان، وبعض الأفراد، وبعض القادة.
على هذا الأساس: كانت الظروف موضوعية للصدام بين روسيا والمنطقة
المناضلة في سبيل استقلالها، بين الاستعمار والشعب الذي يناضل في سبيل حريته، كانت هذه هي الصورة الظاهرة لهذه الحرب، وإلى جانب ذلك ظهرت السلطة
الروسية بمثابة سلطة عدوانية، والسلطة الشيشانية بمثابة سلطة مدافعة عن حريتها
واستقلالها. خطوة بسيطة: هذه السلطة المسيحية، وهذه الإسلامية. وحتماً آجلاً
أو عاجلاً كان سيظهر هذا العامل في الشيشان رغم أن بذور الإسلام وأصوله في
الشيشان سطحية. الشيشان آخر منطقة في شمال القوقاز اعتنقت الإسلام، واعتناق
الإسلام في المجتمع الشيشاني سطحي.. ما يسود في الشيشان ليس الإسلام الصحيح، بل الأعراف والتقاليد والطرق الصوفية، وحتى الطرق الصوفية التي في
الشيشان بعيدة جداً عن الإسلام، بل هناك شك في مدى إسلاميتها في رأيي
الشخصي.
ولكن سياسياً ودعائياً وفكرياً لا يزال الإسلام شعاراً وصيغة وشكلاً يلعب حتى
الآن دوراً هناك.
نحن نعود إلى بداية حديثنا: أننظر إلى الإسلام باعتباره قيمة أم باعتباره
أسلوباً؟ غايةً أم وسيلةً؟ الإسلام في الشيشان الآن - للأسف الشديد - ليس إلا
وسيلة، وهو وسيلة في الصراع داخل الشيشان أكثر منه في الصراع بين الشيشان
وروسيا. الإسلام الآن يستعمل سلاحاً بين مسعدوف رئيس الشيشان والمعارضة له، هم يتصارعون، وكل واحد يلجأ إلى حجة الإسلام..
- قبل أن نترك هذه النقطة، هل يعني هذا أنكم ترون الدعوات المثارة
لتطبيق الشريعة في الشيشان مجرد مزايدات؟
يجب أن نميز بين عدة أبعاد لهذه الحقيقة، وقد سبق لي أن كتبت بعض
المقالات في الصحف الروسية قائلاً: إن الطموح نحو تطبيق الشريعة الإسلامية من
المستحيل أن يكون خاطئاً في المجتمع المسلم، كل مجتمع مسلم يطمح نحو تطبيق
الشريعة الإسلامية، ولا نستطيع القول إن مثل هذه المناداة خاطئة، هذا شيء
طبيعي، أما ما يمكن أن يكون خاطئاً فهو أسلوب أو كيفية تطبيق الشريعة الإسلامية؛ والتجارب الملموسة لتطبيق قانون العقوبات الشيشاني الجديد تقول ذلك؛ فهذا
القانون هو مجرد ترجمة حرفية لقانون العقوبات السوداني، وعندما استفسرت من
الشيشانيين: لماذا اقتبستم قانون العقوبات السوداني والشيشان من الشوافع بينما
قانون السودان مالكي؟ قالوا: وهل هناك فوارق؟ ما معنى المذهب الشافعي
والمالكي؟
ومما يدل على أنه ترجمة حرفية أضرب لكم مثالاً مدهشاً: عندي نسخة لهذا
القانون الشيشاني، وهو ترجمة روسية ضعيفة، ولكن مما يدل أن هذه الترجمة
حرفية أنني قابلته بالقانون الجنائي السوداني فوجدته ترجمة حرفية إلا فرقاً واحداً:
الغرامة (الدية) تقدر في السودان بالإبل وفي الشيشان بالبقر؛ لأنه لا توجد في
الشيشان إبل، بل توجد مادة في القانون الشيشاني نسيت رقمها تحدد الغرامة المالية
وتقدرها بالجنيهات، والجنيهات موجودة في السودان ولا توجد في الشيشان..
كيف يمكن استيراد قانون وزرعه في بيئة مختلفة وتطبيقه على هذا النحو،
هل يمكن أن يؤدي ذلك إلى نتائج جيدة؟
- كيف ترون مستقبل هذه التجربة في ضوء: الوضع الاجتماعي الشيشاني
وخصوصاً مع عدم وجود علماء أو فقهاء كما أشرتم من قبل لاستصدار وتطبيق هذه
القوانين، وأيضاً في ضوء الوضع القانوني الشيشاني بالنسبة لروسيا، وفي ضوء
الواقع الإقليمي، كيف ترون مستقبل هذه التجربة؟
المستقبل غامض في رأيي، ليس فقط على مستوى العلاقات بين الشيشان
والسلطات الفيدرالية، ولكن بالنسبة لمستقبل الشيشان نفسها، أنا لا أستطيع أن
أتصور هذا المستقبل، ولكني أراه غامضاً للأسف الشديد.
ولو سمحت أن أعود إلى موضوع تخصصي، بالنسبة للتشريع الإسلامي أو
الإسلام في الشيشان أوضح لكم أمراً: منذ شهر تقريباً عندما تفاقمت هذه
الصراعات والتنافس بين مسعدوف والمعارضة، وبدأت المعارضة تطالب باستقالة
الرئيس وحل البرلمان وإنشاء مجلس الشورى بدلاً منه، تحت شعار تطبيق أحكام
الشريعة الإسلامية، ورداً على ذلك استبقهم مسعدوف وأصدر قراراً بتشكيل مجلس
الشورى وتكليف البرلمان بإعداد الدستور الجديد خلال شهرين على أساس القرآن
الكريم والسنة النبوية.. كيف يمكن خلال شهرين؟ ! أي مُلِمٍّ بالشريعة الإسلامية
يعرف أنه من غير الممكن إنجاز تلك المهمة خلال شهرين؛ فهي تحتاج لسنوات،
ولكن مسعدوف أعلن أنه خلال شهرين ينتهي من هذه المهمة، وأعلن في الشيشان
الحكم الإسلامي، فما معنى ذلك؟ !
من جهة أخرى: المعارضة تقول: إنه إذا أعلن الحكم الإسلامي يجب أن
نحل البرلمان ونلغي الدستور ونستبدل مجلس الشورى بالبرلمان.. لماذا؟ هل
الحكم الإسلامي يمنع وجود البرلمان بصفته هيئة استشارية جماعية؟ .. لا، هل
الحكم الإسلامي يمنع منصب رئيس الجمهورية؟ أبداً!
على هذا الأساس: لا الرئيس ولا المعارضة يعرفون معنى الحكم الإسلامي
وكيفية تطبيقه، ولكن كل واحد ينافس الآخر في كسب عامل الشريعة إلى جانبه.
المعارضة هي التي بادرت إلى ذلك، ومسعدوف رد على ذلك مُجْبَراً، فهذا ليس
خياره، ولكن المعارضة كانت تضغط على الرئيس تحت شعار تطبيق الشريعة
كسباً للدعم الشعبي، فهل يرد مسعدوف بقوله: أنا أرفض تطبيق الشريعة؟ هذا
يعد انتحاراً سياسياً منه، فهو أُجبر على الرد على ذلك باتخاذ هذه الخطوات، وهذا
إن دل على شيء فيدل مرة أخرى على استعمال الشريعة في الشيشان وسيلة وليس
غاية.
في ظل هذه الظروف يبرز سؤال: ما هي الآثار المترتبة على إعلان الحكم
الإسلامي، وتشكيل مجلس الشورى، وتكليف البرلمان بصياغة الدستور على أسس
شرعية؟ ما هي آثار ذلك على العلاقات بين الشيشان وروسيا؟ هناك بعض
التعليقات التي كانت تقول: إن مثل هذه الإعلانات للحكم الإسلامي غايتها إلى
جانب الغايات الأخرى الابتعاد النهائي عن روسيا؛ لأن روسيا لن تعترف إطلاقاً
بهذا الحكم الإسلامي.. عميد معهدنا معهد الدولة والقانون طلب مني تحرير تقرير
علمي والاستنتاجات لهذا الأمر، أنا كتبت أن مثل هذه الإعلانات بالحكم لا تضيف
شيئاً جديداً على العلاقات الموجودة الآن مع روسيا، الشيشان الآن لا تخضع
للدستور والقوانين الروسية، السلطات الرسمية الروسية لا تسيطر على الأمور
هناك، فقط الإعلانات وحدها لا تضيف جديداً إلى هذه الصورة، ويجب ألا تمنع
مثل هذه الشعارات استمرار الحوار بين السلطات الروسية والسلطة الرسمية في
الشيشان (مسعدوف نفسه) ؛ لأنه ربما يكون من أغراض المعارضة باتخاذها هذه
الخطوات وضع الحواجز في العلاقات بين مسعدوف وموسكو توقعاً لرفض موسكو
أي إعلان للحكم الإسلامي، أنا قلت: لا، أبداً، بالعكس، من الضروري معاملة
هذه الإعلانات معاملة ذكية معقولة، ليس بقطع العلاقات مع الشيشان، ولكن
بالعكس: إدخال هذا الموضوع إلى جانب كثير من الموضوعات التي يتم مناقشتها
الآن، إدخال موضوع الشريعة والإسلام عنصراً مكوناً للحوار بين موسكو
ومسعدوف؛ دعماً لمواقف القوى المعتدلة، وقبل كل شيء مسعدوف نفسه: دعمه
في الصراع ضد المعارضة المتطرفة، على الرغم من أن قبول فكرة هذا الحوار
صعبة جداً، بل فُرَصُه محدودة للغاية للأسف الشديد؛ ربما تكون أفضل في ظل
رئاسة بريماكوف للحكومة، ولكن للأسف ما زال الحوار محدوداً جداً.
ورأيي الشخصي أنه من الضروري ألا نقطع هذا الحوار، بل على العكس:
نطوره ونحركه ونثريه، وإلى جانب مناقشة الموضوعات السابقة نناقش الشريعة
ومحاولة إيجاد الحلول الوسط بالنسبة لهذه الأمور.
السؤال المحوري الأساس الآن: هل في السلطات الروسية المهارات
والكفاءات والذكاء الكافي لذلك؟ وهل في السلطات الرسمية الشيشانية كذلك
الكفاءات نفسها لإجراء الحوار الهادئ للتوصل إلى الحلول الوسط المقبولة؟ يجب
عدم الخوف من أي إعلانات؛ لأن إعلان الحكم الإسلامي وحده بدون التفاصيل
والتطبيق العملي لا يعني شيئاً.
وإعداد الدستور على أساس القرآن الكريم وحده! بصراحة بالنسبة لسلطة
الدولة في القرآن الكريم ثلاث أو أربع آيات فقط: مبدأ الشورى، مبدأ العدل، مبدأ
المساواة، وطاعة أولي الأمر.. فقط، هل من الممكن الاعتماد على هذه الآيات
الأربع فقط بدون الاجتهاد، بدون تفصيل لصياغة الدستور، هذا الأمر يتطلب
الخلفية والمقدمات والكليات والمقاصد.
- المقصود طبعاً بالقرآن ما يحتويه أيضاً من قواعد كلية أساسية سواء في
الكتاب أو السنة، وليس النصوص المحددة فقط.
صحيح، ولكن صياغة الدستور على هذا الأساس..! طيب..! !
إذا شطبنا بعض المواد فيمكن أن نعتبر الدستور الروسي دستوراً يستجيب
لنظام الحكم الإسلامي، هل تتصور أن الفارق المبدئي..؟ ! ! عندي مشاريع
الدستور الإسلامي المصاغة في جامعة الأزهر وفي كثير من الجهات الأخرى،
المشاريع مصاغة وموجودة في كتاب منشور، إذا اطلعنا عليها نجد نظاماً عادياً،
نظام رئاسة وبرلمان..
المستقبل بصراحة لا أراه بوضوح لا للعلاقات ولا للشيشان نفسها، أنا خائف! إن شاء الله لا يكون ذلك، ولكن خائف من أن تتحول الشيشان إلى مثال ...
أفغانستان، هذا احتمال موجود، والجميع يعرفون مشكلة أفغانستان، ولا نرى نهاية
لها..
- أخيراً: بالنسبة للوضع الروسي، نرى هناك كما ينقل الإعلام صراعاً
بين ثلاثة تيارات في روسيا: التيار القومي، والتيار الشيوعي، واللوبي
الصهيوني الذي يمثله بيريزوفسكي، ما مستقبل روسيا في ضوء هذا الصراع؟
أولاً: بالنسبة للتمييز بين هذه التيارات الثلاثة، ذكرتم التيار القومي
والشيوعي والصهيوني، وعندما ذكرت هذه التيارات كنت أفكر وبرزت في مخيلتي
صور لرجال السياسة الأساسيين في روسيا، وكنت أضع كل واحد في تيار من هذه
التيارات، ولكن يبقى خارج هذه التيارات الثلاثة كثير من أصحاب النفوذ السياسي.
- مثل بريماكوف مثلاً؟
بريماكوف، هل هو قومي؟ هل هو شيوعي؟ أو صهيوني..؟
- أنا أعتبره من خارج التيارات الثلاثة، ولكن في الوقت نفسه: النفوذ
والتأثير واضحٌ أنه لهذه التيارات الثلاثة..
بصراحة القول: أنا لا أربط مستقبل روسيا بالتيار الشيوعي رغم أن
الشيوعيين عندهم نفوذ عميق جداً، عندهم أغلبية نسبية في البرلمان، والأزمة
المستمرة في روسيا تلعب لمصلحتهم دون أي شك؛ لأنه في ظل هذه الأزمة
بإمكانهم تحقيق مكاسب أكثر وأكثر في أسواق الناخبين.
بالنسبة للتيار القومي، هو موجود، ولكن داخله تيارات فرعية كثيرة، بل
في بعض الأحيان تتنافس فيما بينها بشدة، والتيار القومي موجود ولكن احتمال
فوزه في الانتخابات البرلمانية لا أثق فيه، سيكون له تمثيل في البرلمان ولكن لا
أعتقد أنه سيحقق أغلبية.
الشيوعيون كذلك، أنا لا أعتقد أنهم سيحصلون - ربما - على أكثر من
(٣٠ %) ، وهذا ليس بكاف لتشكيل الحكومة، ولكن بالطبع يعتبر ثقلاً.
المشكلة الأساسية أن كل القوى الأخرى متفرقة تتصارع فيما بينها.
- لم نتحدث عن النفوذ الصهيوني..
بالنسبة للتيار الصهيوني: بصراحة القول - وهذه ملاحظة شخصية -: أنا
أفضل التسمية الأخرى وليس ربط هذا التيار بالصهيونية.. الأصل اليهودي
لبيريزوفسكي وحده غير كافٍ؛ هذا لا يدل على أنه إذا كان أحد الأشخاص أصله
يهودي فهو صهيوني؛ بحيث نقول: النفوذ الصهيوني، إطلاقاً، وأنا لا أعتقد أنه
يوجد عندنا في الحقيقة تيار صهيوني قوي، ربما أنا مخطئ، أنا أعرف أن هناك
آراء أخرى، ولكن هذا رأيي الشخصي، لا أعتقد أن هناك تياراً صهيونياً بالمعنى
الصحيح للكلمة، بالمعنى العلمي للصهيونية.. النفوذ اليهودي موجود، عندنا
أصحاب البنوك، ولكن أصحاب البنوك اليهود يتصارعون فيما بينهم أكثر من
صراع أي روسي مع اليهود؛ لأن كل مصرفي عنده مصالحه المصرفية الخاصة
تسود على أي عواطف.
بيريزوفسكي.. إذا رغبت موقفي الشخصي من بيريزوفسكي: أنا لا أعادي
بيريزوفسكي بشكل عام، أنا أعترف بكفاءته الجيدة جداً، هو عنده كفاءات إدارية
واقتصادية وحوارية جيدة جداً، هو شخصية ذكية، عنده إمكانات، عنده نفوذ، ولا
يعني ذلك أنه يستفيد من هذا النفوذ لشيء شخصي، ولكن من الطبيعي أن يستعمل
هذه الإمكانات، وهذا النفوذ حسبما يرى، هذا رأيي الشخصي.
أنا لا أثق أن تياراً من هذه التيارات الثلاثة أو ربما تيارات أخرى تساويها في
القوة أو تقل عنها ستفوز في الانتخابات، بمعنى الحصول على غالبية الأصوات،
ستكون الصورة في هيكلة البرلمان الروسي متشابهة تقريباً للصورة الحالية، هناك
الشيوعيون، هناك القوميون، هناك كذلك تيار آخر يتبلور الآن، التيار الذي يمثل
مراكز القوى في الأقاليم المختلفة خارج موسكو، هذا التيار يطمح الآن إلى تجميع
جهوده في كتلة واحدة، وإذا نجح في ذلك وتجاوز بعض التنافسات الشخصية،
فسيكون هذا التيار قوياً جداً، وهو ليس قومياً ولا شيوعياً ولا صهيونياً، بل هو
يمثل مصالح الوحدات الإقليمية، والمنتجين، وبعض الفئات البعيدة عن العاصمة.. للأسف مثل هذا التيار غير متبلور عندنا.
والمستقبل في روسيا الآن يتوقف على الأشهر القليلة القادمة لتحقيق برنامج
بريماكوف، إذا نجح بريماكوف في بعض الإصلاحات التي بدأت ببطء واعترضتها
صعوبات وبعض المعوقات فهذا سيكون ضد الشيوعية، ربما سيدعم بعض
الحركات الأخرى، أما إذا أخفق بريماكوف في هذه الإصلاحات فستكون فرصة
فوز الشيوعيين في الانتخابات قوية.
نحن الآن في شهر مارس، والانتخابات البرلمانية في نهاية هذا العام (١٩٩٩م) ، وفي رأيي أنه بعد الصيف تقريباً ستكون أرضية الاستنتاجات أكثر دقة وأكثر
وضوحاً، وإذا سألتني لصالح من ستصوِّت في الانتخابات البرلمانية القادمة فليس
عندي جواب الآن، أنا لن أصوِّت لصالح الحزب الشيوعي ولا للقوميين.. ولكن
ليس هناك خيار حالي، وعلى هذا الأساس فالناس في بعض الأحيان لا يصوتون
لصالح، بل يصوتون ضد.
لكن عفواً د. ليونيد.. ما فائدة تمثيل تيارات قوية للأقاليم أو المنتجين أو
القطاع الخاص، ويستطيع الرئيس مثلاً أن يحل البرلمان كما فعل سابقاً أو يستطيع
أن يعطي رئيس الوزراء إجازة ليتصرف هو، فقد تكون هناك قوى انتخابية ولكن
ليس لها تأثير فعلي كما هو حادث بالنسبة للتيارات التي نتحدث عنها..
نعم.. القضية الأساسية الآن أنه ليس عندنا جهاز لآلية السلطة الراسخة
المتطورة المتبلورة ذات التقاليد والأصول، إذا كان النظام الاقتصادي عندنا يعاني
من آثار الانتقال من مرحلة إلى أخرى؛ فإن الشيء نفسه يحدث على المستوى
السياسي، وهذا بخلاف دول أخرى كبريطانيا مثلاً؛ حيث كل شيء واضح، هناك
حزبان رئيسان ويبقى الخيار فقط: هل هذا الحزب سيبقى، أم سيحل الآخر محله
بعد الانتخابات؟ الشيء نفسه في أمريكا؛ إذ لا تؤثر مثل هذه التغييرات على
الحالة الاقتصادية أو السياسية إلا تأثيرات محدودة ومتوقعة، أما في روسيا وفي
ظل ظروف عدم تبلور مثل هذه الثقافة السياسية البرلمانية واضطراب العلاقات بين
القوى وعدم ترسيخ العلاقات المبدئية بين الرئيس والسلطة التشريعية والحكومة..
فإننا لا نستطيع أن نتصور كيف سيكون الوضع في البلاد بعد عدة أشهر، وليس
في العقود القادمة.
بالنسبة لحل البرلمان.. في رأيي وقوع هذا الاحتمال ضعيف جداً مستقبلاً،
بل ربما يكون صفراً. لن يُحل البرلمان بمعنى حله دستورياً، هذا ليس في مصلحة
أي أحد ولا حتى الرئيس، وذلك على الرغم من وجود صراع كلامي بينهم،
ولكنهم جميعاً يعرفون أن حل البرلمان ليس في مصلحة أي واحد منهم.
وأيضاً يجب ألا نهمل مشكلة وضع الرئيس؛ فحالته الصحية ليست بجيدة
وذلك معروف للجميع، ومن الصعب تصور مدى تأثيره العملي على السياسة ودوره
فيها الآن.. ولكن في النهاية أقول: روسيا بلاد العجائب!
ما أثر هذا الصراع بين القوى على العلاقات مع العالم العربي والإسلامي؟
فمثلاً: هل له أثر على مشكلة كوسوفا؟
أنا لا أرى الآثار العميقة لهذا الصراع على العلاقات مع العالم العربي
والإسلامي؛ لأن عندنا مواقف قريبة تقريباً لهذه التيارات من قضية مثل هذه. هذه
التيارات تختلف وتتصارع حول المشكلات الداخلية في روسيا، أما بالنسبة لقضية
يوغسلافيا فكانت مواقفها قريبة جداً، ومواقفها معروفة: أول شيء: رفض التدخل
العسكري لحلف الناتو في يوغسلافيا، وإيجاد الحلول السلمية السياسية، وهذه
النقطة مُجمع عليها من كافة القوى تقريباً، وعند تصويت البرلمان حول هذه النقطة
كان من بين حوالي (٤٥٠) نائباً ثلاثة أو أربعة فقط لهم مواقف مختلفة، الرأي
المتفق عليه: رفض التدخل العسكري للناتو؛ لأن هذا التدخل من وجهة نظرنا لن
يحل المشكلة، ومن ناحية ثانية: لا نستطيع أن نسمح لكتلة عسكرية إقليمية أن
تقرر مصير شعب أو تحل محل قانون العالم، هذا من صلاحية الأمم المتحدة
ومجلس الأمن وليس للقوة والجبروت العسكري، هذا الموقف مجمع عليه من كافة
القوى.
النقطة الثانية: طبعاً التأييد العلني والمباشر في بعض الأحيان وفي أحيان
أخرى المتخفي أو المتحفظ ليوغسلافيا تحت شعارات أن يوغسلافيا دولة مسيحية،
بل أرثوذوكسية، وفي بعض الأحيان يقول الشيوعيون: إخواننا في يوغسلافيا..
عندكم تميزون بين الدول العربية والأجنبية، ومثل هذا التمييز موجود في روسيا
أيضاً، ويظهر في صورة مطالبة بالدعم المباشر، وفي بعض الأحيان تطالب بعض
التيارات مثل جيرونوفسكي بإرسال الجنود الروس والجيش لتأييد يوغسلافيا
عسكرياً.
ولكن كيف يقول الشيوعيون: إخواننا في يوغسلافيا، وهم حسب معتقداتهم
ليس لهم دين، ثم يؤيدونهم بدعوى الأرثوذوكسية؟
الآن هم يعترفون بالدين باعتباره ثقافةً وقيماً أخلاقية، ولكنهم لا يزورون
الكنائس، في هذا المجال حدث تغير كبير جداً من الشيوعية السابقة إلى برنامج
الحزب الشيوعي الراهن عندنا في روسيا.
يعني أصبحت الأرثوذوكسية كأنها قومية.
هناك بعض الملامح تشير نحو تحول المسيحية إلى نوع من القومية؛ فمثل
هذه الملامح موجودة على الرغم من أن نتائج هذا التحول قد لا تكون إيجابية في
رأيي، ولكن من الضروري الاعتراف بوجود مثل هذه الملامح بالتحول التدريجي
للمسيحية إلى أن تكون قومية.
حتى على نطاق الشيوعيين؟
نعم.. حتى على هذا النطاق، ولكن الشيوعيين لا يلعبون دوراً محركاً في
هذه التحولات؛ فهناك بعض القوى الأخرى التي تلعب ذلك الدور، كالقوميين،
وكذلك السلطات الرسمية، فينبغي على الشخصيات الرسمية التي يعلن دستورها
أنها منفصلة عن الدين أن ينفصلوا عن المشاركة في الشعائر الدينية، باعتبارهم
مواطنين يمكن أن يقوموا بهذه الشعائر، ولكن عندما يكونون رسميين يجب ألا
يشاركوا، فإذا كنتُ مثلاً رئيساً لهذه الدولة فلا ينبغي أن أزور كنيسة ولا مسجداً إذا
كان الدستور يقول إن الدولة منفصلة عن الدين، ومن ثَمَّ تنفصل عنه هيئة الدولة
وعلى ذلك: ينبغي ألا أدخل مسجداً ولا كنيسة، أو إذا دخلت كنيسة فعليَّ أن أدخل
المسجد والمعبد البوذي والكنيس اليهودي على حد سواء دون تمييز، والأفضل
الامتناع عن ذلك. يمكن أن نهنئ بالمناسبات الدينية أصحاب كل دين ولكن دون
المشاركة الشخصية، هذا إذا كانت الدولة علمانية، ولكن في بعض الأحيان تحدث
تجاوزات لهذه الحدود عندنا.